سياسة الرقص على حافة الهاوية 2
عصام الحسيني
في مرحلة ما قبل التشكُّلات الاجتماعية، عاش الإنسان الأول في عالم فردانيته، متحرِّراً من الروابط والضوابط الاجتماعية، في عالم «الأنا» خاصته، والتي لم ترتق إلى التعبير عن إنسان «أرسطو»، المتجسّد في اجتماعيته، كمظهر من مظاهر ارتقاء الأجناس الحية.
لكنّ هذه السيرورة المُرتقية، لم تكن ناصعة النقاوة، وإن كانت ساحرة التحوُّل، من عالم اللاتاريخ، إلى تاريخ العالم، حيث كُتب فصلٌ جديد من تاريخ البشرية، تضمّن مفاهيم جديدة في العلاقات الإنسانية، بكلّ ما فيها من صور الحضارة، لكن بواقعية التفاصيل، وليس بمثالية التصوُّر.
ولما كان النقاء من مثاليات «أفلاطون»، فقد حمل هذا التشكل الاجتماعي الجديد، الكثير من العقد والأمراض والأزمات النفسية، المرتبطة بطبيعة «الأنا» وما يدور حولها، والمصاحبة لتطور المجتمعات في تكونها الاقتصادي، أزمات ناتجة عن حدود هذه «الأنا»، وعن لا حدودها.
لقد كُتبَ، ويُكتبُ، تاريخ الإنسان الحضاري عبر الزمن، بكلّ ما فيه من صور مُشرقة زاهية، وبكلّ ما فيه من صور مظلمة حالكة، بألوان تعبّر عن واقعية العالم الذي نعيشه، وكيفية تعلمنا مواجهة أخطاره وتحدياته، وكيفية الاستفادة من تجاربنا الغنية المتعدّدة، في رحلتنا الإنسانية الطويلة، كمظهر من مظاهر الوعي، المتأصل في ثقافة وفكر الإنسان الخلاق.
لكن:
هل إنّ عامل الوعي المتشكِّل في ثقافتنا وفكرنا، كان منسجماً مع طبيعة العلاقات الإنسانية؟ وهل كان هذا الوعي، مترافقاً مع التطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي؟ وهل استطاعت المجتمعات العاقلة، أن تتخلص من ترسُّبات «الأنا» الشخصانية، لترتقي إلى مفهوم «أنا» الجماعة المجتمعية والوطنية والقومية؟
من هنا ندخل إلى مفهوم تغليب مصلحة «الأنا» المؤلّهة، على مفهوم «الأنا» الجماعة والوطن، وما يترافق مع ذلك من ممارسات لاإنسانية، عرفتها المجتمعات القديمة تحت مسمّى «الخيانة»، وعرفتها المجتمعات الحديثة، تحت مُسمّيات متعدِّدة، لكنها تُختصر بـ «الخيانة» أو «الغدر» أو «الجداع» أو «الاستقواء» بالآخر على الآخر.
ولهذه الظاهرة اللاإنسانية، فلسفتها الخاصة التي تبررها، وأيديولوجيتها التي تنظر إليها، والتي تحولها من فكرة نكرة، إلى ممارسة لفضيلة شخصية ووطنية واجبة، حتى أنّها تحولت إلى مدرسة في فنّ الخيانة والغدر والخداع، وهو ما عبّر عنه القول المشهور: الغاية تبرِّر الوسيلة.
لكنها في الواقع، لا يمكن أن تخرج عن إطار الحالة السيكولوجية النفسية المرضية، والتي تستوجب دراسة سوسيولوجية علمية موضوعية، لتبيان الأسباب الاجتماعية الدافعة والفاعلة، والعلاج الممكن والمتاح، لأنّ المُتضرر ليس شخص «الأنا» بمفرده، إنما المحيط الاجتماعي بكلّ تلاوينه، أي «أنا» الجماعة.
وعبر التاريخ، عرفت هذه الظاهرة المرضية، العديد من الصور القاتمة، كان أبشعها وأقساها:
ـ خيانة بروتوس لعمّه يوليوس قيصر، مؤسس الإمبراطورية الرومانية، وجملته المحزنة عندما طعنه: حتى أنت يا بروتوس؟
ـ خيانة يهوذا الاسخريوطي لمعلمه السيد المسيح حين باعه للرومان، ولسخرية القدر أنّ القبلة كانت عنوان الغدر، حين خاطبه السيد «المسيح» بالقول: أبقبلة تسلم ابن البشر؟
وبالعودة إلى واقعنا اللبناني المعاصر، نرى أنّ هذه الظاهرة المرضية، هي ظاهرة مُتأصِّلة في تاريخ ثقافتنا الاجتماعية، انطلاقاً من بداية تشكل ملامح النظام السياسي القديم، لما يعرف «بإمارة جبل لبنان»، وصولاً إلى هذه اللحظة الحرجة من تاريخنا، وما فيها من إشكالية «اللادولة»، حيث أنّ الشعار المرفوع «العبور إلى الدولة»، أصبح «العبور على الدولة».
وللصدف الغريبة، أن تأليف كتاب «التاريخ الوطني» التربوي، لم يحظ بالموافقة السياسية على مضمونه، وهو الذي المفترض أن يكون موضع إجماع وطني عام، نظراً إلى الانقسام العامودي الحاد، حول تحليل وفهم وطني ملتبس، لمقاربة القضايا التاريخية المطروحة، والتي قد تحتمل التفاسير المتناقضة.
فمن الأمير فخر الدين، إلى الأمير بشير، وصولاً إلى قيادات وسياسات واقعنا المعاصر، كانت الاستعانة بالآخر، ونصرة «الأنا» الضيقة، على حساب «الأنا» الآخر الوطنية والقومية، هي السمة السياسية الأبرز من تاريخنا، بل ولعلها السمة المرضية المشتركة التي أوجدت لنفسها فلسفتها الخاصة التي تبرِّرها، والتي تشرعن واقعها، لا بل توصف وتُصوَّر على أنها السمة الأكثر وطنية.
من هنا جاء الانقسام حول تفسير هذه الظاهرة، انطلاقاً من المدرسة السياسية المؤسسة، والتي تشرعن وتُنظِّر للسياسات المنحرفة غير الوطنية وغير القومية، والتي ضمّت إلى صفوفها النخب الليبرالية، التي تثقفت من ثقافة الغرب، ولخدمة هذا الغرب الاستعماري.
وعليه، نستكمل استعراض هذه الظاهرة المرضية المنحرفة، ظاهرة «الاستعانة بالآخر على الآخر»، منذ مرحلة تأسس النظام السياسي القديم، الذي يعرف «بإمارة جبل لبنان»، إلى لحظتنا السياسية المعاصرة:
قوى 14 آذار:
هو تحالف سياسي، قام على مبدأ العداء للوجود السوري في لبنان، خاصة بعد اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، وتلقى الدعم الأساسي من فرنسا وأميركا والسعودية.
الأحزاب المنضوية تحت لوائه: «تيار المستقبل»، «الحزب التقدمي الاشتراكي»، «القوات اللبنانية»، «حزب الكتائب»، «قرنة شهوان»، «حزب الوطنين الأحرار»، «حركة التجدُّد الديمقراطي»، «الكتلة الوطنية اللبنانية»، «حركة اليسار الديمقراطي».
ترك الحزب الاشتراكي صفوف 14 آذار، إثر أحداث 7 أيار، واتخذ خطاً وسطياً، ولو أنه يرى نفسه في قلب 14 آذار.
من أبرز شخصياته: رئيس الوزراء الأسبق سعد الحريري، سمير جعجع، رئيس الجمهورية الأسبق أمين الجميل، النائب مروان حمادة، رئيس الوزراء الأسبق فؤاد السنيورة، النائب السابق الراحل نسيب لحود، النائب وليد جنبلاط، الوزيرة السابقة نائلة معوض، الوزير بطرس حرب، فارس سعيد.
بعد أن انسحب الجيش السوري من لبنان، بتاريخ 26 نيسان عام 2005، تحوّل مشروع 14 آذار نحو مواجهة سلاح المقاومة الإسلامية، بحجة عدم وجود ضرورة لوجود هذا السلاح بعد الانسحاب «الإسرائيلي» واعتباره سلاحاً غير شرعي، في خطة عمل مُنسّقة ممنهجة، اشتركت فيها كلّ مكونات هذا التحالف، وتمّ تصويره وإظهاره، على أنه يشكل الخطر الأساسي على الأمن والسلم الأهلي الداخلي.
واستقوى فريق 14 آذار، للنيل من حزب الله، بالقوى الخارجية الغربية، وبالرجعية العربية، كحالة متضرِّرة من وجود مقاومة عسكرية في وجه العدو الصهيوني، وكقوة سياسية فاعلة، تقف في وجه مخطّطات التسوية الجارية في المنطقة، وهي مرحلة التطبيع الاقتصادي بين العدو الصهيوني وقوى الرجعية العربية.
وترافق ذلك مع ما صرّح به مساعد وزيرة الخارجية الأميركية السفير جيفري فيلتمان بأنّ الإدارة الأميركية رصدت مبالغ مالية تُقدَّر بحوالي 500 مليون دولار، لتشويه صورة حزب الله لدى الشباب اللبناني.
وقد حصل حزب الله على لوائح إسمية من مصادر مُتعدِّدة، تتضمّن أسماء لشخصيات سياسية وإعلامية وحزبية بتلقي أموال أميركية، لتنفيذ مخطط تشويه صورة الحزب، في خطوة تُعتبر اعتداء وعدواناً من دولة عظمى على حزب سياسي شعبي فاعل، وباشتراك من يفترض أن يكونوا إخوة وأبناء الوطن الذين استقووا بالخارج، على أبناء وطنهم.
استقوت 14 آذار بالقوة الخارجية، على شريك في الوطن، لقاء مصالح خاصة بها، وبمصالح أعداء الوطن والأمة، من دون أن تدرك حجم التآمر الذي ترتكبه، والذي يرقى إلى مستوى الخيانة العظمى، ليس فقط في حقّ الوطن والمواطن، إنما كذلك في حقّ الأمة العربية كاملة، وعلى مستوى الصراع العربي ـ «الإسرائيلي»، لأنّ المقاومة هي تعبير عن «ضمير الأمة»، بكلّ أطيافها وطبقاتها وشرائحها.
تسريبات «ويكيليكس»
ولعلّ أبرز ما تمّ توثيقه عن حالة الاستقواء بالخارج الاستعماري، لقوى 14 آذار على أبناء الوطن، هو ما كشفته تسريبات «ويكيليكس»، عن أسرار حرب تموز عام 2006 وفيها:
1/4 وثيقة رقم 6958 تاريخ 7 آب 2007:
في الخامس من آب، التقى مساعد وزيرة الخارجية دايفيد والش والسفير فيلتمان، بقادة مسيحيين من حركة 14 آذار، بينهم: أمين الجميل، دوري شمعون، كارلوس إده، فارس سعيد، جورج عدوان، نايلة معوض، بطرس حرب، نسيب لحود، وبيار الجميل. دعموا فكرة مواصلة حملة القصف «الإسرائيلي» لأسبوع أو اثنين، إذا كان ذلك كفيلاً بإضعاف قوة حزب الله على الأرض. وحثّ عدد من القادة المجتمعين، على ضرورة دكّ «الإسرائيليين» لحزب الله دكّاً حقيقياً، إلى حدّ يجعل الحزب «ناعماً بما يكفي ليعود إلى رشده».
وعلى حدّ تعبير بطرس حرب: «إذا اقتنعنا بأنّ إسرائيل تستطيع إنهاء المهمّة، عندها يمكننا السماح بإطالة الحرب بضعة أسابيع إضافية».
2/4 وثيقة رقم 6855 بتاريخ 25 تموز 2006:
أوضح سمير جعجع لفيلتمان أنّ مفتاح تفكيك حزب الله كقوة عسكرية، يكمن في تحويله إلى مشكلة داخلية، وذلك من خلال إظهاره للشعب اللبناني، على أنه التهديد الذي تسبب بالكثير من الدمار لبلدهم. إنّ النتائج السياسية لهذا الضغط، بالإضافة إلى قضم الجيش «الإسرائيلي» لقدراته العسكرية، هو المسار الوحيد الذي يفيد في نزع سلاحه.
3/4 برقية صادرة عن السفارة الأميركية في بيروت بتاريخ 1 آب 2006:
حذر السنيورة فيلتمان، من كون الحكومتين اللبنانية و«الإسرائيلية» تغرقان في التفاصيل، وتوشكان على خسارة الهدف الرئيسي الذي يتمثل بالأمن والسلام لـ«إسرائيل»، وحزب الله منزوع السلاح والسلام للبنان.
4/4 برقية رقم 2706 بتاريخ 21 آب 2006:
اجتماع في 20 آب بين السفير فيلتمان، ورئيس الوزراء السابق سعد الحريري في قصره في قريطم. قال الحريري لفيلتمان: «ما أن يصبح للجيش بعض الأسنان وبعض المعنويات، نعد بضرب حزب الله وإسقاطه».
5/4 وثيقة رقم 2513 بتاريخ 1 آب 2006:
لقاء بين السفير فيلتمان والوزير بطرس حرب في منزله في بيروت:
أصرّ حرب على ضرورة منع حزب الله من الخروج من الحرب بوضعية قوة، لأنّ ذلك سيؤدي إلى مأساة في لبنان والمنطقة.
نصح حرب بأن يحصل تقدم «إسرائيلي» كبير، يسيطر على معاقل حزب الله في مارون الراس وبنت جبيل، ما سيمنح الولايات المتحدة فرصة لفرض وقف إطلاق نار، في الوقت الذي يظهر فيه حزب الله مغلوباً. واتفق على أنه لم يعد ممكناً السماح لحزب الله بجرّ لبنان إلى حرب، وأنه يجب تهميش أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله.
6/4 برقية رقم 7090 تاريخ 6 آب 2006:
الحضور: مساعد وزيرة الخارجية والش والسفير فيلتمان، والوزير مروان حمادة والنائب وليد جنبلاط، في عشاء استضافه حمادة:
حذر جنبلاط ممّا سماه، «قلة فعالية إسرائيل في العمليات البرية وفي الاستخبارات وهذا خطر على إسرائيل وعلى المنطقة».
وأشار جنبلاط إلى ضرورة أن يقوم الجيش «الإسرائيلي» بهجوم برّي مركز، يدمر حزب الله، أو يلحق به أذى كبيراً كي يوقف الحزب القتال.
وعن موضوع وقف إطلاق النار، قال حمادة: «هناك حاجة إلى مزيد من الدمار والاجتياح للجنوب الشيعي، إلى أن يتمكن قائد شيعي من القول يكفي قتالاً».
ورأى حمادة «أنّ احتلال القرى سيكون ضربة لحزب الله لأنّ كلّ القرى كانت مُحرّرة قبل بدء النزاع».
وقال جنبلاط في ردّ على فيلتمان: «يجب إضعاف سورية لتقوية لبنان».
7/4 برقية رقم 6742 تاريخ 17 تموز 2006:
في السادس عشر من تموز، التقى السفير فيلتمان بمبعوث الأمم المتحدة تيري رود لارسن، والممثل الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة في لبنان غير بيدرسن في اجتماع ليلي متأخر، ووصل من دون إخطار مُسبق، النائب وليد جنبلاط والوزير مروان حمادة والوزير غازي العريضي.
عّبر كلّ من جنبلاط وحمادة عن أملهما بأن تكمل «إسرائيل» عملياتها العسكرية حتى تتضرّر البنية التحتية العسكرية لحزب الله بشكل كبير، حتى لو عنى الأمر اجتياحاً برياً لجنوب لبنان.
وقال جنبلاط إنه «مضطر للمطالبة بوقف إطلاق النار في العلن، لكنه يرى القتال فرصة لهزيمة حزب الله».
اشتكى جنبلاط من مفارقة أنّ البنية العسكرية لحزب الله لم تُمسّ جدياً. ثم قال: «إنّ هزيمة حزب الله على يد إسرائيل، ستكون هزيمة للنفوذ السوري الإيراني في لبنان».
وعلق مروان حمادة بمرارة على أنّ تلفزيون المنار يستمر في البث، فيما البنية التحتية التي تتحكم بها 14 آذار كخطوط الهاتف الثابتة قد تضررت بشكل كبير.
8/4 برقية رقم 2553 تاريخ 8 آب 2006:
اجتماع بين السفير فيلتمان ووزير الدفاع الياس المر:
أعلن المر بوضوح، استعداد الجيش اللبناني للردّ على حزب الله، إذا حاول إطلاق النار على «إسرائيل» أو استدراجها للقصف، عبر نصبه راجمات للصواريخ قرب مواقع الجيش اللبناني.
وعن بيروت قال: «لن يتمكن حزب الله من إطلاق صاروخ من سوليدير. لدينا الكثير من الجنود هناك».
وادّعى أنّ الجيش اللبناني نجح قبل ثلاثة أيام في منع وصول شاحنة محملة بالصواريخ عائدة لحزب الله وأرسلها إلى وزارة الدفاع، رافضاً إعادتها إلى الحزب.
هذه بعض العيّنات التي مارسها فريق 14 آذار في حرب تموز والتي تبيّن حجم التأمر على المقاومة ضدّ العدو الصهيوني، عندما استقوى بالقوة الأجنبية العدوة على أبناء وطنه فتآمر وجيّش وحّرض في سقوط أخلاقي ووطني غير مسبوق.
وحالياً، يمارس هذا الفريق، السياسة نفسها مع الحرب التي تدور في سورية وعلى سورية، من تآمر مع الرجعية العربية ومع أعداء الأمة، في دور تاريخي لم يتغير حيث رسمه الاستعمار الغربي من تجمع للقطريات المشتتة لمنع قيام وحدة وطنية وقومية.
ويقوم بالتآمر والاستقواء على المقاومة الشريفة، التي أعطت للأمة العزة والكرامة، من خلال الاستقواء بالرجعية العربية، وهو يتحدّث بمفردات لا يفقهها، مثل «لبنان أولاً»، «ولن نسمح بتحويل لبنان إلى مقاطعة في ولاية الفقيه»، و «نحن عرب»، وغيرها من المفردات والتعابير التي لا تتوافق مع الواقع، والتي يجب البحث في أصل تسميتها، وفي فهم محتواها، وتحليل جوهرها، وهي:
تعبير «لبنان أولاً»:
هو شعار طرحته قوى اليمين اللبناني تاريخياً، ثم أُعيد العمل به في الحرب الدائرة على المقاومة، ويُراد به فصل سياسات لبنان عن محيطه العربي والقومي، وإلباسه ثوباً يتناسب مع الدور الذي رسمه له الاستعمار، والذي ارتضاه من يستقوى بهذا الاستعمار.
ويستتبع طرح هذا الشعار، ملحقات أخرى مكمِّلة ومتناسقة معه مثل»قوة لبنان في ضعفه»، ولبنان هو»لبناني»، وليس أي شيء آخر.
والواقع، أنّ فصل لبنان عن محيطه العربي هو مطلب يصبُّ في خانة إرضاء العدو الصهيوني، حيت أنّ إدارة الصراع العربي ـ «الإسرائيلي»، تستوجب دولاً متفرقة وليست مجتمعة لتسهيل مواجهتها واحتوائها.
عمل من استقووا بالقوة الخارجية على أبناء بلدهم، على تنفيذ السياسات لمصلحة عدو الوطن والأمة.
تعبير «لن نسمح بتحويل لبنان إلى مقاطعة في ولاية الفقيه»:
بعد الانتصار التاريخي، الذي حققته المقاومة على العدو الصهيوني عام 2000، تمّ إهداء هذا النصر إلى الشعب اللبناني والشعوب العربية وكلّ الشعوب التي ساهمت في صنع هذا النصر.
والواقع أنّ المقاومة التي حرّرت لبنان من الاحتلال الصهيوني، ودحرت أكبر عدو للأمة العربية، في مشهد فريد من الأعياد والأعراس الوطنية والقومية، والتي طرحت شعار «ولّى زمن الهزائم»، هذه المقاومة لم تقارب شكل النظام السياسي، لا من قريب ولا من بعيد، وهذا غريب في تاريخ حركات التحرُّر الوطني ومقاومة الاحتلال حيث أنه من الطبيعي أن تتولى الحركات المنتصرة الحكم بكامله، أو أن تؤثر في مجرى الحكم لصالحها.
غير أنّ المقاومة في لبنان، ولفهمها طبيعة التركيبة الاجتماعية اللبنانية، ولقدرتها ولفهمها السياسي البراغماتي، استطاعت أن تحافظ على وهج انتصارها، وأهدت انتصارها لمجموع «الأنا»، أو «ألانا» الوطنية والقومية.
أما من استقوى على المقاومة بالآخر المستعمر، فله تاريخ طويل في تفعيل «أنا» خاصته الحبيسة، وله حلم بعودة إمارة «فخر الدين»، أو إمارة «بشير الثاني»، عبر شعارات لم تمت في ذاكرته الجماعية، وهي تصحو بين الحين والآخر، متفلتة من عالمها اللاواعي.
له حلم بعودة إمارة ابن تيمية وإمارة محمد بن عبد الوهّاب، إمارات الظلمة والظلام والتظلم.
تعبير «نحن عرب»:
وللمفارقة، إنّ من يدّعي الانتماء إلى العرب والى قضاياهم، هو نفسه من طرح شعار «لبنان أولاً»، للدلالة على عدم فهمه ووعيه لجوهر التعبير.
«نحن عرب»، يعني أننا نلتزم بقضايا العرب المركزية المصيرية، وأولها القضية الفلسطينية، بوصلة العرب والعروبة، وتحرير القدس، وعودة اللاجئين إلى ديارهم، فأين فلسطين في أجندة مملكة الديمقراطية؟
«نحن عرب» يعني أن نساهم في إعمار بلداننا العربية، في الاقتصاد والعلوم والتطور، وفي خلق قدرات للتنمية البشرية والاقتصادية، وليس في شنّ حروب ظالمة عبثية عليها، كحال اليمن وسورية. حروب أرهقت العرب بثقل تكاليفها، وبفداحة خسائرها البشرية والمادية، وأرجعتهم عقوداً إلى الوراء.
«نحن عرب»، وتكملتها و«لسنا بفرس»، ولن نكون لأسباب كثيرة، ليس لأننا عنصر متفوق أو عنصر دوني، وليس لأنّ الفرس عنصر أفضل منا، أو عنصر أقل شأناً، بل لأننا غير منسجمين مع قضايا شعوبنا، ومع قضايا أمتنا، ومع قضايا قوميتنا، لأننا شعوب ارتضت أن تستقوي بالآخر الاستعماري، على نفسنا الآخر.
«نحن عرب» و «لسنا فُرساً»، وليتك تستطيع، يا جمل الصحراء، ويا مملكة العار، يا من تحمل بؤس عيون أيتام اليمن وأطفال سورية وأرامل العـراق أمـام أوسمـة الفخر على صدور خمسة آلاف عالم نووي فارسي.
خلاصة: إنّ النهج الاستتباعي والاستقواء بالآخر والذي يُمارس من قبل الطبقة المعارضة للمقاومة، والمدعومة من قوى الاستعمار الغربي، ومن الرجعية العربية، هو امتداد لخط استتباعي استقوائي تاريخي، ترجع جذوره إلى «الأنا» المرضية، هذه « الأنا» التي لا تشعر بقوتها أو بوجودها، إلا من خلال ضعف الأنا» الآخر، أو بموتها، لأنها لا تعيش إلا في الظلمة.
أيتها «الأنا» التائهة، عبر جبال لبنان، يا أيقونة الشرق، ويا درة الصباح، قومي من عقالك، والبسي ثوبك الأبيض، وتزيني بعبق الأرز وقولي: أنا ابنة لبنان، عربية الجذور، فلسطينية الهوى، سورية العينين، وأنا أتنفس حرية، وكرامة.