إيران وتركيا: علاقات تكامُليّة في السياسة والاقتصاد
د. محمد شعيتاني
تكتسب العلاقات الإيرانية ـ التركية أهمية خاصة لدى دوائر المختصّين والباحثين وصنّاع القرار في المنطقة والعالم، وذلك لأنّ البلدين يكوّنان، بالاشتراك مع مجموعة من الدول العربية ما يُسمّى منطقة الشرق الأوسط، وقد ارتكزت العلاقات بين طهران وأنقرة منذ منتصف القرن السادس عشر إلى أساس براغماتي صلب تجلّى في حسن الجوار القائم على تحييد الخلافات المذهبية واحتواء التوترات المتجدّدة فضلاً عن توازن المصالح المستند إلى توازن القوى بين الطرفين اللذين تجمعهما علاقات تجارية واقتصادية متنامية، علاوة على التنسيق في المسائل الأمنية.
عانت الجمهورية الإسلامية البالغ تعداد سكانها 80 مليون شخص، جراء العقوبات الاقتصادية الصارمة التي فُرضت عليها من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وذلك منذ قيام الثورة الإيرانية عام 1979. ثم بدأت الانفراجات مع الإدارة الأميركية بعد أن غير الرئيس باراك أوباما سياسته تجاه الشرق الأوسط، محاولًا التواصل مع إيران وذلك عقب الكساد الاقتصادي العالمي الذي حدث عام 2008، وقد كانت هذه الخطوة مفاجئة من قبل الولايات المتحدة وذلك في ضوء السياسات التي اتبعتها الإدارات السابقة.
يُعدّ الاتفاق النووي الذي وُقع في حزيران من العام الماضي حدثًا وإنجازًا فارقًا، ليس فقط في العلاقات الأميركية ـ الإيرانية، ولكن أيضاً في الأمل الذي عاد إلى تلك الدولة لتقف على قدميها من جديد بعد أن رُفعت عنها العقوبات التي أدخلتها في عزلة عن النظام العالمي.
أصبحت الحياة تحت وطأة العقوبات شيئًا اعتياديًا بالنسبة إلى الإيرانيين، كما أنّ الأجيال صغيرة السنّ لم تختبر الحياة من دون هذه العقوبات. لم يكن من السهل على الصحافيين من خارج إيران وصف التأثير الفعلي لهذا الحظر على البلاد وعلى الأشخاص أنفسهم، فعلى سبيل المثال، قدم بعض الاقتصاديين والمحللين الغربيين العديد من التقييمات بشأن التبعات السياسية والاقتصادية والتجارية التي خلّفتها العقوبات، وذلك لأنّ من السهل إصدار الأحكام عن بُعد، ولكن من المؤكد، حتى الآن، أنهم لم يستطيعوا وصف وتفسير الآثار النفسية أو فهم شعور الإيرانيين عن طريق استخدام الإحصائيات فقط.
على الجانب الآخر، لم تكن تركيا مطلقًا، التي تعيش في سلام تام مع إيران لما يقرب من 400 عام، في ذلك الجانب الذي أيّد هذه العقوبات، ولم تقُم بتجميد العلاقات الاقتصادية والثقافية مع إيران، واليوم ومع إلغاء هذه العقوبات، هناك حقبة جديدة في انتظار الشعب الإيراني والشعب التركي.
لن يكون من السهل على الاقتصاد الإيراني التعافي خلال فترة وجيزة وذلك لأنّ إيران ظلت لعقود عديدة معزولة عن النظام العالمي، فهذا سيتطلب منها الدخول إلى العديد من المنعطفات لكي تلتحق بالساحة الجديدة التي تحتوي على العديد من اللاعبين الجُدد.
تكبّد الاقتصاد الإيراني، بفضل هذه العقوبات، ضرراً شديداً وذلك مع وجود معدلات عالية من التضخُّم والبطالة، ولكنه قاوم وصمَد وحقّق، فقد وصلت نسبة البطالة قبل رفع العقوبات بين الشباب إلى 25 في المئة وتخطت النسبة بين النساء حاجز الـ 40 في المئة، ومع ذلك، فمن المتوقع أن تتغلب إيران على مشكلة البطالة بسهولة وذلك لأنها تمتلك تعداداً سكانياً ضخماً، حيث تصل نسبة من تقلّ أعمارهم عن 35 عاماً فيه لحوالي 64 في المئة وتصل نسبة من هم ملمّون بالقراءة والكتابة إلى 87 في المئة، ويصل عدد طلاب الجامعات إلى 4.4 مليون طالب، نسبة الإناث تصل إلى 60 في المئة، وذلك بدءاً من العام الدراسي 2015 ـ 2016.
يأمل الإيرانيون في حدوث العديد من التطورات الاقتصادية المتفائلة بعد أن لحقت المؤسسات البنكية والمالية بركاب النظام العالمي، والشيء الأهم من هذا كله هو الزيادة في إنتاج البترول والغاز الطبيعي التي ستحدث جراء فتح الأبواب المغلقة أمام عمليات التصدير.
يُعدُّ قطاع الطاقة من القطاعات المهمّة للغاية بالنسبة إلى إيران وذلك لأنها تمتلك رابع أكبر احتياطي بترولي على مستوى العالم وثاني أكبر احتياطي عالمي من الغاز الطبيعي، ما دفع الاقتصاديين إلى اعتبار قطاع الطاقة الإمكانية والأمل الوحيد الذي يمتلكه الاقتصاد الإيراني. ومع ذلك، فإنّ هذا ليس الوضع الفعلي بالنسبة إلى إيران التي تمتلك أيضاً تنوعًا لا بأس به فيما يتعلق بالموارد الاقتصادية ويتضمن ذلك قطاعات الخدمات والصناعة والزراعة، بالإضافة إلى أنها كانت تحتلّ المرتبة رقم 13 كأكبر مصنّع للسيارات على مستوى العالم عام 2011 وذلك قبل توقيع العقوبات عليها.
بما أنها شريك تجاري أساسي لإيران، تلعب تركيا دوراً مهماً في قطاع الطاقة الإيراني عن طريق شراء معظم استهلاكها الداخلي من الغاز بأثمان باهظة للغاية من إيران طبقًا للاتفاق الذي وُقع عام 1996 وذلك استباقًا لعملية تخفيض الرسوم التي أعقبت تطبيق العقوبات.
يجب على إيران، كخطوة أولى، البدء في تأسيس علاقات اقتصادية أفضل مع الدول المجاورة لها مثل تركيا، هذا بالإضافة إلى العديد من المزايا الأخرى، حيث أنّ حوالى 20 في المئة من الشعب الإيراني يتحدثون التركية مما يُعدّ من العوامل الحاسمة التي تلعب دوراً محورياً في تسهيل العلاقات التجارية. ساهم الموقع الجيوسياسي في اعتماد كلّ من الدولتين على الأخرى من أجل الوصول إلى الأسواق الأخرى، على سبيل المثال، ونظراً للأزمة السورية، فقد أصبحت الحدود الإيرانية المنفذ الوحيد لتركيا من أجل الوصول إلى دول الخليج، وتستطيع إيران أيضاً الاستفادة من خط الأنابيب الأذري عبر الأناضول والمعروف باسم «تاناب» من أجل توصيل إنتاجها من البترول إلى أوروبا التي تسعى للوصول إلى مصادر بترولية جديدة بعد الخلافات التي حدثت مع روسيا جراء الأزمة الأوكرانية الأخيرة.
ورغم كلّ هذا، ستبذل جميع القوى العالمية الفاعلة قصارى جهدها من أجل الحصول على النصيب الأكبر لشركاتها في هذه السوق الجديدة الناشئة، تماماً كما حدث مع تركيا والبرازيل اللتين لم يقف الاتفاق النووي عائقاً أمامهما، وقد بدأتا في تطبيق ذلك قبل المفاوضات حول الاتفاق الحالي.
ما يجب على إيران فعله خلال عملية الاندماج الراهنة هو محاولة جذب الاستثمارات الأجنبية، ومع ذلك، فإنّ هذه المهمّة ليست بالسهلة بالنسبة إلى الإيرانيين ولكنّها ليست مستحيلة. وفوق ذلك، ستتمكن إيران في نهاية المطاف من استعادة السيطرة على 150 مليار دولار من أرصدتها المُجمّدة، ومع ذلك فإنّ هذا ليس كافياً لتمكين إيران من التعافي، وهنا ستظهر الحاجة إلى وجود استثمارات أجنبية. تحتاج إيران إلى خلق مناخ أكثر شفافية وأمانًا للمستثمرين الأجانب لكي يتمكنوا من المشاركة في المشاريع داخل إيران من دون أدنى تردّد، بالإضافة إلى ذلك، يجب على إيران إجراء إصلاحات اقتصادية جذرية من أجل إنعاش وتسريع عجلة نظامها الاقتصادي وتقليل المخاطر، وتعتبر تركيا خير مثال على هذا، وذلك لأنها شرعت في عملية الإصلاح والخصخصة طويلة الأمد والتي بدأت في وقت مبكر من عام 2000. على سبيل المثال، فقد منحت تركيا الاستقلال الوظيفي التام لبنكها المركزي عام 2001 وذلك لتمكينه من الوصول والحفاظ على استقرار الأسعار، ما مكّن البلاد من توليد قوة مالية واقتصادية كبيرة والتي ساهمت في جذب المستثمرين الأجانب.
على إيران تسريع جهودها، كخطوة أخرى مهمة، من أجل أن تصبح عضواً في منظمة التجارة العالمية، والتي تقدمت إيران بطلب للحصول على عضويتها عام 1996 ولكنها قوبلت بالرفض بسبب الاعتراضات الأميركية، كونها عضوًا فيها، «منظمة التجارة العالمية»، فإنّ هذا يساهم في تخفيض الرسوم الجمركية على بضائعها، وبالتالي تسهيل عملية التصدير، والذي مع الوقت سيكسبها صفة التنافسية على الساحة العالمية.
ستتمكن كلّ من إيران وتركيا من الوصول إلى محصلة غاية في الكفاءة إذا ما تبنّت كلتا الدولتين أجندة مشتركة بوضع رخاء شعوبهما في المقام الأول وعدم ترك المجال لخلافاتهما السياسية في أن تكون العائق أمام علاقاتهما الاقتصادية والثقافية، حيث ستتمكن تركيا من الحصول على علاقات أفضل مع الدولة الإيرانية التي تمتلك ذلك المجتمع الذي يفكر بشكل سليم وليس ذلك الذي أُنهك وشُلّ بواسطة العقوبات والمجرد تماماً من أي خوف وقلق. على الرغم من كون ألمانيا والصين يمثلان اثنين من أصعب الخصوم عندما يتواجدا في نفس السوق، إلا أنّ تركيا ما زالت تمتلك التفوق في مجال الخدمات اللوجستية لكونها بلدًا مجاورًا لإيران، مما سيتيح لها الفرصة للقيام بعمليات التصدير بصورة أسرع وبتكاليف أقلّ. وعلاوة على ذلك، يمكن للدولتين اللتين لهما خلفيات ثقافية مشتركة واللتين تضمران الإعجاب لبعضهما البعض أن تتعلما الكثير من الدروس من بعضهما البعض وذلك للمضي قدماً نحو المستقبل. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ من الأهمية بمكان أن تظهر للعالم تلك القوة التي يُمكن أن تنشأ من خلال تكوين وحدة بين بلدين إسلاميين في المنطقة، وهذا سيساهم في خلق مناخ جدير بالثقة وقادر على جذب المستثمرين الأجانب والذين يسعون دائماً إلى دخول تلك الأسواق الآمنة، وستكون كلّ دولة فيهما مكملة للأخرى على العديد من الأصعدة، فمن الناحية الاقتصادية ستتمكن تركيا من تزويد إيران بالتكنولوجيا وأدوات النقل اللازمة من أجل تلك الاحتياطيات من البترول والغاز التي تمتلكها إيران. هدف تركيا من كلّ هذا هو النمو جنباً إلى جنب مع جيرانها وهو الشيء المتوقّع حدوثه وليس الصعود بمفردها في المنطقة بالتنافسية المعتادة.
رئيس هيئة حوار الأديان
باحث في الشؤون الاقتصادية والسياسية والدينية