سماحة الدين ونبذ العنف في «حكاية عشيق المترجم» لجان دوست

صدرت لدى دار «ورق للنشر»، رواية «حكاية عشيق المترجم» للروائي الكردي السوري جان دوست، وهو من مواليد مدينة كوباني في محافظة حلب عام 1965، نال عام 1993 الجائزة الأولى في القصة القصيرة الكردية في سورية وله أربع روايات وترجمات شعرية مختلفة.

ينتهج الكتاب نهجاً يستعيره من عصور تمتدّ إلى نشأة الكتابة وعصور التدوين الأولى، فالنص يأخذ شكل مخطوط أملاه يوحنا الأنطاكي بعدما غيّر الراهب الماروني بولس عبد النور اسمه لأن فقهاء الدولة العثمانية ومفتوها لا يجيزون إرسال أبناء المسلمين إلى ديار الكفر. يصف رحلته في بداية القرن الثامن عشر هو وخمسة فتيان من بلدان متعدّدة مختلفي الهُويات الدينيّة، ما يهب النّص عبر حواراته انفتاحا ومرونة وقبولاً للآخر المُختلِف عنه دينيّاً. كما تعكس سياقات تاريخية تشي بحالة الانفتاح على الآخر والرغبة في التواصل معه، كما أن ظروف الفتيان الثلاثة الذين التقاهم بالسفينة تماثل ظروف واقع عربي كان خاضعاً للسلطنة العثمانية إلا أنه كان متفاوتاً في الاستقرار.

حكايات الفتيان بما تحملها من رسائل تدين التعصب وترفض الخلاف الطائفي، كما في قصة شمعون بن خوشايا، وقصة الوئام والتسامح كما في حكاية والد المترجم، وأيضاً الحب والتعايش مع الآخر كما في حكاية المترجم مع إستر اليهودية ثم مع الفتيان، أو النفور من الحرب كما في قصة سابا الزَّجال، جميعها نماذج دالة على الرسالة التي يحملها النص من دعوة تثني على قيم التسامح ونبذ العنف، وتدعو إلى التدبّر في المعاني الجليلة للأديان السماوية، والنظر إليها بعيداً عن مُلاك الحقيقة. لذا تتجاوز هذه الدعوة زمنية الرواية إلى واقعنا الراهن، وكأنّ الكاتب يدعو الناس إلى التمسك بهذه القيم النبيلة ونبذ الطائفية التي فرقتهم مللاً ونحلاً، وذاك ما تجلّى في رسالة الراهب بولس «لن تنمو شجرة الدين إن شققت جذعها إلى نصفين بفأس مذهب».

لا يستعيدُ الكاتب زمن الرواية تاريخيّا فحسب، إنما يعمد إلى استعادته بجوانبه الثقافية كافة، حيث إيفاد الأبناء إلى البلاد الأخرى للتعلّم والعودة بذخائر الترجمة والمعارف، والأنشطة التجارية، حيث تجارة الدولة العثمانية الرائجة في الأمصار عبر تنقلات التجّار من مدينة إلى أخرى، ما يعكس رواجاً اقتصادياً، إضافة إلى الفتوحات وما شهدته من صراعات طائفية قائمة على أساس ديني وأيديولوجي، وبصراعاته السياسيّة والدينيّة كما هو ظاهر في الخلافات الطائفية التي نشبت بين الموارنة والحماديين في لبنان.

وصولاً إلى الحروب التي كانت تشتعل باسم الرب. كما تحمل الرّواية في أحد جوانبها المهمة سرداً معرفياً يصرف عن الرواية التهمة القديمة التي لازمتها منذ عصر النشأة بأنّها قرينة التسليّة، فيقدّم الكاتب معلومات تاريخية وعلمية موثّقة يمكن اعتمادها مرجعا، على نحو ما قدّم حول سبب تسمية نهر العاصي بهذا الإسم، وأيضاً توثيقه حرفة الورق وازدهارها ثم حالة الاضمحلال بسبب حالة الاحتكار التي ظهرت بدايتها في صورة الرجل الأجنبي مارتين الذي تسبب بخسارة والد المترجم رشدي الشركسي.

يبني الكاتب نصه على التعدّد في المستويات كلّها، بدءاً من الزمن حيث لدينا زمن الكتابة الفعلي الذي يستغرق سبع ليال في الإملاء، وهو زمن حديث نسبياً يسبقه زمن الرحلة نفسها التي استغرقت أيضاً سبع ليال. هذان الزمنان يتعامل معهما المؤلف تعاملاً كرونولوجيا، فالحوادث مُتعاقبة ومتوالية، أما زمن الإطــار فهو طويل نسبياً.

تبدأ الرواية وقد أضحى المترجم عجوزاً واهناً تكالبت عليه الأمراض، يدوّن حكاية عن شبابه وعن رحلته إلى بلاد الصلبان. ويتميز كذلك بخروق زمنية عبر الذاكرة وذكريات الكاتب عن طفولته وأسرته وتجارة والده الرابحة ثم خسارته وقصة حبه لإستر وما أعقبها من رفض من قبل الأسرة وإن دلّت في أحد جوانبها على رحابة تقبل الآخر المختلف معه دينياً، وهو الزمن نفسه الذي يتخلّل حكايات الفتيان الثلاثة الذين التقاهم على ظهر السفينة حيث الخروق الزمنية ضمن سرد ذاتيّ وحكايات شخصية.

كم ينتقل إلى المستوى الثاني من التعدد حيث ثمة رواة داخل النص، أولهم الراوي الأساسي الذي يملي المخطوط الأصلي، وهو راوٍ متكلم. بالإضافة إلى تمركز الراوي الغائب في موضع من الحكاية كبداية الوحدات ويقوم دوره على الربط بين أجزاء الحكاية المختلفة، وقد يظهر بصورة جلية في آخر الحكاية بعد إملاء المؤلف لخاتمة نصه، يقول: «وما إن أنهى المترجم العجوز عشيق بن رشدي إملاء جملة الختام تلك واقفاً حتى انحنى يقبل جذلاً جبين يونس قبلات متلاحقة».

المستوى الثالث في التعدّد هو تعدّد أساليب السّرد، إذ تبدأ الرواية سرداً كلاسيكياً عبر راوٍ غائب، يعتمد سرده بدءاً على الوصف وتقديم أجواء الحكاية ثم يتداخل السرد عبر جمل حوارية تشي بتماهي السرد مع الحوار الموزّع على معظم أجواء النص، كاشفاً معاني وحقائق عن الأديان، وبخاصة جوهرها، وعلاقة الإيمان والعبد، وهي تقترب نصاً من أجواء الصوفية.

حتى الحوارات التي تدور حول اختلافات العقيدة وطبيعة الأديان الأخرى لا تحمل فكراً مُتعصباً أو تشدّداً بل تسامحاً وقبولاً. وقد يعمد السرد إلى توطيد أواصره بالحكمة التي تعج داخل النص سواء من الراهب بولس أو من الدرويش سراج، ومن ثم تمتلئ الرواية بالأمثلة والأمثولات والأقوال المأثورة التي تدعم سماحة الدين وعدم تشدّده. وثمة فيض لمفاهيم جديدة عن الحب والإيمان وعلاقات تجمع بين الحب والإيمان، والإيمان والحرية، بل الكثير من الأمثلة التي يصوغها الكاتب على لسان شخوصه فيمنح الحكاية رحابة عند التقبل، وحجتها إقناعاً في التأثير، ومن ذلك ما يقوله سراج الدرويش: «يا بولس إن الدين ترياق لكنك لو زدت في مقاديره أو جهلت به أصبح سمّا».

كما يتوسل السرد لإبراز فكرة التسامح بالمحاورات بين الراهب والفتيان ويعتمد فيها الكاتب على التشبيهات الحية المستقاة من الواقع كما هي الحال في تصويره المشيئة والإنسان والعقل، وكذلك ما يقوله عن الإيمان وتشبيهه بالجزيرة في البحر، وأيضا تشبيه أهل العلم الذين يبحثون عن طريقة عبادة الله وأصولها مثل شجرة الجوز.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى