عودة الدماء إلى الجريان في شرايين جسم تنظيم «القاعدة»
ميشيل حنا الحاج
توقع الكثيرون أنّ الدكتور أيمن الظواهري، الزعيم الحالي لتنظيم القاعدة الأم، لن تكون له القدرة على قيادة ذاك التنظيم، الذي تولى قيادته بعد مقتل مؤسِّسه أسامة بن لادن في غارة شنتها أجهزة المخابرات الأميركية، بالتعاون مع «المارينز» على مكان إقامته في باكستان.
وقدّر أولئك في حينه، احتمالات فشله لأسباب عديدة ومنها كون الظواهري لا يملك «الكاريزما» التي تمتع بها أسامة بن لادن، كما أنه لا يحظى بكمّ التأييد الذي كانت تمنحه جماعات طالبان لأسامة بن لادن نتيجة الصداقة الخاصة التي كانت تربطه بالملا عمر ـ أمير طالبان. كما أنّ سنّ أيمن الظواهري وهو أكبر سناً من بن لادن بقرابة العشر سنوات ما كان سيساعده على ممارسة أعمال قيادة التنظيم في ظلّ الجغرافيا الصعبة في أفغانستان التي اضطرت بن لادن إلى الانتقال منها للإقامة في باكستان ما يسّر إمكانية قتله، وهو، أي الانتقال، كان خطأ ارتكبه بن لادن، وبات من المتعذر على أيمن الظواهري أن يحذو حذوه بارتكاب خطأ مماثل.
أضف الى ذلك، أنّ وجود خليفة واضح لأسامة بن لادن، وكان رفيقه المقرب له، أي أيمن الظواهري، هو ما مكّن تنظيم القاعدة من البقاء حياً رغم ظروف الغزو الأميركي لأفغانستان، إذ حصل انتقال سلس للقيادة في التنظيم من بن لادن لأيمن الظواهري فور اغتيال بن لادن. أما أيمن الظواهري، فلم يبرز حتى الآن مرشحا لخلافته إذا ما أدت التطورات إلى مقتله، ما سيؤدي إلى احتمال تفكك القاعدة، وهو ما تعول عليه التقديرات الأميركية لتوجيه رصاصة الرحمة لذاك التنظيم بعد أن دخلت في حرب طويلة معه، وسعت إلى تفكيكه عن طريق تشجيع، أو غضّ النظر عن ظهور «الدولة الإسلامية»، كبديل له، نجح في استقطاب أكثر من ثلاثين تنظيماً ألغوا ولاءهم لتنظيم القاعدة وأعلنوا مبايعتهم لـ»داعش».
ويعزّز أهمية وجود خليفة للظواهري، التفكك الذي لحق بطالبان إثر وفاة أميرها الملا عمر دون تعيينه خليفة مرجحاً لخلافته في حالة وفاته. فالخلافات نتيجة عدم وجود خليفة واضح للملا عمر، قد دبت في صفوف طالبان، وهناك أمير لها اختارته مجموعة كبرى من الفصائل، لكن لم يوافق عليه الملا عمر ولا شقيقه، بل وانشقّ أحد ألوية طالبان ليشكل إمارة إسلامية تابعة لأبو بكر البغدادي وأسماها إمارة خراسان الإسلامية.
إلا أنه رغم كلّ هذه الظروف غير المواتية، والتي لم يكن أي منها في مصلحة الظواهري، استطاع هذا الطبيب أن يعالج بحكمة وسلاسة حالة ذاك التنظيم، وأن يتعامل بنجاح مع التطورات التي لم يكن أي منها في صالحه، ومنها ابتعاد بعض التنظيمات عن ولائها للقاعدة، إضافة إلى اشتداد العمليات العسكرية الأميركية في أفغانستان على مدى أربعة عشر عاماً، مع توجه إلى تمديد تواجدها هناك تحت مسميات مختلفة. فحافظ رغم كلّ الظروف الصعبة التي واجهها، على ما تبقى من تنظيمات موالية له، ومنها تنظيم القاعدة في اليمن، وتنظيم القاعدة في المغرب العربي، وتنظيم شباب الصومال في الصومال، وتنظيم جبهة النصرة، وبعض التنظيمات الأخرى التي لم تبايع بعد أبو بكر الغدادي. وهو الآن لم يعد يكتفي بالمحافظة على ولائها للتنظيم، بل شرع يحقن شرايينها بدماء الحياة، فعادت هذه التنظيمات، وبعد صمت طويل، إلى العمل والنشاط، مذكرة بأنّ تنظيم القاعدة الأم لم يزل حياً وقائماً ومتطلعاً إلى مزيد من تطوير نفسه… ليس في مواجهة الأميركيين فحسب، بل في مواجهة الدولة الإسلامية ـ «داعش» أيضاً، والتي باتت هي الأخرى عدوه اللدود الآخر.
ويعزّز هذا الاحتمال، تكاثر العمليات التي ينفذها شباب الصومال في الصومال، كما يعزّزها توسع «جبهة النصرة السورية المنتمية للقاعدة، في مدى سيطرتها منذ عدة شهور، على أراض سورية شملت السيطرة على محافظة كاملة هي محافظة أدلب. أضف إلى ذلك، اشتداد ساعد تنظيم القاعدة في اليمن، خصوصاً في جنوبه، إذ بات يسيطر على بعض المحافظات فيه، كما أخذ يشكل قلقاً متنامياً، يوماً بعد آخر، في مدينة عدن ذاتها ـ عاصمة الجنوب، بل العاصمة الموقتة للرئيس عبد ربه منصور هادي. ونتيجة لهذا القلق، بل الصداع الكبير، اضطر الرئيس هادي إلى البقاء في الرياض وعدم العودة إلى الإقامة في عاصمته الموقتة عدن، بل واضطر أيضاً طيران التحالف في عاصفة الحزم، ألا يكتفي بقصف مواقع الحوثيين كما اعتاد طوال العام الماضي من الحرب، إذ بات الآن مضطراً لقصف مواقع القاعدة في عدن والجنوب اليمني بين فترة وأخرى.
لكنّ التطور الأهم كان في أفريقيا، حيث ظهر التنافس الواضح بين القاعدة والدولة الإسلامية. ففي الوقت الذي كانت فيه «بوكو حرام» الموالية للدولة الإسلامية تصول وحدها وتجول في نيجيريا ومالي ودول أفريقية أخرى، ظهر فجأة منافس لها تمثل في تنظيم القاعدة في بلاد المغرب ويقوده كما قيل، مختار بلمختار، الذي نفذ عمليتين كبيرتين خلال شهرين من الزمان. وكانت الأولى في بوركينا فاسو التي نفذت قبل شهرين، والثانية نفذت قبل أيام قليلة في ساحل العاج. وفي كلتي العمليتين، تمّ قتل العديد من المدنيين وبعض السياح الأجانب. وها هي عملية كبرى قد جرت في مابغدوري في شمال نيجيريا، حيث جرى تفجير انتحاري في وسط مجموعة من المسلين، وحصد التفجير حسب الأنباء الأولية، عشرين قتيلاً. ولم يُعرف بعد من نفذ هذا الهجوم الجديد: هل هم بوكو حرام أم تنظيم القاعدة في المغرب.
فالصراع بين التنظيمين قد بدأ يتجلى بوضوح على الأراضي الأفريقية، في وقت تسعى فيه الدولة الإسلامية إلى تعزيز موقفها في ليبيا، فتوسُّع المساحات الليبية الواقعة تحت سيطرتها، وتركيزها على ليبيا لم يأت من باب التنافس مع تنظيم القاعدة فحسب، بل نتيجة خسارتها لأراض في العراق، وبعض المناطق أيضا في الشمال السوري الكردي، ومنها مدينة الشدادي التي توجد فيها آبار نفط كانت تغذي خزينة الدولة الإسلامية بالمال. وقدرت مساحة المناطق التي فقدت السيطرة عليها بعشرين في المئة من مساحة الأراضي التي كانت تسيطر عليها. وأكثر المناطق مساحة التي فقدت السيطرة عليها، كانت في العراق حيث خسرت الجزء الأكبر من محافظتي صلاح الدين والأنبار. وفي لقاء مع قناة «بي بي سي عربي» اعترف مقاتل من الدولة الإسلامية تمّ أسره في الشدادي، بأنّ غارات الطائرات الروسية والأميركية عليهم، قد أثرت على قدراتهم بنسبة سبعين في المئة.
ويأتي هذا التطور في وقت تبعه تطور آخر بدا مفاجئاً على صعيد مقاتلة الحركات الإرهابية بشكل عام، سواء انتمت للقاعدة أو للدولة الإسلامية. وتمثل ذلك بالقرار الذي أعلن فجأة، من دون أن يكون قد اتخذ فجأة، بل تقرر بعد مشاورات مع الرئيس بشار الأسد، بل ومع الولايات المتحدة كما أرجح، والتي حاولت أن تبدو متفاجئة به … بسحب معظم القوات الروسية من سورية مع الاحتفاظ بقاعدتي طرطوس وحميمين. فالقوات الروسية كانت تغير على «جبهة النصرة» التابعة للقاعدة، بل وعلى «أحرار الشام» أيضاً المرجح وجود صلات غامضة ما بينها وبين تنظيم القاعدة، إضافة إلى إغاراتها على مواقع الدولة الإسلامية في تدمر.
لكنّ قرار الانسحاب الجزئي على أرض الحقيقة والواقع، لم يكن قط مفاجئاً في اتخاذه، بل جاءت المفاجأة في توقيت إعلانه ليتناسب مع الشروع بمؤتمر جنيف ثلاثة، كدفعة لتعزيز ضررورة وصول المتفاوضين إلى اتفاق ما يبدأ بإعلان الإبقاء على وقف إطلاق النار، ويحول دون قيام المعارضة السلحة بمطالبة الولايات المتحدة بتزويدها بمزيد من الأسلحة، وخصوصاً النوعية منها كأسلحة مضادة للطائرات، الروسية طبعاً. فهذا الإعلان قد قطع الطريق عليهم، لتضاؤل خطر الطائرات الروسية عليهم نتيجة انسحاب الجزء الأكبر منها من سورية، كما أنه زود الولايات المتحدة بالمبرّر القوي لرفض الاستجابة لطلبات كهذه. أما الانسحاب الروسي، فلن يؤثر أبداً على مواصلة الطائرات الروسية قصفها لجبهة النصرة المنتمية للقاعدة في إدلب، وتنظيم الدولة الإسلامية في تدمر، في وقت تواصل فيه أيضاً الولايات المتحدة في قصف الدولة الإسلامية في الأنبار، مع مواصلة قصفها وقتالها في أفغانستان ضدّ القاعدة وطالبان في آن واحد.
ومع ذلك، فإنّ هذه التطورات التي لا تعمل لمصلحة الدولة الإسلامية في سورية والعراق، أو لمصلحة القاعدة في سورية جبهة النصرة أو القاعدة في اليمن، لن تؤدي إلا إلى زيادة التركيز من قبل هذين التنظيمين، على وجوب التوسع في أفريقيا، خصوصاً في ليبيا ونيجيريا ومالي وساحل العاج، وفي غيرها من الدول الأفريقية التي باتت مستهدفة لتنافس الفريقين… أي القاعدة والدولة الإسلامية.
عضو مستشار في المركز الأوروبي العربي لمكافحة الإرهاب ـ برلين عضو في مركز الحوار العربي الأميركي ـ واشنطن