أسئلة المثقف… والخطاب الطائفي والعنصري!
نظام مارديني
هل يوجد تحريض وخطاب كراهية مثل هذا الذي نشهده راهناً من قبل جمهور المثقفين في وطننا السوري وعالمنا العربي؟
نعم، فالجرح الأخلاقي والعنف التطهيري أو إعادة بناء مجال الوحشية العنصرية العرقية والمذهبية أخذ بعداً خطيراً لدى قسم هام من المثقفين ما بعد الحرب العدوانية على كل من سورية وقبلها العراق ووصلت شظايا هذه الحرب العنصرية إلى لبنان، وكل ذلك يأتي تحت يافطة استبداد النظام. ولكن «عبثًا يحاولون التطهّر بأن يتلوّثوا بالدم، مثل رجل بعد أن يستحمّ بالوَحل يريد أن ينظّف جسده بالوحل! ومَن يلاحظه يفعل ذلك يظنه قد مسّه خبل بالتأكيد!»، كما يقول «هيراقليطس». فهل مسّ الخبل رؤوس مثقفينا؟
مشكلة بعض المثقفين في عالمنا العربي ووطننا السوري وفي زمن الفضاءات الرقمية، أن كلمتهم وما يكتبونه حول هوياتهم الفرعية، العرقية، الطائفية، تصل آلاف المواطنين ويمكن أن يتأثر بها مئات الشباب، ولذا ليس من الغريب أن تجد التعليقات التي ترافق تغريداتهم بين مؤيد ومستنكر، بل وبعضها يوضع عليها الكثير من التوابل والشتائم العنصرية، من غير استنكار أو حذف أو تعقيب من المثقفين الذين يحملون هموم مجتمعهم وليس هموم طوائفهم وأعراقهم!
إن محاولات تقويض الدولة الكليانية القومية وتفكيك مؤسساتها، أحدثت سلسلة من المتغيرات الجوهرية في العقد الاجتماعي للجماعات وظهرت على المسرح بغطاء دولي وإقليمي، رافق ذلك ظهور سيرورات من التمركز حول الهويات الفرعية الطوائفية والإثنية، ودخول هذا التمزق المجتمعي الحيِّزَ السياسي، رغم أن هذا الانبعاث الهوياتي له مبرراته التأريخية والسوسيولوجية، إلا أنه لم يؤدّ إلى فتح النقاش بين النخب السياسية والثقافية والفكرية العراقية في شأن ماهية الهوية وجدل الهويات الفرعية، بسبب العجز المعرفي لهذه الجماعات والضجيج والفوضى السياسية التي تلت سنوات الأزمة التي بدأت باحتلال العراق العام 2003 وما زالت مستمرة وانتقلت إلى سورية منذ العام 2011، فلم تقدِّم النخب إجابات واضحة بشأن نظام العقد الاجتماعي، وتحايلت على سؤال الهوية عبر سلسلة من عمليات «الإقصاء» و«التبرير» و«التجاهل» وأن تغييب كل خلاف فكري وثقافي ومرجعي، سيشكل مقدمة لصدام الهويات الطائفية والعرقية داخل الجسم السياسي لكل من الدولة السورية والعراقية.
هذه التوزيعات تمّت تحت ضغط ديناميات الجماعات العرقية والطائفية للمتحدين العراقي والسوري، ما أدّى إلى نمو العنف الجماعي الذي تشكل كنزاعات عنصرية. هذه النزاعات ستشكل أزمة بنيوية مستديمة في حقل السلطة.
وتجد هذه الجماعات إشباعاتها في الأرضية التقليدية للبنى الاقتصادية والاجتماعية والأيديولوجية والسياسية وضعف الحراك الفكري وعدم تكوين الدولة الحديثة وتخطيطات الهوية الغامضة، حيث تحوّلت الطائفية والعرقية إلى نواة مطلقة للعنف والعنف الجماعي وأداة استراتيجية للسيطرة السياسية بين الجماعات.
إننا إذاً أمام «عنف بنيوي» قائم على المقدس الديني الطائفي المنغلق من جهة، وعلى رؤية عصبوية عرقية صلبة من جهة أخرى.
لقد نشأت في مجتمعنا ثقافة يسود فيها الخلاف، بمعنى مخالفة كل ما يعارض أفكارنا وميولنا، وقد ترسخت تلك الثقافة في اللاشعور نتيجة لما عشعش في أدمغتنا وأثر في سلوكنا بسبب الأنظمة والزعامات السياسية الأحادية والمهيمنة التي حكمت وما يزال معظمها يحكم. فالكل في واحد، والواحد هو الحاكم الملهم المسيطر المفوّه ذو الكاريزما الطاغية، الذي إن مات أو قتل ضاع الرمز، وتاهت القضية.
وأصبح الحق في عصرنا كلمة مطاطة، يقولها كل مثقف، فنجده يدّعي أنه يمثل الحق أو أنه سالك طريقه، معززاً ما يذهب إليه بأخبار مفارقة للواقع وفيها غرائبية، ويعزز أقواله بدحض كل الآراء الأخرى مكذباً مصادر الآخر، بينما تكون مصادره هو لا يرقى إليها الشك ولا يأتيها الباطل لا من بين يديها ولا من خلفها أبداً!
وسط هذه الهستيريا تبدو الرؤية العقلانية للمثقف صعبة ومشوشة، بل وفكرة الحرب اللاعقلانية هي الأكثر حضوراً، والأكثر تعبيراً عن مواقف المثقفين وهوسهم بتغيير المعادلات على الأرض. وما يحدث في وطننا السوري اليوم يكشف عن هذه المعطيات، وبما يضع المنطقة عند حافة الجحيم، مثلما يكشف – أيضاً – ضعف الحكومات في التعاطي الواقعي مع معالجة الأزمات والصراعات الأهلية، وعلى القبول بالاختلاف والتنوع السياسي، لكن أخطر ما في الأمر أن يتحول هذا الصراع الى ما يشبه «حرباً كونية» بين المثقفين وهم مدركون أن صناعة الحرب لا تشبه صناعة السلام المجتمعي. فهل وقع المثقفون في فخ «العبودية المختارة»، كما أسماها «دي لابواسييه» كاتب فرنسي توفي في العام 1562 عن عمر 32 سنة قبل ما يقرب من خمسة قرون؟ أو في الانصياع كلياً لثقافة الانعزال ونحن على أعتاب القرن الحادي والعشرين، قرن التحولات المعرفية الهائلة والكشوف العلمية؟
من المؤسف حقاً أن شعبنا في سورية الطبيعية ما زال يلوك الأسئلة ذاتها بالفواعل الحقيقية للاستبداد ومتابعة جذوره ومنابعه بغية تجفيفه، ولكن هل تتم معالجة استبداد الدولة باستبداد طائفي وعرقي؟ وهل تتم مواجهة الفضاء الواسع للدولة بـ «جغرافيات مذهبية وعرقية استبدادية»؟ إن المثقف في وطننا أمام متاهة غير واقعية.
إن الحل الأوحد لكل هذه «الغرائبية الثقافية» هو تنمية ثقافة الاختلاف خاصة لدى الأجيال الجديدة، فهي وحدها القادرة على فتح آفاق جديدة رحبة لنا جميعاً ضمن منطق تقبل الآراء الأخرى، والاستفادة منها، بل وتحويلها إلى فكر مستنير تشترك فيه عقول متمايزة.
ختاماً، أمام المثقفين اليوم هناك حاجة ملحة لمثل هذه المكاشفات بل نحتاج ورشاً متخصصة وعملاً ميدانياً ينتقل بجهدنا من الانعزال الثقافي إلى مدى التفاعل القومي المفتوح واعتبار الواقع هو المعيار لوصف التجارب التي نقيمها بالفشل أو النجاح، هذا ما نتوخاه فعلاً وما نأمله.