طقوس الكتابة وأماكنها لدى مشاهير الأدباء
كتب حسّونة المصباحي: في أيّ وضع يحبّ الكاتب أن يكتب، وفي أيّ مكان؟ الجواب عن هذا السؤال يأتي بحسب الأمزجة والطبائع والعادات. فلوبير، أوّل مؤسس للحداثة في مجال الرواية، مجترحاً كلّ كلمة يكتبها «من لحمه»، كان يحدث ضجيجاً عالياً في الغرفة التي كان يكتب فيها، والتي يكون قد أحكم إغلاقها لكأنه يخوض معركة ضارية مع أعداء الدّاء، أو مع لصوص اقتحموا بيته وهو في غفلة من أمرهم.
ضجيج فلوبير كان فلوبير مؤلف رواية «مدام بوفاري»، يحبّ وهو مستغرق في الكتابة أن يروح ويجيء في الغرفة المغلقة، ضارباً الأرض بقدميه، متفوّها بكلمات يرغب في معرفة مدى موسيقيّتها وصداها لدى القرّاء، لاعناً، باكياً، مطلقاً الأنين والصراخ، مردّداً أبياتاً من الشعر القديم تعينه على نحت جملة من جمله. وعندما سأل الخدم زوجته عمّا يحدث في غرفة «السيد فلوبير»، أجابت: «السيد بصدد تهذيب أسلوبه».
عزلة بروست
كان مارسيل بروست مصاباً بالربو، وكان ذا حساسيّة مفرطة، لذا كان يحبّ أن يكتب بعد أن يكون سدّ كلّ المنافذ، مغطّيا جدران الغرفة بالورق الناعم كي لا يتسرّب إليه أيّ شيء يمكن أن يخدش سمعه، ويكدّر راحته. وكان يكتب مرتدياً ثياب النوم ومنتعلاً خفّاً. وعندما تضيق به العزلة يخرج للسهر في بعض الأماكن المشبوهة التي يرتادها المهووسون بالجنس والمتع المحرّمة. وذات مرّة عاد برضوض في وجهه، وكان واضحاً أن أحداً سدّد له لكمات قويّة، فلمّا سألته الخادمة عن الأمر أجابها باسماً: «يحدث هذا من وقت إلى آخر!».
جويس بين الحانات
كان جويس يكتب في غرفة ضيقة جداً، مرتدياً بدلة بيضاء كتلك التي يرتديها الأطباء والممرضون. و»اختطف» جيمس جويس نورا بارناكل فائقة الجمال التي كانت تعمل في فندق في دبلن، ومعها انطلق إلى مدينة ترياست الإيطالية على ساحل البحر الأدرياتيكي، حيث عمل هناك مدرّساً للغة الأنكليزية، وعاش حياة كابد فيها أقسى ألوان العذاب والشقاء. مع ذلك أنهى مجموعته القصصية «أناس من دبلن»، وروايته «صورة الفنان شاباً»، وشرع في كتابة أثره المشهور «أوليسيس». وكان يكتب في غرفته الضيّقة، مرتدياً بِذلة بيضاء كتلك التي يرتديها الأطباء والممرضون.
كان مؤلّف تحفة «أوليسيس» يحبّ أن يكتب في النهار، حتى إذا ما جنّ الليل انطلق إلى الحانات ليحتسي نبيذه الأبيض المفضّل. وبين الحين والآخر يسجل في دفتر صغير ما يسمعه من طرائف وحكايات. وعندما استقرّ في باريس في العشرينات من القرن الفائت، كان يرتاد حانات «مونبارناس» و»الحي اللاتيني» متلافياً الالتقاء بالكتاب والشعراء الذين كانوا يقيمون حينذاك في العاصمة الفرنسية. وكان يُشاهَد دائماً وحيداً، أو مع عائلته. وعشقت ابنته لوسي الكاتب المسرحي صامويل بيكيت الذي كان كاتبه الخاص، غير أن مؤلف «في انتظار غودو» لم يستجب لعواطفها، ففسدت العلاقة بين المبدعين الكبيرين، ودخلت لوسي المصحّ العقليّ لتمكث فيه حتى وفاتها وقد تجاوزت سنّ الثمانين.
أبولينير في المطبخ… وجينيه في السجن
أقام الشـاعر غيوم أبولينير في شقّة في أربع غرف، وكانت ذات شرفة فسيحة تطلّ على بولفـــار «سان وجارمان دوبريه»، غير أنه كان يفضّل الكتابة في المطبخ على طاولة صغيرة من الخشب الأبيض. وكان يعشق معاشرة حبيباته بعد أن يكون قرأ عليهن قصائده التي لم تكن مكتملة بعد.
في جانب آخر، وحين استقرّ المقام بالشاعر والروائي بليز ساندرارس في الجنوب الفرنسي، لم يكن يكتب في الطبقة الأولى من مسكنه المطلّ على حقول شاسعة، بل في الغرفة السفليّة التي تنفتح على جدار الحديقة. كان يقول: «لم أعرف إلاّ كاتباً واحداً يعشق الكتابة أمام المشاهد البانورامية، وهو ستاندال الذي كان مفتوناً بعظمة نابليون».
أمّا في السجن فكتب جان جينيه كتابه المشهور «مذكرات لص»، والعديد من الأعمال الأخرى، وتلك الأعمال هي التي أقنعت القضاة الفرنسيين بإطلاق سراحه بعدما كان محكوماً بالمؤبّد. ويقول الكاتب النمساوي بيتر هاندكه إنه يحب أن يكتب في الفنادق وفي غرفة تكون مفتوحة النوافذ على ضجيج الشارع.
بينما كان سارتر يتخيّر الكتابة في مقاهي سان جيرمان دوبريه الأنيقة، وفيها أنجز العديد من أعماله الفلسفية والروائية. ومثل صديقه اللدود ألبير كامو، لم يكن يستطيع الكتابة من دون سجائر «الغولواز» القوية.
أما الكاتب الألماني توماس مان فلم يكن يجلس أمام الورقة البيضاء إلاّ بعد أن يحلق ويتعطر ويلبس بدلة فاخرة كأنه ذاهب إلى حفل رسميّ!