عقارب الساعة الإقليمية بتوقيت بوتين… أصداؤها تثبِّت معادلة تعدّد القطبية

حيثيات الانتخابات التمهيدية لا زالت تحتلّ المساحة الأوفر من اهتمامات الرأي العام ودوائر صنعه من وسائل إعلام متعدّدة ومراكز أبحاث ومؤسسات عامة. واشتدّت وطأة التنافس لدى الحزبين ومرشحيهما، دونالد ترامب وهيلاري كلينتون، واللذين سينالان ترشيح حزبيهما، على الأرجح.

سيستعرض قسم التحليل آفاق إعلان روسيا «المفاجئ» لسحب قسم كبير من قواتها العاملة من سورية، وانعكاساتها على الجدل الأميركي والرؤى المستقبلية في ظلّ شبه إجماع بأنها «حققت المهام المطلوبة منها».

عقيدة أوباما

أثارت سلسلة مقابلات مع الرئيس أوباما ردود فعل متباينة لدى مؤيديه، ومشاعر الإحباط لدى خصومه لما اعتُبر تقويضاً لمكانة وهيبة الولايات المتحدة وتنديداً بحلفائها التقليديين. وأعرب معهد هدسون عن اعتقاده بأنّ المقابلة المنشورة في مجلة «أتلانتيك» تشير الى انّ أوباما ينظر الى «حلفائه كمصدر إزعاج في غالب الأحيان، اذ وصف كلاً من فرنسا والمملكة المتحدة بالمتسلّقين». واضاف انّ رواية أوباما تشير الى مشاعر الغبن والضغينة التي تملّكته لعدم تنفيذ «ديفيد كاميرون ونيكولا ساركوزي وعودهما لشغل مركز الصدارة في الإطاحة بنظام معمّر القذافي، فالأول انشغل بأمور أخرى والثاني أثبت انه متباه». وأضاف معهد هدسون انّ الرئيس أوباما «دهش لتلك المباغتة وتوصّل الى قناعة مفادها انه لا يمكن للرئيس الأميركي ان يقود من الخلف، وأضحى غاضباً من عدم القدرة على تطويع الواقع لأحلامه».

في المقابل، اعتبر معهد بروكينغز سلسلة المقابلات المشار اليها بأنّ الرئيس أوباما «نجح في الظهور بمظهر شخصية تكنوقراطية حديثة، تتميّز بالقدرة على التكيّف والصمود امام مشاعر الحياة السياسية المثيرة». واوضح انّ أوباما «يتمتع بالحكمة والروية بينما خصومه متهوّرون، واثبت انه رئيس تحرّكه ضوابط ايديولوجية يتحلى برؤية عالمية متطوّرة، بل متماسكة فلسفياً». واردف المعهد انّ الرئيس أوباما «لم يكن ذكياً فحسب، بل عبقري» في سرديته.

سورية

انفرد معهد كارنيغي من بين أقرانه في مراكز الأبحاث الأخرى بإسباغ تفسير واقعي لإعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سحب قواته «نظراً لبلوغه كافة أهدافه». وأضاف انّ روسيا «غير ملتزمة ببقاء الأسد بصرف النظر عن الكلفة، وما تبنّيها لوثيقة الحلّ السياسي إلا ترجمة لرؤيتها بأنّ المسار السياسي والمرحلة الانتقالية ستفضيان الى رحيل الأسد، بكرامة دون ان يواجه مصيراً مشابهاً لمعمّر القذافي». واستدرك بالقول انّ «وقف إطلاق النار الراهن هشّ مما يعزز أهمية الخروج الآن» من سورية. واستطرد بالقول إنْ أثبت وقف إطلاق النار فعاليته «سيكون بوسع روسيا إعلان النصر. اما انْ اندلعت الاشتباكات مرة أخرى، فانّ المسؤولية لن تقع على كاهله».

جدّد معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى نظريته حول إنشاء مناطق آمنة في سورية «وضمّ إسرائيل للمناقشات المعنية بالمناطق الآمنة، بل مساهمة إسرائيل في المستلزمات العسكرية». وأوضح انّ «إسرائيل يمكنها ان تلعب دوراً مساعداً فعّالاً من خلال مشاركتها المعلومات الاستخبارية حول الديناميات على الأرض وتقديم بعض المساعدة الإنسانية». وفي حال «نجاح اقامتها، فكيف ستردّ إسرائيل على ذلك». وأوضح انّ الإجابة «تعتمد جزئياً على موقع المنطقة. اذ من غير المتوقع ان تحرك إسرائيل ساكناً رداً على إنشاء منطقة على الحدود الشمالية مع تركيا، وقد تقدّم بعض الدعم لإنشاء منطقة آمنة على طول الحدود الاردنية السورية، نظراً لأهميتها من وجهة نظر عمّان». واستشهد المعهد بدراسة صادرة في شهر كانون الأول/ديسمبر الماضي قام بها مسؤولان في الشؤون الأمنية «الاسرائيلية»، واللذان أعربا عن انّ لـ«إسرائيل مصلحة استراتيجية والتزاماً طويل المدى بضمان سلامة المملكة الأردنية الهاشمية وأمنها واستقرارها وازدهارها»، مستطرداً انّ «إسرائيل توفر الدعم للأردن على صعد متعدّدة أبرزها مساعدته في تحمّل اعباء هجرة اللاجئين السوريين بأعداد كبيرة». وخلص بالقول انّ «بإمكان منطقة آمنة في الجنوب السوري ان تخدم كافة تلك المصالح». واستدرك قائلاً: «إنّ معظم تلك التوصيات قدّمت قبل التدخل العسكري الروسي، اما اذا عارضت روسيا انشاء منطقة آمنة في الجنوب، فمن غير المرجح ان تساهم اسرائيل عسكرياً في الجهود المبذولة لهذه الغاية».

«الدولة الاسلامية داعش»

أجرى معهد الدراسات الحربية تجارب نظرية على جملة خيارات محتملة من شأنها «توفير الأسس العملية لجهود الولايات المتحدة بتدمير تنظيمي داعش والقاعدة في العراق وسورية». واوضح انه ينبغي «تحقيق أربعة اهداف استراتيجية لضمان المصالح الوطنية الحيوية وتـوفير الأمن للوطن». وحدّد تلك المهام: تدمير تجمعات العدو إنهاء الحروب المذهبية والطائفية وضع قواعد صارمة لضمان عدم اعادة تشكيل تجمعات العدو تخليص العراق وسورية من النزاعات الاقليمية والدولية.

ليبيا

حذر مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية الدول الغربية المعنية من مغبة قصف مواقع داعش في ليبيا، لما سيتركه من تعقيدات «على جهود استعادة الاستقرار» هناك. واضاف «قبل ان نضيف حرباً رابعة في الإقليم، بعد العراق وسورية واليمن، ينبغي علينا التقدّم باستراتيجية متماسكة لتحقيق الاستقرار بالتزامن مع استهداف داعش». ونبّه صنّاع القرار الى انه يتعيّن «كسب تأييد المجموعات الليبية المسلحة الأخرى لقوات خارجية على أسس دائمة، وإبراز قدرة المجتمع الدولي على توفير الدعم لليبيا بغية ترسيخ عملية حكم نافذة، واستغلال عائداتها النفطية لتوفير احتياجات المدنيين الملحة والتوجه بعدئذ الى شؤون التنمية». واستطرد بالقول انّ التوجهات الغربية الراهنة «لشنّ حرب، تقترب من تعريف الجنون التقليدي ايّ تكرار ذات الأخطاء وتوقع نتائج مغايرة». وحث صناع القرار على انّ المضيّ بشنّ «حرب رابعة، تستوجب تأييد من الكونغرس والشعب والحلفاء أيضاً، او عدم القيام بها في المقام الأول».

أفغانستان

أعرب مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية عن اعتقاده بأنّ إدارة الرئيس أوباما لا تولي أهمية كافية لأفغانستان، مذكراً بأنه لا ينوي المطالبة «بتعزيز مزيد من القوات الأميركية والانخراط في عمليات عسكرية مجدّداً» هناك. بل المطلوب رفد عديد القوات الراهنة «بعدد كافٍ من المستشارين، وتوفير تعزيزات جوية منقولة للقيام بمهام الطوارئ، ووحدات من القوات الخاصة والحرس، لنحو 18،000 عنصر كحدّ أقصى وربما أقلّ من ذلك بكثير». وحث صنّاع القرار على اعتماد «نجاح القوات الأفغانية كمقياس لحجم تخفيض القوات الاميركي ، وليس بناء على مواعيد نهائية بشكل تعسّفي، مما سيحفز القوات الأفغانية القيام بمهامها وهو العنصر المفقود حاليا».

حلف الناتو

انعقاد قمة دول حلف الأطلسي، في شهر تموز المقبل، كان محور اهتمام صندوق مارشال الألماني لترابط الاهتمامات «بالأزمة السورية وشرقي البحر المتوسط». وحث الدول المشاركة على «اتخاذ عدد من الخطوات لتعزيز هيبتها في الشطر الجنوبي، منها باستطاعة الحلف إنشاء قوة إنذار أكبر خارج بحر ايجه، ونشر وحدات من قوات الاحتياط في شرقي ووسط البحر المتوسط من مقرّها في القاعدة البحرية والجوية في سيغونيلا واتخاذ مبادرات جديدة من شأنها ردع الأخطار على أمن تركيا وسيادة أراضيها، بما فيها تنامي التواجد العسكري لروسيا في المنطقة تكريس موارد اضافية ودعم سياسي لمشروع الحلف – بحوار المتوسط ومبادرة تعاون اسطنبول». ولفت الصندوق انظار أعضاء الحلف الى «انفتاح واستعداد المنطقة العربية عقد تعاون اكبر مع حلف الناتو، والتي عادة لا يتمّ الاقرار بها».

مفاجأة تستثني الأردن

أجمعت كافة الاوساط الاميركية والاوروبية على انها أخذت على حين غرة بقرار الرئيس الروسي سحب قواته الجوية العاملة في سورية «لتصادف الذكرى الخامسة» للأزمة السورية، باستثناء الأردن الذي اعلن انه «أخذ علماً مسبقاً بخطط الرئيس بوتين، منذ مطلع العام الحالي»، حسبما افاد «مسؤول اردني رفيع» لاحدى وكالات الانباء الاميركية.

ابرزت الصحف الاميركية «صدمة» المسؤولين الاميركيين من قرار الرئيس بوتين، ووصفته يومية «واشنطن بوست» بأنه «انسحاب مفاجئ، أعاد ترتيب خطوط الصراع الطاحن، ووطد نفوذ موسكو ليس في ساحة المعركة فحسب، بل على طاولة المفاوضات أيضاً». واستطردت انّ القرار «حظي باهتمام ديبلوماسي فوري من الولايات المتحدة، وترتب عليه الإعداد لزيارة وزير الخارجية جون كيري إلى موسكو، لبحث ترتيبات الانسحاب وخيارات المرحلة السياسية الانتقالية في سورية».

الناطق الرسمي باسم البنتاغون، بيتر كوك، علق فور إعلان الرئيس بوتين، 14 آذار، انّ وزارة الدفاع «تنتظر لترى، مثل الآخرين، ما بوسع الروس فعله في ما يخصّ الإشارة الى انسحاب جزئي، كما جرت العادة على امتداد الاشهر الستة الماضية، سنقوم بتقييم الخطوة الروسية استناداً الى الأفعال، وليس الأقوال». واستدرك بالقول انّ البنتاغون «سترحب» بقرار الرئيس بوتين سحب قواته ان كان بهدف تعزيز وقف إطلاق النار.

وسرعان ما اوضحت الاوساط الاميركية انّ اعلان الانسحاب الروسي من سورية «ليس انسحاباً تاماً، فروسيا ستبقي على منشآتها البحرية والقواعد الجوية هناك، مما سيتيح لها العودة سريعاً انْ تطلبت المتغيّرات الميدانية ذلك، بل لا تنوي روسيا سحب النظام الصاروخي للدفاع الجوي القوي «اس-400»، كوسيلة ردع لعدد من الدول مثل تركيا والسعودية وحتى الولايات المتحدة، التي قد تراودها فكرة إنشاء مناطق حظر للطيران فوق بعض الاراضي السورية».

حرصت الدوائر الاميركية المعنية بالصراع في سورية، سياسياً وعسكرياً، الإشارة الى بُعد توقيت الانسحاب للتأثير على سير المفاوضات السياسية في جنيف، من ناحية، وإتاحة الفرصة الميدانية لقوات الجيش العربي السوري استعادة السيطرة على «كافة الاراضي الخاضعة للمسلحين«…

وعزت تلك الاوساط دوافع الرئيس الروسي لاتخاذ قراره الذي يعد «انقلاباً استراتيجياً» بأنه «ادرك متى يتعيّن عليه الانسحاب قبل الانغماس والتورّط في أزمة اخرى، وقد اوضح الرئيس أوباما انّ ذلك عينه يشكل مسار التدخل الروسي». ووصف احد الخبراء العسكريين قرار روسيا بأنه «في واحدة من المرات القليلة في التاريخ، يقدم زعيم سياسي على سحب قواته العسكرية في الوقت المناسب عوضاً عن الخروج المتأخر جدا».

واشدّ ما تخشاه واشنطن وحلفاؤها انّ انسحاب روسيا لن يؤدّي الى ممارستها ضغوطاً إضافية على الرئيس الاسد ووفده المفاوض في جنيف، بل ترجمة الصمود الميداني بمواقف صلبة في مسار المفاوضات.

السعودية توسِّع رقعة حضورها

أقطاب معسكر الحرب والتدخل العسكري في واشنطن أعربت عن اعتقادها بأنّ «انسحاب روسيا المفاجئ قد يفتح الابواب امام تدخل تقوده الدول العربية ضدّ هدف مزدوج: داعش وبشار الاسد». نشرة «فورين بوليسي»، 15 آذار ،

واوضحت النشرة انّ مناورات «رعد الشمال» المشتركة التي جرت على الاراضي السعودية الاسبوع المنصرم شكلت «اضخم مناورات عسكرية اقيمت في الشرق الاوسط على الاطلاق»، من بين أهدافها «ارسال رسالة قوية لإيران، وتعزيز قدرات القوات السعودية لتنسيق مناوراتها مع الدول المتعددة المشاركة». شاركت 20 دولة بقوات بلغ حجمها 350،000 جندي و 20،000 دبابة ومدرّعة وعشرات السفن الحربية ونحو 2،500 طائرة مقاتلة.

واستطردت النشرة نقلاً عن الاوساط العسكرية الاميركية انّ «المسرح الرئيس للصراع في المنطقة هو سورية»، ورمت المناورات الى تسجيل سلسلة مواقف متشدّدة في هذا الصدد «لكلّ من روسيا وإيران وسورية، وعزم السعودية إرسال قوات برية للقتال هناك، التي ستشكل قواتها ضمانة أمنية للاراضي السنية في سورية».

بعض الخبراء الاميركيين اعربوا بوضوح عن اعتقادهم بأنّ مناورات «رعد الشمال» ربما أتت أُكُلها من حيث انها كانت «حربا وهمية، بيد انّ الهدف هو الإعداد لتدخل عسكري في سورية، بانفراد وبمعزل عن مشاركة أميركية»، يعززه تحوّل مسار السياسة السعودية الى «توسيع آفاقها الجيوستراتيجية» في الاقليم.

حمية التدخل العسكري حفزت بعض القيادات العسكرية الأميركية، حسبما ورد في تقرير «فورين بوليسي» المذكور، الى الدعوة لإنشاء حلف جديد في الإقليم قوامه «القيادات السنية السعودية وإسرائيل وحلف الناتو، كمنصة انطلاق متقدّمة للاستراتيجة الأميركية على الرغم من العقبات المواكبة له». الهدف النهائي للحلف «احتواء إيران، طمأنة إسرائيل، وانشاء منطقة مستقرة ومزدهرة في الشرق الاوسط مع مرور الزمن».

عودة إلى ادّعاء الأردن بعلمه المسبق بقرار الانسحاب الروسي، اوردت يومية «ديفينس نيوز»، 15 آذار، المختصة بالشؤون الدفاعية وأخبار البنتاغون، على لسان المسؤول الاردني الرفيع قوله انّ خطة الانسحاب تمّ تداولها في موسكو، كانون الثاني / يناير 2016، مع وفد عسكري اردني سوري مشترك، ضمّ وزير الدفاع السوري فهد جاسم الفريج وقائد الأركان الأردني مشعل الزبن، مع وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو لبحث «التطورات العسكرية على الحدود السورية الأردنية المشتركة». واضاف المصدر الأردني ان مدير مكتب الأمن الوطني السوري، علي مملوك، عقد سلسلة لقاءات مع المسؤولين الاردنيين في الأشهر القليلة الماضية «لبحث تداعيات الغارات الجوية الروسية على المسلحين في المنطقة الحدودية المشتركة».

ما تجمع عليه الاوساط العسكرية الاميركية انّ التدخل العسكري الروسي في سورية منذ شهر ايلول / سبتمبر الماضي «أنجز معظم الأهداف المرسومة، ليس في بُعد تعديل الحسابات الميدانية فحسب، بل أعاد التوازن والثقة القتالية للجيش العربي السوري وتمكينه من استعادة المبادرة والسيطرة». كما انّ خطوط امداد المسلحين من تركيا «قد قطعت» نتيجة الغارات الروسية.

الانسحاب في الداخل الروسي

شكلت تجربة التدخل العسكري السوفياتي في افغانستان، 1979، درساً ملازماً للسياسة الروسية وإدراك القيادات الروسية، لا سيما الرئيس بوتين، للضرر طويل الأمد الناجم عنه. قرار الانسحاب من سورية، وما رافقه من إنجازات ميدانية ملموسة، اسهم مباشرة في استقرار الأوضاع الأمنية، من ناحية، ووضع حدّ للمخاوف السابقة من التورّط والتحوّل للشأن الداخلي.

الثابت في قرار التدخل الروسي في سورية انه لم يستند الى كسب الحرب والصراع بنصر مؤزّر، اذ من العسير الاعتقاد بأنّ سلسلة غارات جوية مكثفة ومستدامة باستطاعتها حسم الميدان الذي أوكل إلى الجيش العربي السوري. فالقرار جاء لتعزيز قدرة الجيش السوري وإمداده بالمعدات الضرورية لتقدّمه على الارض.

واستطاعت روسيا إحراز إنجازات ديبلوماسية مواكبة للميدان، خاصة في ما يتعلق بمراهنتها على كسب القوى الكردية في الشمال السوري، وإمدادها بالأسلحة والمعدات، وفي الحسبان إثارة الإزعاج لتركيا وتهوّر قراراتها السياسية، فضلاً عن انّ خطوتها باتجاه الكرد أرست قدراً أعلى من اطمئنان القوى الإقليمية للمراهنة والاعتماد على الدعم الروسي، مقارنة بتذبذب الموقف الأميركي حيال القوى عينها. فالأهداف الروسية من وراء سورية لها أبعاد استراتيجية، ليس إلا. وأضحت روسيا، بعد التدخل والانسحاب، لاعباً اكتسب أهمية إضافية في التأثير على المسار المستقبلي لسورية مقابل تراجع حدّة الاندفاع الأميركي وحلفائه الاقليميين.

لعل أبرز الإنجازات الروسية في هذا الشأن، في ما يتعلق بلعبة الكبار الاستراتيجية، ردع حلفاء اميركا من تركيا والسعودية، والى حدّ ما الأردن، من إدامة النزيف السوري، وضرب اسفين في علاقة واشنطن ومراهنتها على «الجيش الحر» الذي فقد الجزء الأكبر من «تشكيلاته» نتيجة خسائره الميدانية وانسحاب البعض وانضمام البعض الآخر لتنظيمات متشدّدة. وأعادت موسكو بوصلة الخطر الى تهديد «الدولة الاسلامية» على اوروبا مجتمعة واستغلالها لموجات هروب اللاجئين عبر الذوبان في السيل المتدفق على البلدان الاوروبية.

الدوائر الأميركية هي اول من يقرّ بتعزيز روسيا لوجودها العسكري في مياه المتوسط، اذ استطاعت تثبيت حضور اسطولها البحري وإدامة تواجدها في القاعدة البحرية في طرطوس، عقب تراجع حضورها فيها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. بل استعادت موسكو هيبتها البحرية وتحدّي الهيمنة الاميركية في مياه البحر المتوسط، مما دفع العديد من الخبراء إلى إحياء أجواء الحرب الباردة بينهما.

الأسلحة المتطورة التي استخدمتها روسيا في سورية، براً وبحراً وجواً، اثارت انتباه الاوساط الاميركية والاوروبية بالدرجة الاولى، خاصة للقدرة التدميرية الهائلة التي فاقت الترسانة الاميركية في تسديد إصابات محققة للقوى التكفيرية ووفرت لروسيا منفذاً اضافياً لبيع افضل منتجاتها العسكرية والتغلب على العقوبات والمقاطعة الاقتصادية المفروضة عليها منذ استعادة سيادتها على شبه جزيرة القرم.

من ميزات التدخل الروسي، بالنسبة لموسكو، أنها أضحت شريكاً مساوياً لواشنطن في «ضمان تثبيت وقف إطلاق النار» في سورية، ومهّدت سبل الحوار بينهما لاستعادة مسار المفاوضات بشأن اوكرانيا رغم كلّ ما اعتراه من تصلب وتشدّد القوى المرتبطة بالولايات المتحدة وتفضيلها التصعيد العسكري.

في الشق الدولي، أضحت موسكو محطة رئيسية تحجّ اليها الوفود العالمية طالبة ودّها ودعمها، ليس في بعد الأزمة السورية فحسب، بل لقضايا اقليمية أخرى مرتبطة ومتفرّعة عنها، أبرزها قضية ومصير الكرد التي برعت موسكو في لعب ورقتها ضدّ خصمها التركي، ولما لها من أبعاد أوروبية تتمثل في تأييد مطالب الكرد والاحتفاظ بدور تركيا الأطلسي في الوقت عينه.

موسكو عززت دورها كشريك فاعل في تقرير وجهة الأزمة السورية، وذهب البعض الى القول انّ الرئيس بوتين «يمتلك قرار الفيتو على تشكيل ايّ حكومة سورية في المرحلة المقبلة».

وجدّد الجدل داخل أروقة حلف الأطلسي لإعادة النظر بالمسلمات السابقة التي «قلّلت من شأن» القوة العسكرية الروسية، وارتفعت المطالب المنادية بضرورية زيادة نوعية في ميزانيات الإنفاق العسكري على الرغم من الأوضاع الاقتصادية الحرجة لعدد من الدول الاوروبية الرئيسة.

في ظلّ مناخ المنافسات والمزايدات الانتخابية في الولايات المتحدة، التزمت الادارة الاميركي خيار «الانتظار» وإبقاء أزمات المنطقة في سياق السيطرة والحيلولة دون اندلاعها إلى حين انتهاء الانتخابات الرئاسية. وتعوّل الدوائر الأميركية المتضرّرة من سياسة التقارب مع موسكو على توجه رئاسي مغاير يعيد المبادرة للولايات المتحدة وحلف الاطلسي في الشؤون العالمية، ويتيح لها لعب دور أكبر واشدّ قوة في ترسيم نهاية الصراع الجاري في سورية

البعد الكردي في الأزمة السورية

عوّلت بعض القوى الكردية على استغلال انشغال الدولة السورية بالصراع مع القوى التكفيرية والاتجاه خطوة إضافية نحو نزعة الاستقلال، بصرف النظر عن صوابيتها او إمكانية تحقيقها ضمن الموازين الإقليمية الراهنة.

واثارت تصريحات نائب وزير الخارجية الروسي، سيرغي ريابكوف، بترحيب بلاده بصيغة حلّ فيدرالي في سورية، جدلاً واسعاً وانتقادات شديدة حتى من داخل واشنطن. وسرعان ما «تراجعت» موسكو عن تلك التصريحات جاءت على لسان الناطقة باسم الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، معززة بذلك الرؤى الأولية بأنّ «الفيدرالية» كانت مجرد بالون اختبار للتعرّف على ردود فعل القوى السورية المعارضة وداعميها الدوليين.

كما جاءت تصريحات نائب وزير الخارجية في مناخ سياسي اميركي رفع درجة التوتر بينهما لتشديد وزير الخارجية الاميركي جون كيري عن توفر «خطة بديلة» لبلاده في سورية ترمي الى تقسيمها وفق أسس طائفية «في حال فشلت الهدنة في سورية».

بعض القوى الكردية في الشمال السوري، والتي تلقت دعماً اميركياً وروسياً، ذهبت الى حدّ عقد مؤتمر لها للإعلان عن «جمهورية فيدرالية»، عقب استثناء «محور السعودية» لها بتمثيلها في مفاوضات جنيف. وسارعت واشنطن إلى إبداء اعتراضها وعدم دعمها لتوجهات «انفصالية»، مشدّدة في الوقت عينه على «ثوابت» استراتيجيتها التي تنظر الى سورية كدولة موحدة، علمانية، ذات سيادة وحكومة تمثل مختلف «المكونات» الاجتماعية.

موسكو لا تزال متمسكة بحضور الكرد في مفاوضات جنيف، عبّر عنه وزير خارجيتها سيرغي لافروف قائلاً انّ إقصاء الكرد من المشاركة في تحديد مستقبل سورية سيدفعهم للخروج عنها. حضور الكرد من شأنه تسديد هدف في مرمى السعودية وتركيا وراعيتهما الاميركية التى لا تنوي إغضاب أنقرة راهناً على الاقلّ.

لا يسع المرء الا الاشارة الى تجدّد الاشتبكات والانفجارات داخل المدن التركية الكبرى، انقرة واسطنبول، نتيجة السياسة التركية الإقصائية وتفضيلها الخيار العسكري في تطويع المناطق الكردية لسيطرتها وحرمانها من أحقية المطالبة بنمط من الحكم الذاتي.

وبلغ التهوّر بالرئيس التركي اردوغان بشنّ هجمات مسلحة على مناطق كردية داخل الأراضي السورية، ضارباً بعرض الحائط تحذيرات موسكو له ونصائح واشنطن بعدم الانجرار للتصعيد.

مصير المفاوضات الجارية في جنيف لن يتأثر سلباً على الأرجح بما يجري بين الكرد وحكومة انقرة، بيد انّ تداعياتها المرئية لن تعود لصالح انقرة في ظلّ التفاهمات الدولية بين موسكو وواشنطن، خاصة لحرص الأخيرة على «تأمين» الساحة السورية وتسليم الرئيس المقبل ساحة دولية تراجعت فيها الأزمات.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى