علي عزّت لـ«البناء»: القارئ هو مَنْ ينصف الإبداع من الابتذال لا الزمن
حاورته: نسرين كمال
محرّر ثقافيّ في مجلة «كلاويز»، وعضو إعلامي في المهرجان الثقافي السنوي الذي تنظّمه «كلاويز»، إنّه الكاتب والمسرحيّ علي عزّت، ذو الجعبة الغنية بالمسرحيات عن الطفل والمرأة. حائز على ثلاث جوائز من منظّمات محلية وعالمية، وله مساهمات في الكتابة شعراً ونقداً.
«البناء» التقت الكاتب علي عزّت، وكان هذا الحوار الشيّق الذي يتناول جوانب عدّة من تجربته الثقافية والإبداعية.
أنت شاعر، ممثل ومخرج مسرحي، كيف تصف علاقتك بهذه الفنون، ومتى تكون على تماسّ مع ذاتك أكثر؟
ـ لا أستطيع أن أعرّف نفسي بتلك الألقاب، فأنا أمارس تلك الفنون لأجل متعتي فقط. أحلّل وأقرأ وأكتب، لكن هذا لا يعني أن أكون ناقداً، لأنّ الكتابة في النقد لها أساليبها ومدارسها ومتعتها الخاصة. قبل كتابتي أيّ نصّ أكون قد مارسته سلوكياً، وعند التدوين نلغي كلّ مفهوم السيرة كي لا يكون النصّ خادماً أو عبداً. فأنا أكتب لقارئ حرّ ـ حرّيته كفيلة لمعرفة القضايا الكبرى ـ وما ينزل علينا من النصوص كتابات إذا ما أفرغتها من القضايا الكبرى فلن تعود نصوصاً. وحده الكاتب الحرّ له القدرة في إلزام القضية بنصّه لأنه خلق آخر، وبهذا المعنى سيكون من المؤكد من أنني أزاول مسودّات كتاباتي بممارستها، أقتلها فتحييني. بين يديّ قارئ حرّ نصّاً مخلوقاً جديداً فليس من المنصف أن أضع مبادئي وتجاربي على رفّ تزييني لصمدها كما أيّ نص تحت غبار. أما المسرح فهو انتشالي من اليومي الذي يتلصّص على ما سأرتكبه من أخطاء في الحياة.
لقد ألّفت المسرحيات للأطفال اللاجئين وإخراجها وتنفيذها في ظروف ليست بالمؤاتية. حدّثنا عن تلك التجربة وأثرها في مسيرتك، وعلى جمهورك «الخاص جدّاً».
ـ بدأت مع طفل في مخيّمات جنوب «كردستان العراق». جميع أطفال المخيّم كانوا ممثلين وفنانين. فلمجرّد دخولي إلى المخيم، يتحوّل المكان إلى مسرح كبير، وتصير نصوص المسرحية مثل الأناشيد والأغاني، يردّدها الأطفال بصوت عال أمام أبواب المنظمات والجهات المعنية، ويتبادلون الأدوار من تلقاء أنفسهم، ولا يتردّدون في استعارة الديكور من مكاتب المنظّمات. «ليصنعوا مسرحاً ميدانياً». لم أستطع أن ألقّن الطفل دور الممثل. تركته يكسر ويحطّم يزخرف ويبني كما الحرب لدرجة أنني لم أكن قادراً على عنونة المسرحيات، لتستريح النصوص أرقاماً كما اللاجئين في المخيّمات، تركتها للأرقام 00963 . فالنصوص في مخيّمات اللجوء لاجئة. نصوصي المسرحية هذه ـ والتي لم تكن تحمل اسماً لكاتب ولا رقماً لإصدار ولا شعاراً لوغو خاصاً بأيّ دار نشر ـ كانت تتكاثر وتوزّع في المخيّم حتى تصل في بعض الأوقات إلى أكثر من 300 نسخة. الأطفال كما الأحلام لا يستأذنون الحبّ. الطفل فنان كبير يحوّل الكبار إلى لعبة حقيقية كأن يسألك أحدهم لماذا أكون طفلاً ما دمت أقوم بدور الممثل يا أستاذ؟
تغصّ جرائدنا اليوم باللغو الذي يتّسم بالأناقة الخارجية، والفراغ من حيث المضمون شعراً ونقداً. ما تعليلك لهذا التدفق المقلق؟ وإذا كان الزمن كفيلاً بتصفية الإبداع الحقيقي، أفلا يجدر بنا الدفاع عن الحسّ النقديّ الأصيل في وجه ما هو محض ادّعاء؟
ـ كما تقولين، هي لغة جرائد سريعة وخفيفة وبسيطة. كما أنّني أعتقد أنّ القارئ من ينصف الإبداع من الابتذال لا الزمن. النصّ المبدع والكاتب الناضج هما اللذان يمسكان بتلابيب الزمن ابتداءً من بناء اللحظة. وهذا البناء قد يتطلّب حضور كلّ الأزمان مجتمعة. هناك نصوص تفرض نفسها وأخرى تفرض كاتبها، والنصّ الأجدر بالخلق هو النصّ الأجدر بالحياة والبقاء. بالتوازي مع هذا الخلق يجب أن يسير النقد أيضاً. اليوم تتحرّر الكتابة من أساطيرها ويلجم النقد، لا بل يمنع استدراكه ويتحوّل إلى ملقّن أخلاقي وديني. بغياب النقد ستتكاثر النصوص الفطرية الحسّية صادقة الطابع وستحارب في الميدان، وتحرّر المرأة، وتنال الجوائز لأنها تحارب «داعش» وأخواته، لكنها ليست نصوصاً معنية بالخلق والإبداع. هي تقاير صادقة وحسّية موثّقة بالقلم. نستطيع أن نتلمس غياب النقد من خلال غياب الفكاهة والأدب الساخر. كيف نفسّر تحوّل الكاريكاتير إلى خطاب أيديولوجي تقريريّ واضح ووصفات سياسية تركّب في مطابخ الاستهلاك اللحظي من دون أن توسّس لتراكم إبداعي ومعرفي؟
هل نستطيع أن نكتب أدباً حديثاً في حين أننا لم نصنع حداثتنا بعد؟
ـ أفضل ردّ على هذا السؤال كانت دموع المفكّر المعلّم الطيب تيزيني. فلقد فقدنا القاع والسقف، ولسنا معلّقين أيضاً. إننا ننتظر كيف يمكن لجاذبيتنا أن تتفاعل مع هذا الفضاء سواء كنّا عناصر مادية أو حسّية. من الصعب إخضاع الحداثة لمقياس واحد. هي مفهوم شامل يرتبط بحقول معرفية عدّة وبعضهم يعرفها على أنها تشير إلى سيرورة الأشياء أو إلى طفرة ما بين القديم والتقليديّ. وكل تجاربنا النصّية التي تستشرف واقعاً راهناً لا بدّ لها أن ترتكب حداثتها بطريقة ما.
متى يدهشك نصّ ما؟ وما هي الشعرية بالنسبة إليك؟
ـ القصيدة التي تعترف بجهلك ستجعلك تدهش، لأنها تشكّل سؤالاً لا يمكن تصديقه. أمّا محبّو الرعشة الشعرية فهم مستعدّون مسبقاً لتقديس أيّ نصّ أو آية. كما ينبغي علينا أن نعترف اليوم بأنّ الشعر سهل، ولكن تصديق هذه السهولة سيكون كفراً بوّاحاً، لأننا ببساطة سنفقد إيماننا بعالم التدوين والكتابة وربما التاريخ. تجاربنا اليوم برهان على وجود الشعر وأصالته، ولذلك يجب علينا ألا نتوقّف عن تقديم البراهين.
ما هي خياناتك الأشدّ وفاءً؟
ـ بصراحة، لا أعرف متى أكون خائناً أو وفيّاً. وإذا كان لا بدّ من إجابة، فأستطيع القول حينئذٍ إن كأساً من العرق البلدي هي الأشدّ وفاءً في عصر الخيانات الواعية.