حدود الدم
أسامة العرب
قال الرئيس «الإسرائيلي» الأسبق شمعون بيريز في كتابه الذي أسماه «الشرق الأوسط الكبير»: «لقد جرّب العرب قيادة مصر للمنطقة مدّة نصف قرن، فليجرّبوا قيادة إسرائيل إذن»، ويعتبر هذا الكتاب بمثابة أوامر بيريز «المقدّسة» للاعب الشطرنج الأميركي، ليبدأ بتنفيذ خريطة طريق جديدة تحدث التغييرات الرئيسية التي يحلم بها في أنظمة الدول العربية والإسلامية، تمهيداً للهيمنة عليها.
وهذه هي الرؤية نفسها التي سعى إلى إخراجها برنارد لويس، الأستاذ المتقاعد في جامعة برنستون والمنظّر للسياسات الصهيو أميركية في المنطقة، وهي الرؤية ذاتها التي بشّر بجزء بسيط جداً منها المحافظون الجدد عام 2006، وأخفوا الكثير، تحت عنوان «الشرق الأوسط الجديد عوضاً عن الكبير »، والتي تدور اليوم السياسة الأميركية في فلكها. ففي العام 1983، أقرّ الكونغرس الأميركي بالإجماع، في جلسة سرية، «مشروع لويس»، وتمّت بذلك قوننة هذا المشروع واعتماده وإدراجه في ملفات السياسة الأميركية الخارجية الاستراتيجية، لـ«تصحيح مسار حدود سايكس بيكو بما يوفر الغطاء لاحقاً لإقامة الدولة اليهودية الكبرى».
وبحسب صحيفة «وول ستريت جورنال» فقد أرفق لويس خرائط تقسيم الدول بهذا المشروع على الشكل الآتي:
في العراق ثلاث دويلات هي: دويلة شيعية في الجنوب حول البصرة، ودويلة سنية في وسط العراق حول بغداد، ودويلة كردية في الشمال والشمال الشرقي حول الموصل كردستان وتقوم على أجزاء من الأراضي العراقية والإيرانية والسورية والتركية والسوفياتية سابقاً .
أما في سورية، فأربع دويلات هي: دويلة علوية ـــ شيعية على امتداد الشاطئ ، ودويلة سنية في منطقة حلب، ودويلة سنية حول دمشق، ودويلة الدروز في السويداء والجولان وجنوب لبنان الأراضي الجنوبية السورية وشرق الأردن وجنوب الأراضي اللبنانية . وبالنسبة لتركيا، فيقترح المشروع انتزاع جزء منها وضمّه إلى الدويلة الكردية كردستان الحرة المزمَع إقامتها في شمال العراق.
وفي لبنان، ثمانية كانتونات عرقية ومذهبية، هي: دويلة سنية في الشمال عاصمتها طرابلس، ودويلة مارونية شمالاً عاصمتها جونيه ، ودويلة سهل البقاع الشيعية عاصمتها بعلبك ، وبيروت الدولية المدوّلة ، وكانتون فلسطيني حول صيدا حتى نهر الليطاني تسيطر عليه السلطة الفلسطينية، وكانتون في الجنوب يعيش فيه المسيحيون مع نصف مليون من الشيعة، ودويلة درزية في أجزاء من الأراضي اللبنانية حاصبيا والسورية والفلسطينية المحتلة ، وكانتون مسيحي جنوبي خاضع للنفوذ «الإسرائيلي».
أما الأردن فيقضي المشروع بتفتيته وتحويله إلى دولة فلسطينية تضمّ فلسطينيّي الداخل أيضاً.
وبالنسبة إلى شبه الجزيرة العربية ودول الخليج فيقضي مشروع لويس بتحويلها كلّها إلى ثلاث دويلات فقط هي: دويلة الإحساء الشيعية التي تضمّ الكويت والإمارات وقطر وعمان والبحرين، ودويلة نجد السنية، ودويلة الحجاز السنية على أن تذوب اليمن وفقاً لهذا المشروع في دويلة الحجاز .
أما بالنسبة لمصر فأربع دويلات: سيناء وشرق الدلتا تحت النفوذ اليهودي . ليتحقق حلم اليهود من النيل إلى الفرات، ومن ثم دولة إسلامية تمتد من شرق الدلتا إلى المنيا وعاصمتها القاهرة، والدولة الثالثة مسيحية من غرب الدلتا إلى مطروح ووادي النطرون وعاصمتها الإسكندرية، والدولة الرابعة النوبة تمتد من أسيوط جنوباً إلى جزء من شمال السودان. وفي السودان أربع دويلات أيضاً: دويلة النوبة التي تتكامل مع دويلة النوبة في الأراضي المصرية التي عاصمتها أسوان، ودويلة الشمال السوداني الإسلامية، ودويلة الجنوب السوداني المسيحية، ودويلة دارفور.
وبالنسبة إلى دول الشمال الأفريقي، فإنّ «مشروع برنارد لويس» يرمي إلى تفكيك ليبيا والجزائر والمغرب بهدف إقامة: دويلة البربر على امتداد دويلة النوبة في مصر والسودان، ودويلة البوليساريو، ودويلات المغرب والجزائر وتونس وليبيا.
كما لم يكن برنارد لويس آخر من فتت العالم العربي والإسلامي بهذه الطريقة الخبيثة، بل إنه نال كضابط أميركي سابق يدعى رالف بيترز نشر في العام 2006 مقالاً بعنوان «حدود الدم»، حيث تحدثت فيه مجلة القوات المسلحة الأميركية بوضوح وتفصيل عن خطط التقسيم، وألحقت بمقالها خريطة الدويلات الجديدة التي سوف تظهر في العالم العربي، مشيرةً إلى وجوب إدراك الغرب أنّ كلّاً من العراق وسورية ولبنان وباقي الدول العربية مخلوقات اصطناعية، وأنّ القومية العربية هي الخطر الحقيقي على الغرب والحل يكمن في إقامة دويلات جديدة طائفية وعشائرية.
وتأكيداً لصحة هذا المشروع، صرّح مؤخراً رئيس الأركان الأميركي الجنرال رايموند أديرنو، بما حرفيته التالي: «إن تقسيم العراق قد يكون الحل الوحيد لوقف العنف الطائفي الفالت من عقاله، وينطبق أيضاً على سورية الغارقة في دمائها، وعلى لبنان الذي يعيش حالاً من الاهتراء السياسي والاجتماعي والأمني لن تلبث أن تتفجر إلا عنفاً». أيّ أنّ مخططات تقسيم الدول العربية والشرق أوسطية انطلقت ولم تعد عملية سرية، بل إنها عملية قديمة جديدة صارت مكشوفة للجميع، إنما الجديد فيها اليوم فقط هو أدواتها وذرائعها وآلياتها، فتتغيّر التعريفات والتنظيرات والذرائع لمخططات التقسيم الغربية من «سايكس بيكوـ 2»، إلى برنارد لويس وصامويل هانتنغتون، ومن «الشرق الأوسط الكبير» إلى «الجديد» إلى «الفوضى الخلاقة» و«صراع الحضارات»، إلا أنّ المخطط هو نفسه، وما يزال مستمراً. وتفسّر خرائط لويس ما يجري العمل على تحضيره مستقبلاً، ولماذا تستخدم أميركا الفتن المذهبية والطائفية في العالمين العربي والإسلامي لإثارة القلاقل والنزاعات العنصرية لتفتيت المنطقة.
ولكنّ ما لا تدركه الويلات المتحدة الأميركية أنها مذّ خرجت من الحرب العالمية الثانية مُنيت بهزائم عديدة، فهي هزمت عندما حاولت غزو كوبا فيما عُرف بعملية خليج الخنازير عام 1961، حيث يقول الأميركيون إنّ تلك المغامرة كانت أسوأ عملية تقوم بها القوات الخاصة والمخابرات الأميركية. كما هُزمت أيضاً في فيتنام عندما عملت على الإطاحة بالرئيس الفيتنامي الجنوبي دينديام نوفمبر 1963 حيث بلغت خسائرها أكثر من 78 ألف قتيل، بل إنّ عقدة فيتنام ما زالت تشكل هاجساً مخيفاً لكلّ الجيش الأميركي. وهزمت أميركا كذلك في كوريا، حيث بلغ عدد ضحاياها هنالك 150 ألف قتيل ومن ثم تراجعت مذلولة بعد الهزيمة المدوّية التي لحقت بها. كما هزمت أميركا أيضاً في العراق واضطرت للانسحاب منه بعدما بلغ عدد خسائرها البشرية 55 ألف قتيل.
إنّ ما تقدّم يؤكد لنا كم هو سهلٌ جداً أن نهزم مشاريع أميركا الاستعمارية الواهية، لا سيما مشروعها العبثي بنشر «الفوضى الخلاقة» أو «البناءة» في بلادنا والتي لا نراها خلاّقة اللّهم إلا للفتن المذهبية والطائفية، ولا بنّاءة كذلك إلا للدولة اليهودية الكبرى من النيل إلى الفرات ، ذلك أنّ شعبنا الأبيّ المقاوم يأبى أن يُحقق حُلم شمعون بيريز بإقامة دولته الصهيونية الكبرى من النيل إلى الفرات على أراضينا، ويأبى أيضاً أن يبسط هذا اللئيم هيمنة موساده علينا، ويأبى كذلك أن تُمَارس تلك الأخيرة سياسات الذلّ والهوان على كبارنا ونسائنا وأطفالنا، ويأبى أيضاً أن تهدم مُقدّساتنا وأن تُدنس شعائرنا، ولذلك فإننا سنقاوم ونقاوم ونقاوم حتى تحقيق الانتصار، فواهمٌ هو كلّ من يظنّ أنّ باستطاعته أن يحوّلنا جميعاً إلى كانتونات فئوية مذهبية متصارعة، خاضعة مباشرةً لمظلة الهيمنة «الإسرائيلية»!
محام، نائب رئيس
الصندوق المركزي للمهجّرين سابقاً