في لبنان انتهت حقبة بأكملها..
روزانا رمّال
سرعة الأحداث والتطورات على الساحة السورية منذ سنة حتى الساعة مترافقة مع حرب خطيرة التداعيات في الخليج شنتها المملكة العربية السعودية على اليمن تحديداً، جعلت من الموقف السعودي وهوامشه أكثر قيداً ومشروطاً بعوامل وحسابات عدة، بينها الداخلي والخارجي والمصلحي المتبدّل عند اكتفاء الحاجة، لم يعد توقع سلوك المملكة سلفاً ممكناً عند أولئك الذين عايشوا حقبة الملك فهد وبعده الملك عبدالله الذي كان حاكماً فعلياً إبان مرض أخيه، فرسم صورة الاعتدال والعقلانية على المملكة التي كانت في أوج حياكتها لدور تتفوّق فيه على باقي الدول العربية والخليجية من باب المرجعية التي لا يمكن أن يتخطاها العرب والغرب في أي قرار في المنطقة. فمعرفة كيف تفكر العائلة الحاكمة اليوم بات أصعب بكثير لازدواجية المواقف الخارجة والأجواء التي تبثها الانقسامات بالمواقف بين أفرادها يضاف إليها ما بات مرجحاً عن أن ضغوط يعيشها الملك سلمان قد تعرّضه لتسليم الحكم لولي العهد في أي لحظة تقرر المصلحة الحليفة ذلك فالأمير محمد بن نايف الذي يكرّم غربياً وترفع له أوسمة الشرف اليوم مثل الذي منحته إياه فرنسا عبر هولاند مؤخراً، والذي يتمتع بعلاقة جيدة جداً مع الأميركيين والذي يحسب خطابه السياسي في المحافل الدولية والعربية بشكل لا يتعارض مع السياسة الأميركية يؤكد أن هناك من قرر أن يخوض معركة المفاضلة بالساحة السعودية كيف إذا محمد بن نايف وزير الداخلية السعودي لسنوات خاض جولات عدة بوجه الإرهاب وقادر أن يقدّم نموذجاً متعاوناً مع الأجهزة الأمنية الأميركية في الفترة المقبلة بعد انقشاع المواقف ورسو الحلول في المنطقة!
يعيش لبنان دوامة هذا المتغير السعودي والتشتت الذي ترخيه المملكة عند كل مناسبة تتعاطى فيها بشؤونه من جهة أو مع أفرقاء وحلفاء لبنانيين لها من جهة أخرى، حتى ظهر التراجع عن وضعه في سلم أولوياتها منذ سنة حتى الساعة. وهي لحظة دخولها حرباً مفتوحة مع اليمن، كشفت السعودية عدم قدرتها على النجاح في إدارة أكثر من معركة سوياً وكشفت عن أن ساحات النفوذ قد لا تعوض لها أو تؤسس لها انتصارا يجير في ما تواجهه مباشرة في اليمن، لأنها تخوض حرباً مع من يعتبرون أنفسهم غير مستعدين على إيقافها قبل الحصول على حقوقهم فكيف إذا كان التقدم في الساحة اللبنانية يعيقه حضور بارز لحزب الله وفريقه سياسياً وأمنياً لجهة السعي لسد ثغرات تمدد الإرهاب المدعوم خليجياً؟ بالتالي فإن مسألة الكسب في الساحة اللبنانية وتأثيره على اليمن ألغي في حساب المملكة تماماً وباتت عليها المواجهة بشكل مباشر وحتمي بقرار مسبق منها.
خففت المملكة بمؤشرات ودلائل عدة في لبنان إلى حد كبير من اهتمامها المباشر بحلفائها ومصالحهم بعد أن كانت قد رفعتها لأقصى حدودها في فترة ما بعد اغتيال الحريري حتى تسلموا السلطة بشكل كامل، واستطاعوا تأسيس فروع لأجهزة أمنية وسيطروا على مراكز قرار إدارية هامة في الدولة، كانت من بينها وزارة الاتصالات والذي شكل في عام 2008 نقطة انطلاق الخلاف بين حزب الله وفريقه من جهة 8 آذار وبين خصومه 14 آذار من جهة أخرى، بعدما كادت تعرض داتا الاتصالات وتنكشف أمام أجهزة استخبارات المنطقة والعالم وأبرزها إسرائيل، لولا اعتراض الحزب على قرار حكومة السنيورة الشهير. واليوم يعرض على اللبنانيون كشف شبكات إنترنت كبرى غير شرعية تتعرّض فيها وزارة الاتصالات للمسائلة من قبلهم ويتحضرون للكشف عن حقيقتها، خصوصاً بعدما اتضح أن لإسرائيل دوراً كبيراً فيها. وزارة الاتصالات التي تسلمتها قوى محسوبة على 14 آذار في ذلك الوقت أسست فريقاً لا يزال يعمل فيها حتى الساعة. ويبدو أنه بات من الضروري استجوابه لشرح ملابسات أكثر من قضية منذ عام 2005 حتى اليوم مروراً بطلبات حكومة السنيورة عام 2008 وكلها يجمعها فتح البلاد أمام العدو. في تلك الحقبة لم يكن وارداً لا اكتشاف ولا مسائلة ولا رفع الشهادات أمام الرأي العام. فالتأثير السوري الذي راح حل مكانه نظام أميركي خليجي قلص حضوره بشكل لافت وكبير.
حقبة بأكملها يختتمها لبنان تنتهي معها فعلياً مرحلة ما بعد اغتيال الحريري التي تصدرت فيها الرياض المشهد مع حلفائها، وهم اليوم غير قادرين على لملمة مصالحهم أو ما تبقى منها، ولا حتى الاستحصال على مساعدات مالية كانت لفترة ما قبل السنة التزاماً سعودياً أكيداً.
يلفت بهذا الإطار الضائقة المالية الكبرى التي تعاني منها صحف لبنان العريقة ليتكشف دور مباشر يتعلق ببعض المسايرات من جهة، وبعض التورط المباشر من جهة أخرى مع المملكة، التي توقفت عن دعمها ما يشي بأن لبنان لم يعد يعنيها، ولم تعد مستعدة لخوض معارك إعلامية تكسب فيها موقفاً كان يهمها في السابق وبكلام آخر يبدو أن الحرب في سوريا بدأت تضع أوزارها ومع العجز الذي تقع فيها المملكة فهي غير مستعدة لدفع أي فلس واحد خارج المضمون.
تتحدث مؤسسات الحريري الحليف الأول للمملكة عن قرابة 8 أشهر بلا مداخيل يُضاف إلى كل هذا مقاطعة الرياض حكومة لبنان الرسمية لأول مرةً. كلها إشارات انكفاء سعودية تؤكد خسارتها الساحة اللبنانية لتنتهي معها حقبة بأكملها كانت قد بدأت عام 2005 بعد اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري والخروج السوري من البلاد.