عظماء واجهوا الموت منتصرين… وشعب احترف النوم والانتشاء!

أحمد طيّ

جميل أمر عودة المسرح إلى بيروت، بتفاصيله وجمالياته وإبداعاته كافة. رائعٌ أن يتنكّب عدد قليلٌ من «أصحاب الضمير» مهمّة إعادة الرونق إلى بيروت الثقافة الفن والفلسفة والجمال، في زمنٍ تحاصر البشاعة كلّ شيءٍ فينا. وممتازٌ ألّا يلتفت هؤلاء إلى دولة وحكومات لم تحترف إلا مهنة التقصير تجاه الفنّ والثقافة في لبنان إلا في ما ندر.

مسرحية هنا، وثانية هناك، وثالثة هنالك… وبيروت تنبض حيويةً بعدما اجتاحتها منذ سنوات خلت ثقافة العولمة والرتابة والسلع الجاهزة، فنجدنا جذلين ونحن نمارس أجمل طقوسنا: الوقوف أمام شباك التذاكر، الانتظار في الردهة، الجلوس في المقاعد متسمّرين ومنتظرين لحظة فتح الستارة، التصفيق، الانفعال، الضحك، البكاء، الحماسة… إلخ.

ومن المسرحيات الرائعة، التي ـ بكلّ شفافية وموضوعية ومسؤولية ـ ننصح الجميع أن يحجزوا اليوم قبل الغد لمشاهدتها، مسرحية «لماذا؟»، للمخرجة الشابة لينا خوري، والتي تُعرَض مساء كل خميس وجمعة وسبت وأحد على خشبة «مسرح المدينة» ـ الحمرا، وذلك حتّى الثالث من نيسان المقبل.

تستعيد لينا خوري عبر هذه المسرحية، نصّاً كتبه المبدع عصام محفوظ 1939 ـ 2006 في ستينات القرن الماضي، وقدّمه مسرحياً عام 1971. أما عنوان النصّ فهو «لماذا رفض سرحان سرحان ما قاله الزعيم عن فرج الله الحلو في ستيريو 71؟». إلا أنّ خوري خرجت عن المألوف المسرحيّ، وذلك منذ الخطوة الأولى، إذ لا ستارة لتحيّرنا ما يمكن أن يكون خلفها، ولا ستارة لتُفتَح فتنجلي حيرتنا. ما ظهر لحظة دخولنا المسرح، ديكور يدلّ على أننا أمام ملهى ليليّ، يقف الساقي الممثل والعازف أحمد الخطيب خلف البار، بينما تأتي من اللامكان موسيقى تذكرنا بأجواء السبعينات، ليتوالى الممثلون بالظهور الواحد تلو الآخر، وملابسهم تشي بتلك الحقبة، من البنطال الـ«شارلستون»، إلى الـ«تي شيرت البادي»، إلى العصبات على الرؤوس فالفساتين الفضفاضة والأحذية و… إلخ، والأغاني ـ عربية وأجنبية ـ هي هي أغاني السبعينات.

موسيقى صاخبة، وسُكر ورقص، ومخدّرات… كل ذلك كان سمة المشهد الأول لتُظهر لنا المخرجة حال شريحة معيّنة من الناس، قبل أن تبدأ اللعبة عبر إعلانٍ جاء على لسان «العريف» المبدع طلال الجردي . أمّا اللعبة، فتكمن في استعادة أشخاص واجهوا الموت أعزّاء لا أذلّاء، شامخين وإن ركعوا، ليبقوا أحياء نستعيدهم وفق وفاء ذكرياتنا، وعندما تقتضي الحاجة لإنهاض «الشعب النائم»!

البداية كانت مع سرحان سرحان، المناضل الفلسطيني الشاب الذي قتل السيناتور الأميركي روبرت كيندي، في الذكرى الأولى للنكسة في الخامس من حزيران يونيو 1968، كصرخة احتجاج ضدّ دعم كنيدي الفاضح للكيان الصهيوني الغاصب.

إعادة محاكمة سرحان سرحان فتحت الأبواب أمام تشريح الأسباب التي دفعته إلى ارتكاب «جريمته» بنظر الغرب ، وبطولته بنظر الأحرار في هذا العالم ، من احتلال فلسطين، إلى تشريد أهلها، إلى عمليات القتل والذبح، إلى المجازر… والقائمة تطول. لكن اللافت ـ مسرحياً ـ وهذا ما أرادت المخرجة خوري أن تسلّط الأضواء عليه ، تلقّي الشارع العربي المتمثل بروّاد ستيريو 71 ، هذه الحقائق، ليتجلّى الخمول بحركات الممثلين التي تشي بالانتشاء و«التحشيش»، فيما تصل العبثية إلى الذروة، عندما يُخضَع سرحان سرحان لآلة الكشف عن الكذب، فتنبري إحداهن روى حسامي لسؤاله: «بتحبني؟»!

إلا أنّ اللافت، سطوع صوت من خارج المسرح، يتلو أقوالاً ومأثورات عن فلسطين، عن الشرف، عن الكرامة… ويحاول «العريف» أن يعرف من أين يأتي هذا الصوت، لتخبره مساعدته أنّه «الزعيم»، وأنّ دوره لم يحن بعد.

هذا التدخّل، لم نره عبثياً قط، ولم يكن تمهيداً لظهور الشخصية الثانية، خصوصاً أن من ظهر بعد سرحان سرحان، فرج الله الحلو طارق تميم .

لقد عمدت المخرجة المبدعة على إيصال فكرة مهمة، أنّ الزعيم أنطون سعاده، كان من أوائل مَن حذّروا من الخطر الصهيوني، ومن ضياع فلسطين. وتجلّى ذلك عندما جاهر أحدهم أنّ سعاده كتب عن فلسطين وضياعها جريمته الأولى منذ عام 1925.

إلى فرج الله الحلو، المناضل الشيوعي اللبناني الذي عُذّب وقُتل عام 1959 في سورية نتيجة رفضه قرار الاتحاد السوفياتي قبول تقسيم فلسطين، وذلك على يد الشعبة الثانية في عهد عبد الحميد السراج في دمشق، لا بل ثمة معلومات عن أنّ جثّته قُطّعت وصُبّ عليها الأسيد أيضاً.

أبدع طارق تميم في تأدية دوره، وأوصل الممثلون الآخرون الرسالة مجتمعين، ومفادها أنّ الأبطال يواجهون الموت بشجاعة لا بذلّ، وأنّهم ـ وإن رُكّعوا ـ يموتون واقفين كسنديان هذي البلاد.

أما الممثل الخلّاق دائماً علي سعد، فلقد أدّى بحرفية ممتازة شخصية الزعيم أنطون سعاده، الذي يحتفل السوريون القوميون الاجتماعيون بعيد ميلاده هذه الأيام، ويحيون ذكرى استشهاده كلّ تمّوز. سعاده الذي واجه جلاديه في الثامن تموز عام 1949 بكلمة شكراً، سبقتها عبارات شكّلت حِكماً تصلح لكل زمان ومكان، وقد ردّد بعضها علي سعد ببراعة، نذكر منها:

«كلنا نموت، ولكن قليلين منّا يظفرون بشرف الموت من أجل عقيدة.

إذا لم تكونوا أنتم أحراراً من أمة حرّة، فحرّيات الأمم عار عليكم.

إننا نحبّ الحياة لأننا نحبّ الحرّية. ونحبّ الموت متى كان الموت طريقاً إلى الحياة.

الحياة لا تكون إلا في العزّ، أمّا العيش فلا يفرّق بين العزّ والذلّ.

إنّ الصراع بيننا وبين اليهود، لا يمكن أن يكون فقط في فلسطين بل في كلّ مكان حيث يوجد يهود قد باعوا هذا الوطن و هذه الأمة بفضة من اليهود. إنّ مصيبتنا بيهود الداخل أعظم من بلائنا باليهود الأجانب.

إن الحياة كلّها وقفة عزّ فقط».

وما أبدع به سعد أيضاً، طريقة وقفته على المسرح، والتي جسّدت فعلاً كيفية مواجهة الزعيم جلّاديه والموت، فهو لم ينحنِ، لم ييأس، لم يخَف، لم تدمع له عين، بل واجه الموت بصلابة، بشموخ، بقامة منتصبة، بابتسامة تسخر من الجلّادين، وبكلمة «شكراً» قزّمت فعل الرصاص.

تنتهي محاكمات الأبطال الثلاثة، وتثبت عليهم التُّهم، وتُنفّذ بحقهم أحكام الإعدام، لكنّ المشهد الأخير يوحي بما هو عكس ذلك، إذ إنّ هؤلاء الأبطال يبقون واقفين، شامخين، أعزّاء… فيما الشعب لا يحترف إلا فعل النوم… ونسيان فلسطين!

خوري

«البناء» التقت المخرجة لينا خوري بُعيد العرض، واستطاعت ـ وسط الزحام ـ أن تقطف تصريحاً هو جواب على سؤال: لماذا استعادت لينا خوري عصام محفوظ اليوم؟ فتقول: اختار محفوظ هؤلاء الأبطال الثلاثة ليوحّدهم في فكرة مفادها أن نضال كل واحد منهم هو نضال فردي، أي غير مدفوع من أيّ جهة أو دولة، ووحّدهم أيضاً في فكرة أخرى تجسّدها كيفية مواجهتهم الموت بشموخ وإباء.

وتضيف خوري: لا شك فلسطين هي القضية المحور بين سرحان وسعاده والحلو، وهي القضية البوصلة بالنسبة لكل من يؤمن بحرّية الشعب الفلسطيني وأحقيته بأرضه، وأتت صدقية نضال هؤلاء الثلاثة لأنهم وضعوا على محكّ الموت مقابل تنازلهم ـ ولو قيد أنملة ـ عن إيمانهم لكنهم رفضوا… فاستُشهدوا.

وعن علاقة «ستيريو 71» بما ذُكر آنفاً تقول خوري: إن اختيار هذه المجموعة من الناس، أتت لتجسيد الغيبوبة التي تعيشها الشعوب العربية، بينما هناك أبطال يُعتقلون ويُعذّبون ويُقتلون من أجل قضية.

وتختم خوري: لو أردنا إسقاط هذه المسرحية على الشعب اللبناني اليوم، لوجدنا أنّ هناك من يناضل بحق من أجل حقوق اللبنانيين، بينما الغالبية العظمى من هذا الشعب، تحترف فعل النوم.

نصيحة

ختاماً، نعيد توجيه الشكر لكل من يحاول أن ينير شمعةً في الظلام، ولكل من يعيد المسرح إلى بيروت، ولكل من لا يبالي بالإهمال الرسمي فيمضي نحو الإبداع وعينه على النجاح. وثمة نصيحة لكل من يحبّ المسرح، ولكل من يؤمن بالزعيم أنطون سعاده وبالبطلين سرحان سرحان وفرج الله الحلو، ألّا تفوّتوا على أنفسكم مسرحيةً من الطراز الرفيع، تشدّكم إليها من المشهد الأول، وتصفقون حتّى الثمالة حين ينحني أمامكم من جسّد الأدوار فيها.

مسرحية «لماذا»، هي استعادة لنصّ كتبه عصام محفوظ في ستينات القرن الماضي، وهي من إخراج لينا خوري، وبطولة كل من المبدعين: طلال الجردي، علي سعد، طارق تميم، أسامة العلي، عبدو شاهين، آلين سلوم، لينه سحاب، آلين شامي، شادن فقيه، محمد عقيل، أحمد الخطيب، روان حلاوي، عبد جمعة، وهبة سليمان.

وتجدر الإشارة إلى أنّ المسرحية مستمرّة على خشبة مسرح المدينة حتى الثالث من نيسان المقبل، كل خميس، جمعة، سبت وأحد، الساعة الثامنة والنصف مساءً.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى