«بطن الحوت»… تعيش اضطراباً مفتعلاً بين الحكاية وهاجس الحسّ الفنّي!
النمسا ـ طلال مرتضى
للحكاية أكثر من وجه، والولوج إلى مضمر الحيثيات يحتاج إلى عبور آمن ليس للاجتهاد الفطري أدنى سبب كي يجعل من المصادفة أمراً محقّقاً للقبض على خيط رفيع في طرفه الآخر النصف الثاني والمغيّب من المعادلة. نظرياً، تبدو الحكاية مخاتلة الأوجه، وفي ما يسقطه العوام نقول «الفهلوة». عملياً، الحبكات كثيرة الخيوط قد تؤدّي في لحظة ما إلى إرباك النوال أولاً، وقد تبدو كمغامرة تستدعي التوقف في بعض مفاصلها. في المروية الجديدة «بطن الحوت» التي وقّعتها اللبنانية الأديبة صونيا صالح عامر، والصادرة عن مؤسّسة «الرحاب الحديثة للطباعة والنشر والتوزيع» البيروتية، ثمة خيوط كثيرة ضائعة، لربما عن قصد. وهذا ما أدحض تماماً، لأن الكاتبة التي اجترعت هذا المعمار اللغوي الرصين، من الجمل القصيرة والتي تنهال مثل كثيب رمل تذروه الريح، عبر ذائقة القارئ العليم الذي عانى كثيراً أثناء مسير القراءة من تبعيات السباق بين التلذذ بالمعاني والجمل ـ الذائقة ـ وبين العين الراصدة لذبذبات ـ الصياد ـ السلك الحسي الذي تشكل لا إرادياً كحبل سرّي بين اللهج لصيد الفكرة وبين التذوّق لمفرزها. في ما ابتدعته الكاتبة كحامل للمروية ـ القصة أو الحكاية ـ والذي نحى بدلالاته المؤطرة داخل سلطة الغلاف صوب ما يطلق عليه مجازاً «التخيّل» كفعالية تعبيرية، عمادها الخيال، نهج لتوظيف الخيال في نسيج العمل الأدبي، وذلك عندما تم انتقاء ألف شخص مناصفة ما بين ذكر وأنثى، وجلّهم من الأزواج، للقيام برحلة غير معلومة النهاية، داخل بطن حوت صمّم للغاية، إذ إنّ المسافرين قبلوا التنازل عن كلّ شيء في حياتهم العادية، لأن الرحلة المأمولة لا تخضع لسلطة الموت ولا لسلطة كبّر السن ولا المرض ولا النوم، وشرطها الوحيد أن يتنازل المسافر عن شخصيته الحقيقية بشخصية أخرى، لا تمكّن الزوج من معرفة زوجته والعكس تماماً. وهذا ما يجعل الرحلة ماتعة بحيث يستطيع أيّ مسافر أن يتفق مع مسافرة على التعيين ليعيشا حياتهما الجديدة من دون أيّ منغصات. وهنا لا بدّ من دفع فاتورة أخرى ألا وهي في حال تعرّف أحدهم إلى شخص ما بشخصيته الحقيقية، وهذا يشي بفشل الشخص الذي لم يعرف المحافظة على سرّه، فيكون عقابه أن يرمى في البحر كطعام لأسماك القرش.
من خلال افتعال سرديّ شائق، وهو أشبه باستبيان على بعض شخصيات ممن قرّروا الاشتراك برحلة الخلود، نمسك بعض الخيوط التي تشي بأنهم ينتمون إلى طبقة راقية، جعلت منهم سلطة المال أناساً يعانون الكثير من أمراض العصر، كالخيانات الزوجية وتعاطي المخدّرات وغير ذلك، ما جعل حياتهم خواء. وهذا سبب رئيس بدفعهم نحو تلك المغامرة. ثمّ تدخلنا الكاتبة إلى صلب سرديتها لنعيش بعضاً من أحداث الرحلة بتناقضاتها والحياة البهيمية في الداخل والتي بدأت بالمتعة لتنتهي بالضجر والوجع، حيث يتعرّف مسافر إلى زوجته التي يحبّها، من خلال رائحة ما يفرزها جلدها وهي تمارس الجنس مع آخر، ليعيش صراعاً قاتلاً وهو لو قال إنها زوجته سوف تكون طعام للقرش، وإن صمت فهي طامة أكبر. إلى أن يبدأ التململ بعد أن يكتشف أن إحدى المسافرات حبلى وقد تعرّضت لاغتصاب، وهذا ما حتّم التخلص من الجنين لتدخل المرأة في غيبوبة ثم تموت. وهنا الانهيار الذي بدأ على خطّين، الأول هو التفكير بإنهاء هذه الرحلة ووضع حد لها، في ما بين المسافرين والذين قرروا القيام بانتحار جماعي. والخط الثاني بين الكاتبة وقارئها وهي أنها قد وضعت للأخير الكثير من المغريات لاستكمال القراءة، مثل اللاموت واللامرض وغير ذلك، ما يستدعي المتابعة للامساك بالخواتيم والتي لم تأت متناغمة مع المطالع، حيث يتلمس القارئ لهاث الكاتبة للوصول إلى النهاية بأسلوبية «الأكشنة» وكأننا في حضرة فيلم أميركي ليس إلا. وذلك لأنه عاش ـ أي القارئ ـ لفترة سردية شيّقة، بحالة تخديرية مكينة لعبتها الكاتبة، عندما سلّمته جزءاً ما منها لتترك له الخيار مجبراً بالركض لالتقاط النصف الآخر من القصة. وبحسب زعمها بالقول إنّ لكل قصة نصفاً آخر، هو النصف الصحيح، وهو الذي لا نعرفه، ولكن هناك من نصادفهم في حياتنا على استعداد لسماع النصف الآخر للقصة بأذن صاغية وحسب. والذي انكشف في النهاية، أن رحلة الخلود ليست سوى خدعة مدروسة، هدفها الاستيلاء على ممتلكات هؤلاء الأغنياء، خطّط لها مهندس بارع. القارئ العليم والمتتبّع خطوط المروية يتلمس في ما تناولت الكاتبة ـ أي الطريقة والكيفية ـ وعبر معمارها البنائي للنصّ ـ أي الشكل الكلّي ـ كانت تسعى بكلّ طاقتها إلى ضخّ نصّها بحسّ فنّي عال ـ أي استخدام تقانات الصورة والخيال، بشكل لا يفارق مدى قدرة مفارقة الواقع، وجعله فنياً وكيف يحمله على الفنّ ـ ولا أستغرب يوماً أن أرى «بطن الحوت» فيلماً سينمائياً.