«بعض الحب يكفي» لعبير حمدان… بوح وفوح وتماسّ مع التصوّف
أحمد طيّ
عشتُ سنيّ حياتي مغرماً بالشعر العمودي والشعر باللهجة المحكيّة. كنت، خلال سنوات الدراسة الابتدائية والمتوسطة، أحفظ ما في كتب القراءة من قصائد غيباً وعن سابق إرادة وتصميم، لا امتثالاً لطلب أستاذ، ولا حتّى بسبب مسابقة أو امتحان.
وهنا أستحضر بعضاً مما أحفظه إلى الآن للشاعر إيليا أبو ماضي:
وطن النجوم أنا هنا
حدّق… أتذكر من أنا؟
أرأيت في الماضي البعيد
فتى غريراً أرعنا؟
جذلان يمرح في حقولك
كالنسيم مدندنا.
وأيضاً:
عرزالنا معلّق
يموج فيه العبق
صنوبرات المنحنى
تضمّه وتشفق
وأيضاً وأيضاً من القصائد الأحبّ إلى قلبي:
دارت مطحنتي يا جاري
تهدر قرب النهر الجاري
تدعو الفلاحين إليها
أهلاً أهلاً بالزوّار
لبّوها بغلال البيدر
لبّوها بالقمح الأسمر
من خيرات السهل الأخضر
وأغني ويطيب نهاري.
مهلاً، وعذراً، أخذتني نشوة الشعر لأتحدّث عن مذكرات وذكريات، وإذ بي أبتعد عن هدف مقالي هذا.
بدأت الحديث عن عشقي للشعر العمودي والشعر باللهجة المحكية كالزجل، وكنت أمقت من يصفّ الكلمات فوق بعضها، ليخرج إلينا بما يسمّيه «قصيدة حرّة». إلّا أن هذا المذهب من الشعر شقّ طريقه إلى الانتشار، وبات علينا أن نغربله، لا بل ننخله، لنخرج بـ«قمح أسمر»، وننبذ «الزؤان ».
قرأنا الكثير من الشعر الحرّ، أو الشعر المنثور، وما زلنا نقرأ يومياً. والحقيقة، أنّ بعض هذا الشعر يجذب، وذلك عندما تقرأ ما بين الكلمات، ما بين الأسطر، وما وراء القصيدة لتصل إلى جوانيّة الشاعر. فكيف يكون الرأي عندما تكون على معرفة مباشرة بالشاعر أو الشاعرة، وتعرف ما في قلبه وقلبها من أحاسيس مرهفة ومشاعر فيّاضة.
من بين الأصدقاء والصديقات الذين ينظمون الشعر المنثور، الزميلة عبير حمدان، التي ما إن تقرأ كلماتها، حتّى تتخيّل ـ إن كنت لا تعرفها شخصياً ـ أنّك أمام كتلة من المشاعر. أمام نبعٍ من الأحاسيس المرهفة الذي يروي عطش كلّ عابر على سبيل الشعر.
من شعر عبير حمدان تُملأ الجرار وتُعتّق، فقصائدها صالحة للقراءة في كلّ ليلة سمر، في كل ليلة فراق، في حضرة حبيب لم يأتِ، وأمام وطنٍ لا يطمع إلّا بولائنا. قصائد عبير حمدان صالحة لأن تكون شدواً في طبيعة، لحناً في سمفونية، رقصةً صوفية تحاذي عمق الروح، واعتراف يلامس حدّ البوح.
جديد الزميلة عبير حمدان، ديوان منحته عنواناً يشي بالقناعة وينبذ الطمع «بعض الحبّ يكفي»، وقد تولّت طباعته ونشره بالتعاون مع جمعية «حواس الثقافية»، وتنظّم اليوم حفل التوقيع في قصر الأونيسكو، برعاية وزارة الثقافة اللبنانية، وفي تمام الساعة الخامسة عصراً.
قدّمت للديوان، الإعلامية الصديقة فيرا يمّين، ومما تقوله:
«خذلني المطر مرّة وكسرني غيابك مرّات». في شعر عبير حمدان بوحٌ واعتراف يلامس بعضاً من تصوّف في أكثر من قصيدة، لا بل في أكثر من حالة اعتراف خفيض. والاعتراف عندها تحرّر فلا قيود ولا محرّمات، غير أن الحرّية عندها نقاء وصفاء، هي التي تهرب من طفولتها لتعود إليها لاهثةً تائقة.
تعتمد القناعة أسلوباً للإقناع، مع علمها أنّ الحبّ شغف وإبحار. وبلحظة عشق تخرج من خفرها والحياء، تخلع ثوب التكتّم الذي حاكته لها تربيتها، لتلبس ثوب الأنثى المقصّب بالإحساس الدافئ.
«لا ترحل قبل أن أرتدي ثوب أنوثتي
فأجمل أنثى تلك التي ترتدي أنفاس حبيبها».
حلوة هي كما القصيدة تأتي من كلّ الجهات، تتسلّل من شبابيك الضوء وتنسج من الضباب ستائر خفراً لا إخفاء.
عبير حمدان، تعبق بالحب حدّ الطيران في فضاءات الأحلام، متفلّتة من الوزن والقافية، ملتزمة بالحلم متذرّعة بالعشق، تقف على الهاوية من غير خوف أو وجل، لأنها تدرك أن الهاوية حافز للتحليق والدوران. وهي في قصيدتها تدور طفلة تعبث بشَعرها وحبيبة تعبث بشِعرها.
في قصائدها بعضٌ من لهو، تصفّ الحروف ترصّها، وبلحظة تخربطها لتُعيد تركيبها من جديد وفق عشقها. عبير حمدان كريمة في عواطفها تسكبها شلّالاً من حبّ من غير منّة، ولو أن العتب يضفّر بعضاً من أبياتها كما الحزن. والحبيب يمتزج عندها بالوطن، يصيرُه شوارع وأماكن وزوايا وخفايا، يؤرّقها يقلقها ويكتبها!
قصيدة عبير معجونة بالقلق اللذيذ والحبّ خميرة، تصوغ قصائدها كتلميذة هاربة من الواجب إلى الاعتناق، تتمرّد على الزمن وتخبّئ طفولتها في جيبها، لا خوفاً عليها، بل لأنها تحتاج إليها.
قصيدة عبير حمدان تُشبهها، امرأة ثائرة للحبّ، هاربة منه وإليه، ترتّب كلماتها على قياس أحلامها، وأحلامها قوتٌ لقصائدها.
أما القصيدة التي تحمل عنوان الديوان «بعض الحبّ يكفي» فتقول:
بعض الحبّ يكفي
لاقِني على حافّة الحلم
علّنا نبدّل سير العقارب
نملك زمننا الخاص
بعيداً عن صخب المكان.
بعض الحبّ يكفي
يكسر زوايا الجليد
يشعل اللحظة
لاقِني من دون عبارات منمّقة
دع مجالاً لجمر العيون
لموسيقى الصمت
وأغنيتنا الأولى
حيث تشكّلت النجوم
هناك، لا رصاص يغتال الأمنيات
هناك، لا تسيل الروح بِاسم الدين
بعض الحبّ يكفي
لنؤلّف حقلاً من الفراشات
لاقني بمنأى عن الموت القسريّ
وجنون التشرذم
قد يغسل غيم الوطن سواد الخطوات
لي في لحظك وطنٌ لا تلغيه إمارة واهمة
لك في نبضي بحر وقمر وجدول وعناقيد سهر
لاقِني كما الريح تعصف بالسرو وانحناءة الصفصاف
كما الملح يتمدّد على ذهب الشاطئ
كما يلاقي طفلٌ لهفة أنثاه الأولى
كُن ذاك الطفل الذي يكبر في أعماقي
كن مرآتي وستائري
لاقِني حيث هربت دمعتي الأخيرة
كُن كما أنت
كُن حبيبي..!