بصدد انسحاب روسيا الكلي أو الجزئي من سورية… موسكو تمنح الأطراف الأخرى فرصة للسلام

محمد شريف الجيوسي

لم يكن القرار الروسي بالانسحاب الجزئي أو الكلي متوقعاً من قبل أكثر الدول حتى المعنية منها، فضلاً عن مراكز الدراسات والمحللين السياسيين والمتابعين، فمرة أخرى تذهل روسيا العالم بهذا القرار المفاجئ، مثلما كان الدعم الروسي الواسع مفاجئاً، مثلما كانت الصوراريخ المجنحة المطلقة من بحر قزوين أو من منطقة أخرى مفاجئة، رغم أنها شكلت تطوراً جزئياً فقط في إطار عملية الدعم العسكرية والدبلوماسية والسياسية متعددة أوجهٍ ومتصاعدة.

روسيا دولة عظمى وليس فقط، بل دولة عظمى صاعدة لها حلفاء أنداد من نوع مختلف، اختاروا صداقتها عن طيب خاطر، وليسوا تابعين في حاجة للإنفاق عليهم، ولا هي في حاجة لسرقة نفطهم وغازهم وثرواتهم والسيطرة على أسواقهم وفرض سياساتها المالية أو النقدية أو الاجتماعية أو الديمقراطية عليهم، كما هو حال الولايات المتحدة الأميركية وعواصم الاستعمار الأوروبية ومن يتبعهما، فهذا المعسكر الأميركي الكبير ليس بصدد الوفاء لمنتسبيه عند أول مفترق طريق أو تحول في السياسات الاستراتيجية، فضلاً عن كونه في حالة هبوط سياسي واقتصادي وعسكري وقيمي ومشعل للحروب والفتن والانقسامات، رفاهه مبني على دم الشعوب الأخرى وخلق المشكلات لها وليس بناء على إمكانات داخلية مستدامة، حتى أن هذا المعسكر يسرق الكفاءات العلمية والعمالة التي تبحث عن فرص عمل وعطاء في غير أوطانها، جراء ما أحدث ويحدث هذا المعسكر من دمار وتخريب وفتن وحروب بينية وأهلية.

وفيما تحرص روسيا الاتحادية على الشرعية الدولية، تضربها واشنطن ولندن بعرض الحائط، ومنها غزوها العراق سنة 2003 وما استتبع، وما يسمى «الربيع العربي» الذي هو تطبيق عملي لمشاريع الفوضى «الخلاقة» والشرق الأوسط الجديد والكبير وهي مشاريع أميركية صهيونية.

لقد وجهت روسيا الاتحادية قبل دخولها المباشر لسورية ملاحظات للتحالف الأميركي الذي يزعم أنه يحارب الإرهاب في سورية، من دون أدنى نجاح، فقد فشل هذا التحالف في توجيه ضربات حقيقية للعصابات الإرهابية، بحيث تمددت العصابات الإرهابية في مناطق كعين العرب وتدمر، فيما كان بإمكان التحالف الأميركي تدمير أرتال الدبابات والأسلحة والإرهابيين وهم في الطريق إليهما، لو صدقت النوايا، بل إن التحالف الأميركي، زوّد داعش بإمدادات السلاح والغذاء، وتذرع بأن ذلك كان بالخطأ.

وطرحت روسيا على تركيا والسعودية وغيرهما الدخول في تحالف وتنسيق مع الدولة السورية لمحاربة الإرهاب، وقبلت سورية العرض الروسي، وكان هو الآخر مفاجئاً، لكن الأطراف المعنية رفضته، فهي المصنعة له تدريباً وتمويلاً وتسليحاً وتغطيه سياسياً وإعلامياً، وتزوده بمرتزقة مضللين بالمال الوفير ووعود الحوريات وجهاد النكاح، أتت بهم من بقاع الأرض الأربع ، فكيف لها أن تحارب الإرهاب بصدق؟

بعدها دخلت موسكو سورية مسنودة بقرار دولي، يحث على محاربة الإرهاب فالغرب لا يستطيع القول بأنه من صنّع الإرهاب من جهة أو أنه يرفض علناً محاربته، ومن جهة أخرى بدأت آلة الإرهاب تنتقل إليه ، فضلاً عن المهاجرين إليه بشكل كيفي، لا يراعي احتياجته أي الغرب للعمالة والكفاءات فصدر قرار محاربته في ظرف مناسب.

وبذلك استند الدعم الروسي للدولة الوطنية السورية فضلاً عن القرار الأممي بمحارية الإرهاب بفشل واشنطن وتحالفها في محاربته على افتراض أنها كانت تحاربه حقاً وبرفض تركيا والسعودية تنسيق الجهود مع سورية في محاربة الإرهاب، ورابعاً بالتنسيق الروسي مع الشرعية السورية، وهو ما تحرص موسكو عليه في كل قراراتها وسيساساتها الخارجية.

عندها انبرى سياسيون وأقلام وقوى في الهجوم على روسيا، رغم كل ما سبق، كأن الدعم الروسي جاء من فراغ ولم يكن في ظل كل ما سبق، وكأن واشنطن لم تكن قد تدخلت من دون وجه حق، ولم تجد في الإرهاب ذريعة لفرض أجنداتها الخاصة في المنطقة، وفي تعزيز وجود العصابات الإرهابية التي أصرت على تصنيفها بأنها معارضة معتدلة .

لم تكن أصوات الرافضين لروسيا لتعلو ضد التدخل الأميركي وتوابعه الإقليميين، ومن كان منهم أقل سوءاً ظاهراً ساوى بين التدخلين، رغم ما ينطويان عليه من تباين واختلاف وتناقض كلي، محاولين الظهور خباثة بمظهر موضوعي.

الآن تدخل روسيا الاتحادية في مرحلة جديدة من الدعم لسورية، هي لم تخرج كلية منها، لكنها قدمت للمعارضة تطمينات مهمة بأن وجودها في سورية ليس احتلالاً، لم تصرخ أو تصرح بذلك من قبل، ولم تعقد مفاوضات تمتد لسنوات تضمن استمرار سيطرتها على الدولة التي تحتلها، كما هو حال واشنطن عندما تحتل بلداً ما، بل أرادت روسيا بالتنسيق مع الدولة الوطنية السورية، أن تجعل المعارضة الوطنية وربما جماعات مسلحة غير تابعة، الإقبال على الحوار مع الدولة من دون شكوك أو هواجس، والتوصل إلى ما تتفق عليه.

وأرادت روسيا الاتحادية بانسحابها، أن تقول لواشنطن وللمرة الأخيرة أنه لا مجال سوى الخروج بحل سياسي يضمن لها ولبعض التابعين بعض ماء الوجه، فمؤشرات ما يجري على الأرض السورية واضح المعالم، لصالح الدولة الوطنية السورية والشرعية، لصالح سيادتها واستقرارها ووحدتها أرضاً وشعباً وعلمانية لا طائفية أو إثنية أو مذهبية.

ولا بد أن واشنظن الديمقراطيين، المتعبة والمقبلة على انتخابات حامية وكسر عظم، يهمها أن تقدم إنجازاً لاستمرارهم في الحكم لسنوات أربع مقبلة، وإن تحقق وهذا حدث في حال صيرورته غير مسبوق منذ عقود في الولايات المتحدة أن يستمر الحزب الديمقراطي أكثر من 8 سنوات في الحكم فيما كان حظ الجمهوريين أوفر قبل مجيء أوباما. ولا بد أن بوتين تعامل مع نظيره الأميركي أوباما وهو يعلم ذلك، وأن التعامل مع خليفة أوباما الذي قد يكون جمهورياً قد يكون أصعب وقد يتخد سياسات مغايرة، تكرس المزيد من الاحتراب في المنطقة، وهو ما لا تسعى إليه روسيا، حيث لا أطماع عدوانية لها وإن كانت لها مصالح تتحقق سلمياً.

لقد قرّبت السياسات الروسية الحكيمة ومحور مناهضة عدوانات الغرب في المنطقة ومناطق أخرى، سواء منها الدبلوماسية أو العسكرية، إمكانية التوصل إلى حلول سلمية، قد تتحقق في سورية قريباً، وتتبعها في مناطق أخرى ومن هنا كانت انتقادات الرئيس الأميركي أوباما للعديد من التابعين قاسية، متنصلاً من سياساتهم التي جرّت عليهم وعلى واشنطن فشلاً ذريعاً.

بكلمات انسحاب روسيا من سورية ليس تخلياً عن دورٍ في المنطقة ولا خذلاناً لحليف، ولا رضوخاً لضغوط من أي نوع، بل وضع الطرف الآخر في الزاوية، بكل مكوناته معارضة وطنية وغير وطنية، دولاً وعصابات إرهابية: أن أمن سورية من أمننا.

عمان في 17 شباط ، 2016

m.sh.jayousi hotmail.co.uk

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى