ليس انسحاباً… بل إعادة انتشار
معن حميّة
قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، سحب القوة الروسية الأساسية من سوريا، شكل عنصر مفاجأة لمراكز صنع القرار الدولي، وشغل المراقبين والمتابعين والمحللين.
المتابعات السياسية والتحليلات الإعلامية، على اختلاف توجهاتها، قاربت القرار الروسي بالمواقف من دون قراءة أبعاده وأهدافه، وهذا ما أعطى انطباعاً قوياً بأنّ روسيا الاتحادية، تمسك بزمام أمرها جيداً، سياسياً وأمنياً، وتتخذ قراراتها بما يتوافق مع استهدافاتها.
وعليه، يخطئ مَن يعتقد أنّ القرار الروسي، خطوة على طريق الانسحاب من الحرب على الإرهاب. إذ إنّ انسحاب روسيا من هذه الحرب، دونه مخاطر حقيقية على كيان الدولة الروسية العظمى، لا بل إنّ الانسحاب من الحرب على الإرهاب، هو بمثابة «بيريسترويكا» غير بناءة، تؤدّي إلى تدمير كلّ ما بنته روسيا الاتحادية خلال الأعوام السابقة، وربما إلى انهيار الدولة الروسية.
إنّ مسار الصعود القوي لروسيا الاتحادية، واستعادة مكانتها ودورها، دولة عظمى على المسرح الدولي، والدور الأساس الذي لعبه القيصر الروسي فلاديمير بوتين في هذا المسار، يبدّدان الاعتقاد بأنّ روسيا قد بدأت بالانسحاب من الحرب على الإرهاب. فروسيا تعتبر دخول هذه الحرب جزءاً رئيساً من مسار صعودها وإثبات حضورها وقوتها، وهذا ثابت وراسخ، من خلال المواقف الروسية، سواء في قرار سحب القوة الأساسية، أم في المواقف الروسية التي أعقبت ذلك.
القرار الروسي واضح، هو يسحب القوة الأساسية، ويؤكد استمرار وجود قوات روسية على الأرض السورية، والالتزام بمواصلة مؤازرة الجيش السوري في حربه ضدّ الإرهاب. وهذا الموقف أكدته الرئاسة السورية تزامناً مع الإعلان الروسي، الأمر الذي أكد وجود تنسيق عالي المستوى بين القيادتين الروسية والسورية، وأنّ الجهة الوحيدة التي لم تتفاجأ بقرار الرئيس بوتين هي الدولة السورية، والرئاسة السورية.
بناء على ما تقدّم، يمكن توصيف القرار الروسي بأنه «إعادة انتشار» وليس انسحاباً، وجائز القول إنّ عملية إعادة الانتشار هذه، أملتها ظروف مستجدّة، تتصل بمسارات الحلّ السياسي، التي سبق لروسيا أن تبنّتها وعملت في سبيل إنجاحها منذ بدء الأزمة السورية، في حين أنّ الأطراف الدولية الأخرى وفي طليعتها الولايات المتحدة الأميركية، تبنّت خيار التصعيد ودعم الإرهاب ومؤازرته.
لقد سبقت قرار إعادة الانتشار الروسي، انعطافة سياسية أميركية كبيرة، تمثلت بما اصطلح على تسميته العقيدة «الأوبامية» الجديدة، حيث بدا من خلالها الرئيس الأميركي باراك أوباما، غير عابئ بحلفائه، لا بل مؤنّباً لهم، لأنهم حاولوا استدراجه إلى خيار الحرب المباشرة على سوريا. وبذلك تنصّل من سنوات الدعم الأميركي لما تسمّيه الولايات المتحدة الأميركية معارضة سورية.
«إعادة الانتشار» الروسي، عملية مرتبطة بما سعت إليه روسيا منذ الأساس، أيّ إنتاج حلّ سياسي للأزمة السورية بين السوريين أنفسهم، وهي عندما استجابت لطلب الدولة السورية، وآزرتها في حربها ضدّ الإرهاب، أكدت أنها ستظلّ متمسكة بالسعي إلى بلوغ حلّ سياسي للأزمة السورية، وأنها تعمل تحت سقف ما نصّت عليه القرارات الدولية لجهة التأكيد على محاربة الإرهاب ووحدة سوريا وسيادتها.
أما مواقف الترحيب بالقرار الروسي من قبل الدول التي دعمت منذ الأساس المجموعات الإرهابية وتبنّت خيار إسقاط الدولة السورية، فلا تعدو كونها محاولات ترمي إلى تسجيل انتصارات وهمية. فهذه الدول عجزت عن تحقيق أهدافها بإسقاط الدولة السورية بواسطة الإرهاب، وظهر عجزها جلياً بعد سلسلة الإنجازات الميدانية التي حققها الجيش السوري وحلفاؤه على الأرض، لذلك، فإنّ الدول الداعمة للإرهاب مضطرة أن تبحث إنجازات شكلية، تتسلح بها أمام شعوبها. وهذا ينطبق أيضاً على المعارضات السورية، المتطرفة منها والإرهابية، والتي تعمل تحت مظلة السعودية وإمرتها.
لا تستطيع الدول الغربية ولا تركيا ولا الدول العربية المشتركة في العدوان على سوريا، ولا المعارضات المختلفة، أن تدّعي بأنّ القرار الروسي يصبّ في خانة الإذعان لإملاءاتها، لأنّ روسيا فرضت منذ اليوم الأول لمشاركتها في الحرب على الإرهاب واقعاً جديداً، وحين تدخلت تركيا بإيعاز من حلفائها وأسقطت «السوخوي» الروسية، وضعت روسيا خطوطاً حمراً عجز الأتراك وغير الأتراك عن تجاوزها، لذلك، لا يمكن القول إنّ القرار الروسي هو بمثابة إذعان لمشيئة المحور الآخر. فالقرار تمّ بالتنسيق مع الدولة السورية، وهذا واضح. وهو ليس انسحاباً، بل تثبيت لانخراط روسيا في الحرب ضدّ الإرهاب، وهذا ما ظهر من خلال التغطية الفاعلة التي نفذها سلاح الجو الروسي لعمليات الجيش السوري بعد صدور القرار الروسي.
وفي هذا السياق أكد مسؤولون ومحللون وإعلاميون روس في مواقف ومقالات متعدّدة، أنّ الجيش السوري لديه القدرة على مواصلة حربه ضدّ الإرهاب، وأنّ روسيا الاتحادية مستمرّة في مؤازرة هذا الجيش، وهي على جهوزية تامة، لأن تستعيد أضعاف القوة التي سحبتها من سوريا خلال يوم واحد، وهذا التأكيد يؤشر إلى أنّ خطة إعادة الانتشار الروسية ترتبط بأمور محدّدة، بعضها ذكر في السياق، وبعضها الآخر تكشفه الأيام المقبلة.
ورداً على التخيّلات والتحليلات بأنّ قرار بوتين جاء على خلفية الخشية من أفغانستان ثانية، قال أحد المحللين الروس، «الاتحاد السوفياتي لم ينهزم في أفغانستان، بل كانت قيادته خائنة»، وفي هذا القول إشارة إلى أنّ القيصر الروسي فلاديمير بوتين، هو مَن أعاد بعث الحياة لروسيا الاتحادية قوة عظمى، وهو الذي يدفع بها لأن تكون الأقوى في العالم.
القائلون بأنّ روسيا انسحبت، غارقون في أوهامهم، يتعامون عن حقيقة إعادة الانتشار الروسي بما يتوافق مع ما بدأته روسيا من وقوف إلى جانب حليفتها سورية، وما بذلته من جهود للوصول إلى حلّ سياسي ومنع تمدّد الإرهاب.
المراهنون على «بيريسترويكا» وفق الطريقة الغورباتشوفية، أغبياء لا يقرأون جيداً مسار الصعود الروسي وحقيقة دور روسيا الجديد.
مدير الدائرة الإعلامية في الحزب السوري القومي الاجتماعي