سياسة الرقص على حافة الهاوية ١

عصام الحسيني

في مرحلة ما قبل التشكُّلات الاجتماعية، عاش الإنسان الأول في عالم فردانيته، متحرِّراً من الروابط والضوابط الاجتماعية، في عالم «الأنا» خاصته، والتي لم ترتق إلى التعبير عن إنسان «أرسطو»، المتجسّد في اجتماعيته، كمظهر من مظاهر ارتقاء الأجناس الحية.

لكنّ هذه السيرورة المُرتقية، لم تكن ناصعة النقاوة، وإن كانت ساحرة التحوُّل، من عالم اللاتاريخ، إلى تاريخ العالم، حيث كُتب فصلٌ جديد من تاريخ البشرية، تضمّن مفاهيم جديدة في العلاقات الإنسانية، بكلّ ما فيها من صور الحضارة، لكن بواقعية التفاصيل، وليس بمثالية التصوُّر.

ولما كان النقاء من مثاليات «أفلاطون»، فقد حمل هذا التشكل الاجتماعي الجديد، الكثير من العقد والأمراض والأزمات النفسية، المرتبطة بطبيعة «الأنا» وما يدور حولها، والمصاحبة لتطور المجتمعات في تكونها الاقتصادي، أزمات ناتجة عن حدود هذه «الأنا»، وعن لا حدودها.

لقد كُتبَ، ويُكتبُ، تاريخ الإنسان الحضاري عبر الزمن، بكلّ ما فيه من صور مُشرقة زاهية، وبكلّ ما فيه من صور مظلمة حالكة، بألوان تعبّر عن واقعية العالم الذي نعيشه، وكيفية تعلمنا مواجهة أخطاره وتحدياته، وكيفية الاستفادة من تجاربنا الغنية المتعدّدة، في رحلتنا الإنسانية الطويلة، كمظهر من مظاهر الوعي، المتأصل في ثقافة وفكر الإنسان الخلاق.

لكن:

هل إنّ عامل الوعي المتشكِّل في ثقافتنا وفكرنا، كان منسجماً مع طبيعة العلاقات الإنسانية؟ وهل كان هذا الوعي، مترافقاً مع التطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي؟ وهل استطاعت المجتمعات العاقلة، أن تتخلص من ترسُّبات «الأنا» الشخصانية، لترتقي إلى مفهوم «أنا» الجماعة المجتمعية والوطنية والقومية؟

من هنا ندخل إلى مفهوم تغليب مصلحة «الأنا» المؤلّهة، على مفهوم «الأنا» الجماعة والوطن، وما يترافق مع ذلك من ممارسات لاإنسانية، عرفتها المجتمعات القديمة تحت مسمّى «الخيانة»، وعرفتها المجتمعات الحديثة، تحت مُسمّيات متعدِّدة، لكنها تُختصر بـ «الخيانة» أو «الغدر» أو «الجداع» أو «الاستقواء» بالآخر على الآخر.

ولهذه الظاهرة اللاإنسانية، فلسفتها الخاصة التي تبررها، وأيديولوجيتها التي تنظر إليها، والتي تحولها من فكرة نكرة، إلى ممارسة لفضيلة شخصية ووطنية واجبة، حتى أنّها تحولت إلى مدرسة في فنّ الخيانة والغدر والخداع، وهو ما عبّر عنه القول المشهور: الغاية تبرِّر الوسيلة.

لكنها في الواقع، لا يمكن أن تخرج عن إطار الحالة السيكولوجية النفسية المرضية، والتي تستوجب دراسة سوسيولوجية علمية موضوعية، لتبيان الأسباب الاجتماعية الدافعة والفاعلة، والعلاج الممكن والمتاح، لأنّ المُتضرر ليس شخص «الأنا» بمفرده، إنما المحيط الاجتماعي بكلّ تلاوينه، أي «أنا» الجماعة.

وعبر التاريخ، عرفت هذه الظاهرة المرضية، العديد من الصور القاتمة، كان أبشعها وأقساها:

ـ خيانة بروتوس لعمّه يوليوس قيصر، مؤسس الإمبراطورية الرومانية، وجملته المحزنة عندما طعنه: حتى أنت يا بروتوس؟

ـ خيانة يهوذا الاسخريوطي لمعلمه السيد المسيح حين باعه للرومان، ولسخرية القدر أنّ القبلة كانت عنوان الغدر، حين خاطبه السيد «المسيح» بالقول: أبقبلة تسلم ابن البشر؟

وبالعودة إلى واقعنا اللبناني المعاصر، نرى أنّ هذه الظاهرة المرضية، هي ظاهرة مُتأصِّلة في تاريخ ثقافتنا الاجتماعية، انطلاقاً من بداية تشكل ملامح النظام السياسي القديم، لما يعرف «بإمارة جبل لبنان»، وصولاً إلى هذه اللحظة الحرجة من تاريخنا، وما فيها من إشكالية «اللادولة»، حيث أنّ الشعار المرفوع «العبور إلى الدولة»، أصبح «العبور على الدولة».

وللصدف الغريبة، أن تأليف كتاب «التاريخ الوطني» التربوي، لم يحظ بالموافقة السياسية على مضمونه، وهو الذي المفترض أن يكون موضع إجماع وطني عام، نظراً إلى الانقسام العامودي الحاد، حول تحليل وفهم وطني ملتبس، لمقاربة القضايا التاريخية المطروحة، والتي قد تحتمل التفاسير المتناقضة.

فمن الأمير فخر الدين، إلى الأمير بشير، وصولاً إلى قيادات وسياسات واقعنا المعاصر، كانت الاستعانة بالآخر، ونصرة «الأنا» الضيقة، على حساب «الأنا» الآخر الوطنية والقومية، هي السمة السياسية الأبرز من تاريخنا، بل ولعلها السمة المرضية المشتركة التي أوجدت لنفسها فلسفتها الخاصة التي تبرِّرها، والتي تشرعن واقعها، لا بل توصف وتُصوَّر على أنها السمة الأكثر وطنية.

من هنا جاء الانقسام حول تفسير هذه الظاهرة، انطلاقاً من المدرسة السياسية المؤسسة، والتي تشرعن وتُنظِّر للسياسات المنحرفة غير الوطنية وغير القومية، والتي ضمّت إلى صفوفها النخب الليبرالية، التي تثقفت من ثقافة الغرب، ولخدمة هذا الغرب الاستعماري.

وعليه، نستعرض لهذه الظاهرة المرضية المنحرفة، ظاهرة «الاستعانة بالآخر على الآخر»، منذ مرحلة تأسس النظام السياسي القديم، الذي يعرف «بإمارة جبل لبنان»، إلى لحظتنا السياسية المعاصرة:

فخر الدين المعني الثاني

تتلخص سياسته بالاستعانة بقوة خارجية أخرى، على خصومه في الداخل، وعلى التخلص من الحكم العثماني في الخارج، وبمبرّرات يعللها ويردُّها إلى الشعور والواجب الوطني.

فعلى الصعيد الداخلي، تخلّص فخر الدين الثاني من خصومه من آل فريج وآل سيفا، بالتحالف مع مراد باشا القبوجي والي دمشق، والزعيم الكردي علي باشا جانبولاد والي حلب.

ثم تخلص من آل حرفوش إثر معركة عنجر، بإيعاز من والي دمشق مصطفى باشا عام 1623.

وعلى الصعيد الخارجي، تحالف مع دوقية توسكانا، بموجب تحالف وبنود سرية، لتحرير بلاده من الحكم العثماني، وطلب من قزما الثاني قوة عسكرية، تشترك فيها أكثر الدول الأوروبية، ليُكتب للحملة العسكرية النجاح، لهزيمة المحتلّ العثماني.

وطبعاً، فإنّ احتضان توسكانة لفخر الدين، أتى بناء على مصالحها الخاصة، والتي تتلّخص في طمعها في المستعمرات العثمانية، وليس محبّة بالأمير اللبناني.

غير أنّ المعادلات الدولية، عندما أخرجته من دائرة الاهتمام الدولي عند الضرورة، رمته إلى فكّ المحتلّ العثماني، حيث تمّ إعدامه خنقاً مع أولاده.

وقد برّر فخر الدين تحالفه مع أوروبا لمحاربة السلطنة العثمانية وتحرير بلاده من نير احتلالها، بـ «الواجب الوطني الكبير»، على قاعدة: الغاية تبرِّر الوسيلة.

بشير الثاني الشهابي الكبير

إنّ السياسة التي اتّبعها الأمير بشير، هي سياسة مُشابهة لسياسة الأمير فخر الدين، وتتلخّص في الاستعانة بالقوة الخارجية، على أخصامه في الداخل، وعلى الدولة العثمانية في الخارج.

فعلى الصعيد الداخلي، تخلص بشير الثاني من الأمير يوسف قريبه، بالاستعانة ودعم من الجزار والي عكا، علماً أنّ الأمير يوسف كان قد تنازل عن كرسي الإمارة له.

ثم انتقم من آل نكد، وطارد أبناء الأمير يوسف، ونكّل بمن وقع بين يديه من أتباعهم، وأنزل ألوان العذاب والإذلال بعد عودته الثانية، وبدعم من الجزّار والي عكا.

وبعد موت الجزّار، وعودته الرابعة إلى الحكم، تخلّص من أقربائه الشهابين، الذين نافسوه أو ناصروا منافسيه في الحكم، حيث سمل عيون أبناء الأمير يوسف، وصادر أملاكهم، ومنعهم من الزواج، وقتل مستشاريهم ووزرائهم، وضيّق على أقربائه من الشهابين الذين يُحتمل أن يبرز من بينهم مرشح للإمارة، وصادر أملاكهم، وبدعم من والي عكا الجديد.

ثم قام بضرب الإقطاع، حيث عزل آل الخازن عن حكم كسروان، وقام بمصادرة أملاك آل تلحوق، وآل عبد الملك إقطاعي الغرب، كما نكّل بالأمراء الأرسلانيين.

ثم انقلب على صديقه الشيخ بشير جنبلاط، بعد صداقة ثلاثة عقود، وهزمه في معركة السمقانية عام 1825، وشنقه بعد أن هرب إلى حوران بواسطة عبد الله باشا والي عكا.

أما الأمراء الشهابيون الذين ناصروا الشيخ بشير جنبلاط، فاعتقلهم وانتقم منهم وسمل عيونهم وقطع أطراف ألسنتهم.

وعلى الصعيد الخارجي، تحالف بشير الثاني مع محمد علي باشا والي مصر، في وجه السلطنة العثمانية، ثم مع ابنه إبراهيم باشا، بغية التخلُّص من الحكم العثماني، والاستقلال بالإمارة، على أنها واجب وطني، فتمت مكافئته من الحكم المصري، بأن ترك له حرية التصرف في إمارته، ما أتاح له القدرة على الاقتصاص من خصومه ومن الاستقلال المرحلي عن الحكم العثماني، غير أنه أصبح أداة طيّعة في أيدي المصرين، ينفذ سياستهم من دون اعتراض، حتى قامت الاحتجاجات في وجهه، في معظم مناطق الإمارة.

وبعد هزيمة الجيش المصري، سقط حكم الأمير بشير، الذي راهن على دعمه، وارتبط عضوياً به، فانتقل مع أسرته وحاشيته، عبر بارجة بريطانية إلى المنفى في جزيرة مالطة المستعمرة البريطانية، ثم انتقل من بعدها إلى اسطنبول، ثم إلى داخل الأناضول، ثم إلى اسطنبول حيث توفي عام 1950.

الأسباب والتبريرات نفسها، التي قادت الأمير فخر الدين للتحالف مع توسكانة، هي الأسباب والتبريرات نفسها، التي قادت الأمير بشير للتحالف مع حاكم مصر، أكان ذلك على المستوى الداخلي، أو الخارجي، مع إدخال العنصر الوطني، كواجب وبطولة، وطبعاً على المبدأ القائل: الغاية تبرِّر الوسيلة.

وكانت نهاية الأميرين متشابهة من حيث النتيجة، على أرض السلطنة العثمانية، بين مخنوق ومنفي.

الجبهة اللبنانية

هي تحالف نشأ مع بداية الحرب الأهلية اللبنانية، مكون من مجموع الأحزاب والشخصيات اللبنانية اليمينية. تأسّس سنة 1976 لمواجهة «الحركة الوطنية اللبنانية» و»منظمة التحرير الفلسطينية»، وترأس الجبهة الرئيس الأسبق كميل شمعون وضمّت الأحزاب التالية:

حزب الكتائب، «تيار المردة»، «نمور الأحرار»، «حرّاس الأرز»، و»التنظيم».

انفصل «تيار المردة» عن الجبهة اللبنانية بعد اغتيال طوني فرنجية عام 1978، على يد قوات «الكتائب» بقيادة بشير الجميل، وتنفيذ سمير جعجع، وبإيعاز من العدو الصهيوني.

عسكرياً، قامت الجبهة اللبنانية، بتشكيل ما يُعرف اليوم بـ «القوات اللبنانية» تحت قيادة بشير الجميل، الذي سيطر، بدوره، على قراراتها، وحولها إلى هيئة إدارية إجتماعية، وصادر شخصيتها السياسية وألغاها.

وضعت «الجبهة اللبنانية» نظرية سقوط المحظورات الوطنية، أمام الضرورات القائمة، والمتمثلة بـ»الخطر الفلسطيني» المُتحالف مع «الحركة الوطنية اللبنانية.»

وعلى مبدأ «الغاية تبرِّر الوسيلة»، قامت «الجبهة اللبنانية» بالاتصال مع العدو الصهيوني، طالبة منه الدعم المادي والمعنوي، في حربها «المقدسة» ضدّ عدو الوطن والدّين، وتمّ الاستقواء بالعدو الصهيوني في وجه أبناء الوطن، تحت تبريرات وشعارات واهية، متجاوزة المدى الأخلاقي، إلى القانوني، والذي ينصّ عليه قانون العقوبات اللبناني، وهي جريمة الاتصال بالعدو، مع عقوبات تصل إلى حدّ الإعدام.

وقد طرح شعار، مُصاحب لمرحلة انكشاف الاتصال بالعدو، والاستقواء به يقول: «نتعامل مع الشيطان في وجه عدونا».

واستمر نهج التعامل مع العدو الصهيوني مع «القوات اللبنانية»، الوريث الشرعي الجبهة اللبنانية، والتي انتهى دورها عملياً منتصف الثمانينات، بقيادة كلّ من:

بشير الجميّل

استقوى بشير الجميل بالعدو الصهيوني، بأسلوب مشابه لاستقواء الأمير فخر الدين بدوقية توسكانة، ولاستقواء الأمير بشير بالحكم المصري، مع فارق قانوني، وهو حرمة الاتصال بالعدو، واعتبارها خيانة عظمى.

وقد استفاد بشير الجميل من هذا الاستقواء بالعدو الصهيوني، غير الأخلاقي وغير القانوني، على مستوين، داخلي وخارجي.

على الصعيد الداخلي، قام بشير الجميل باغتيال وتصفية كلّ الشخصيات والأحزاب المعارضة له في مناطق نفوذ «الجبهة اللبنانية» وهي شخصيات وأحزاب من حيث النظرية صديقة له، لتوحيد زعامته المطلقة، غير المتنازع عليها، وبغية « توحيد البندقية»، بحسب نظريته ومنها:

ـ مجزرة إهدن: حيث تمّت تصفية طوني فرنجية وزوجته وطفلته مع ثلاثين من أنصاره، على يد قوات بشير الجميل، بإيعاز وتوجيه من الموساد «الإسرائيلي»، وبقيادة سمير جعجع، الذي أُصيب قبل الوصول إلى إهدن، فعهد إلى أحد القادة الميدانين بالعملية.

وجاءت العملية، إثر خلاف وقع بين الرئيس سليمان فرنجية وباقي أعضاء «الجبهة اللبنانية»، حول الدور السوري، إضافة إلى التنافس بين الحزبين، والذي أدى إلى مقتل المسؤول الكتائبي جود البايع.

ـ مجزرة الصفرا:

حيث قامت قوات بشير الجميل، بالهجوم على مواقع صديقة مفترضة لمليشيا «النمور الأحرار»، بقيادة داني شمعون في 7 حزيران عام 1980، وتمّ القضاء عليها، وقُتل في العملية حوالي 84 عنصر شمعوني، إضافة إلى تصفية العديد من الشخصيات المستقلة، والتي من المفترض أن تكون شخصيات صديقة.

وعلى الصعيد الخارجي، قام بشير الجميل، وبدعم مباشر من العدو الصهيوني، بإدارة حرب مُفترضة ضدّ الجيش السوري الموجود بطلب رسمي من الدولة اللبنانية، وضدّ الوجود الفلسطيني، المدعوم من «الحركة الوطنية».

كان لقواته دور في الاجتياح «الإسرائيلي» للبنان عام 1982، والذي كان على علم مسبق به، حيث أبلغه وزير حرب العدو آرييل شارون بتاريخ وهدف العدوان.

كذلك تلقى دعماً من العدو الصهيوني، ومن الولايات المتحدة الأميركية، عندما رشّح نفسه لمنصب رئيس الجمهورية في آب عام 1982.

وكان قد اتفق مع وزير حرب العدو شارون في 12 آب، عندما اجتمع إليه سراً في منزله في بكفيا، على توقيع «معاهدة سلام» بين لبنان وكيان العدو الصهيوني.

وكانت مبرّرات التعامل والاستقواء بالعدو الصهيوني لبشير الجميل، نفسها المبرّرات التي تدخل في نظرية «الغاية تبرِّر الوسيلة»، مع إدخال عنصر إضافي، وهو العنصر الديني الثقافي، لإعطاء مبرِّر شرعي، يدخل في صلب ثقافة «الأنا» المهدَّدة من «الأنا» الشرقية المسلمة.

وبرزت شعارات تحاكي طبيعة المرحلة، لتشدّ من عزيمة وعضد الجانب الثقافي الديني، لاستعماله في الحرب القائمة، ولأغراض سياسية منحرفة، وهي شعارات المتاجرة بالدين، مثل شعار «أمن المجتمع المسيحي فوق كلّ اعتبار»، وشعار «احمل صليبك واتبعني»، وغيرها من الشعارات الطائفية البغيضة، البعيدة عن ثقافة الشرق وعن حضارته المُشعة… حضارة الحرف والكلمة.

ارتكب بشير الجميل جريمة الاستقواء بالخارج، لتحقيق طموحاته الشخصية، في تكريس زعامته على حساب أبناء وطنه، وهي جريمة الاستقواء غير الأخلاقية. كما ارتكب جريمة الاتصال بالعدو الصهيوني، عدو الإنسانية، وعدو الوطن، وعدو الأمة، وهي جريمة الخيانة العظمى، حيث يُحاسب عليها القانون بأشدّ العقوبات، بالإضافة إلى جريمة استعمال العامل الديني في الصراع، وتجييره إلى أغراض سياسية، وهي تعبير عن انحطاط أخلاقي كبير، وتزييف لحضارة الشرق، موطن الأديان السماوية،

وكلّ ذلك تحت تبرير وتعليل وطني وقومي وأخلاقي، وحيث أنّ «الغاية تبرر الوسيلة»، وحيث أننا «سنتعامل مع الشيطان في وجه عدونا».

سمير جعجع

والذي وصل إلى قيادة القوات اللبنانية، عبر انقلابات متتالية، وهو يعتبر امتداد لخط بشير الجميل، وصورة مكرّرة لنمط أسلافه، من الجبهة اللبنانية، إن كان ذلك من حيث الأهداف، أو الشعارات، أو المبرّرات.

لقد استقوى سمير جعجع بالخارج، لنفس الأسباب التي استقوى بشير بها، حيث استفاد على مستوين:

على المستوى الداخلي، استطاع أن يتخلص من خصومه، المفترض أنهم أصدقاؤه، ومن الخط الحزبي الواحد، ويثبت زعامته على قيادة القوات اللبنانية، عبر انتفاضات عديدة هي:

الانتفاضة الأولى: على رئيس مليشيا القوات فؤاد أبو ناضر، بالتعاون مع كريم بقرادوني، وإيلي حبيقة عام 1985.

الانتفاضة الثانية: على إيلي حبيقة عام 1986 بعد توقيع الأخير الاتفاق الثلاثي وتولّيه قيادة «القوات».

إضافة إلى ذلك، فإنّ سمير جعجع، متهم باغتيال وتصفية العديد من الشخصيات المحسوبة على خط القوات أو المقربة منه، في إطار الصراع على النفوذ والتفرد بالسلطة والزعامة.

وعلى المستوى الخارجي، رفع سمير جعجع الشعارات نفسها التي رفعها بشير الجميل، من «أمن المجتمع المسيحي فوق كلّ اعتبار»، و»احمل صليبك واتبعني»، إضافة إلى رسمه قاعدة الصليب وكأنها سيوف مسنّنة.

خاض جعجع حرب الجبل المدمرة، واتُّهم بالكثير من الجرائم منها:

ـ تسليمه عدداً من المخطوفين لدى «القوات» إلى كيان العدو الصهيوني في 5 أيار عام 1990 بعد اتفاق الطائف، على متن بارجة عسكرية للعدو نقلتهم إلى ميناء حيفا، ليتمّ الإفراج عنهم لاحقاً في نيسان عام 2004 إثر عملية تبادل بين المقاومة والعدو الصهيوني.

ـ ملف الدبلوماسيين الإيرانيين الأربعة، الذين اختطفوا على حاجز «القوات» عام 1982 وسُلِّموا لـ»إسرائيل».

عام 1994، سُجن جعجع على خلفية اتهامه بتفجير كنيسة سيدة النجاة في كسروان، حيث حصل على البراءة منها، إلا أنه حُوكم بتهمة اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رشيد كرامي، وجريمة اغتيال داني شمعون، ليُطلق سراحه عام 2005 بموجب عفو خاص.

يوجد الكثير من الجرائم المنسوبة إلى جعجع، لكنّ أخطرها الجرائم التي لم يُحاكم عليها، وهي جريمة الاتصال بالعدو الصهيوني، والتآمر على تراب ووحدة الوطن، والتي تُعتبر من جرائم الخيانة العظمى الأخلاقية والوطنية، والتي تستوجب عقوبة الإعدام.

يقول سمير جعجع إنه كان يأخذ السلاح من «إسرائيل» وأغلق تجارته معها قبل نهاية الحرب اللبنانية.

إنّ مواد محاكمة العملاء في القانون اللبناني، لجهة التعامل مع العدو، هي مواد متشدّدة، ولا تسقط مع مرور الزمن، لأنها تدخل في مواد الإرهاب والتآمر على أمن الدولة، خاصّة في المواد: 273 و 274 و 275 و 276 و 278 و 284 و 285 .

إنّ مسيرة الاستقواء بالآخر، على الآخر، الشخص المعنوي أو الوطن أو الأمة، جريمة مضاعفة بكلّ المعاير، الإنسانية والأخلاقية والقانونية، وهي تبرير لا مبرر، لجريمة تكبر بها.

ما قام به سمير جعجع هو استمرار لنهج متبع من أسلافه من التضليل والخداع والتعمية، بشعارات مزيفة، لاستغلال شخصي، ولأهداف غير نبيلة، لكن بصورة معكوسة، ظاهرها وطني بامتياز، وهو الحرب على الاحتلال السوري، وباطنها تكريس العمالة للعدو الصهيوني. غير أنّ من غير المفهوم لدى المراقب والمواطن اللبناني، نقطتين أساسيتين تتصلان بموضوع الوطن وهما:

النقطة الأولى: لماذا لم يُحاكَم سمير جعجع، عن جرائم التعامل والاتصال بالعدو الصهيوني، وهي جرائم تدخل في مواد محاكمة العملاء، وفي الخيانة العظمى؟

إذا كان الوضع القائم زمن بشير الجميل، زمن الاحتلال «الإسرائيلي»، لا يُتيح ذلك، فما هو العائق أمام محاكمة سمير جعجع في زمن آخر، غير الزمن «الإسرائيلي»؟

النقطة الثانية: كيف يُمكن لمن حُكم عليه بالإعدام، على جرائم ارتكبها، بحقّ الوطن والمواطن، ونال عفواً نيابياً خاصاً لخروجه من السجن، ويُعرف عنه تعامله مع العدو الصهيوني، أن يترشح لمنصب رئاسة الجمهورية، المنصب الدستوري الأول في الدولة، من دون أي مانع قانوني معترض، على هذه المسرحية المأساة.

لقد تمسّك سمير جعجع بالمثل المتبع من أسلافه «الغاية تبرِّر الوسيلة»، لكنه أضاف عليه مثلاً آخر هو «إن لم تستح فافعل ما شئت».

ويستمر دور سمير جعجع مع قوى جديدة، كحلقة وصل من مرحلة «الجبهة اللبنانية»، إلى جبهة تُشبهها في المضمون تُدعى قوى 14 آذار.

الجبهة اللبنانية وفروعها القواتية، استعانت بأعداء لبنان، للتخلص من الجيش السوري، والوجود الفلسطيني، إشكالية الأمير فخر الدين، والأمير بشير الثاني.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى