تكامل الانتفاضة والمقاومة من «القبة الفولاذيّة» إلى «القبة الحقيقيّة»
معن بشّور
كان الانفجار الشعبي الكبير في القدس ومدن الضفة الغربية متوقعاً لكلّ من يعرف حجم المخزون النضالي لشعب فلسطين، كذلك حجم العدوان والقهر «الإسرائيلي»، بل كان هذا الانفجار الشعبي استكمالاً للمواجهة المسلحة مع العدوان الصهيوني على غزة وهو يدخل يومه الثامن عشر، تماماً مثلما كانت الحرب على غزة تتويجاً لهبّات شعبية متلاحقة عرفتها سجون الأسرى وساحات الأقصى ووقفات التنديد بالجدار العنصري.
مأزق العدو في هذه الحرب أنه لا يستطيع التقدم والإنجاز، فهذا نصر كبير للمقاومة، كما لا يستطيع التراجع والانسحاب. هذا يعني بداية العد العكسي لكيانه والانهيار، لذلك فإن هذه الحرب بالنسبة إليه هي حرب وجود ومصير.
ما حصل من انفجار شعبي في القدس، عشية اليوم العالمي للقدس، ومعها الخليل وبيت لحم ورام الله ونابلس وطولكرم وسائر مدن الضفة المحتلة، بالإضافة إلى الأراضي المغتصبة عام 1948، كان أكثر من انتفاضة وأقل من حرب، أي أنه بشموله واتساعه كان يعلن مشاركة أهل الضفة العزّل من كل سلاح، والمقيّدين بسلاسل التعاون الأمني مع العدو، في مقاومة العدوان على غزة المدجّج بأفتك السلاح، فيجبره هؤلاء العزّل الذين كانوا على قاب قوسين من السيطرة على حاجز قلنديا المشهور، إلى أن يستنفر قواته ويعزز وجوده الأمني والعسكري في الضفة كأنه يقاتل على جبهتين في آن واحد ويوزّع قواته على جبهتين، ناهيك عن الجبهات العسكرية الأخرى المحتملة «والكامنة».
جبهة المقاومة وجبهة الانتفاضة ليستا الجبهتين الوحيدتين اللتين يواجه بهما جيش الاحتلال شعب فلسطين، بل هناك جبهات أخرى متعددة، بعضها فُتح فعلاً مثل جبهة التضامن العالمي، وبعضها ينتظر توقيعاً فلسطينياً مثل جبهة الملاحقة القانونية، وبعضها ما زال مقفلاً ينتظر من يكسر إقفاله، وهي جبهة النظام الرسمي العربي المسكون بالخوف والعجز، بالإضافة إلى التواطؤ والتآمر…
ومن نافل القول التذكير بأنّ لكلّ جبهة من هذه الجبهات تداعياتها، فطبيعة المواجهة مع شعب فلسطين تنطوي على تضحيات ضخمة وتتوقع المزيد من المجازر كلما ازداد إحساس العدو بحجم الخسائر، لكنها تنطوي أيضاً على احتمالات بنصر مؤزر تصنعه تضحيات الشعب وبطولات الميدان وصلابة الموقف السياسي.
أمّا جبهة التضامن العالمي فوصلت ارتداداتها إلى قارات العالم الخمس، بل الى مجلس العموم البريطاني نفسه الذي صاغ المستر بلفور من قاعاته وعده المشؤوم قبل مئة عام تلبية لطلب المليونير اليهودي روتشيلد وقد نالت بالأمس صواريخ المقاومة من برج شاهق باسمه في أحد شوارع «تل أبيب»، والى وزير خارجية فرنسا فابيوس، المعروف بصهيونيته، والذي لم يستطع تحمّل جرائم حلفائه في «تل أبيب»، كما لم يستطع مواجهة انتفاضة من نوع آخر شهدتها شوارع باريس وضواحيها على يد الملايين من أبناء الجاليات العربية والإسلامية ومعهم أحرار فرنسا الذين ما زالت تسكن وجدانهم ذكريات مقاومة الأباء والأجداد للاحتلال النازي.
جبهة الملاحقة القانونية افتتحها مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بتشكيل لجنة تحقيق دولية في انتهاكات العدوان في غزة، لكن هذه الجبهة لا تكتمل إلاّ بترجمة الإنجاز الديبلوماسي الذي حققته فلسطين في الأمم المتحدة من خلال البدء الفوري بإجراءات الملاحقة القانونية لجرائم الحرب ومرتكبيها، وهو أمر مرهون بقرار شجاع تتخذه رام الله يضاف إلى قرار آخر بإنهاء التنسيق الأمني مع العدو باعتبار هذا الإنهاء الترجمة الحقيقية لبيان القيادة الفلسطينية الأخير في رام الله.
تبقى الجبهة الأصعب والأشدّ إيلاماً لكل عربي. إنها جبهة النظام الرسمي العربي الذي تشكل سياساته المتخاذلة «القبة الحقيقية» لحماية الكيان الصهيوني بعد سقوط منظومة «القبة الفولاذية» أمام صواريخ المقاومة.
فكيف يكون اختراق قبة التخاذل الرسمي العربي؟ وهل بات مفهوماً للجميع الآن لِمَ الحرب على الأقطار التي كانت تتمرّد على إجماع المتخاذلين ، لا سيما في دول الطوق الرئيسية في مصر وسورية ولبنان وصولاً إلى العراق الذي كانت الحرب عليه قبل 11 عاماً إيذاناً ببدء موجة من الحروب على الأمة .
الاختراق ممكن فحسب عبر حراك شعبي ثوري اغتيل في السنوات الثلاث الماضية. حراك يرتكز على تلاقي تيارات الأمة الرئيسية من جديد، بعد أن يُتمّ الجميع المراجعة النقدية الضرورية لمساراته وخياراته، وتشكيل جبهة شعبية عربية واسعة تخرج الجميع من زنازين التناحر الفئوي والطائفي والمذهبي والعرقي إلى رحاب التفاعل والتلاقي الديمقراطي الذي لا يقصي فيه أحد أحداً، ولا يسعى إلى إلغائه أو اجتثاثه أو تخوينه أو تكفيره.
مثلما أثبتت فلسطين بتكامل مقاومتها وانتفاضتها أنها عصية على الانقسام والتقسيم، فإن الأمة كلّها مدعوة عبر تلاقي تياراتها وقواها إلى إغلاق الثغر كلّها التي نفذ منها العدو بالأمس وينفذ منها كل حين.
هل نرتقي في فكرنا وسلوكنا وعلاقاتنا فوق لغة التناحر ونبش الأحقاد ونكء الجراح، تماما مثلما يرتقي شهداؤنا في معاركنا المجيدة، أم نبقى مصرّين على البقاء أسرى المناكفات والنكايات وشهوة السلطة فيمدّ النظام الرسمي، ومعه أسياده الغربيون وداعموه الصهاينة، قدميه هازئاً بالشعوب ومطمئناً إلى استمراره واستقراره في السلطة إلى ما شاء الله.
إنه الجهاد الأكبر فهل نقدر عليه. ونحاصر العدو وجميع داعميه وحلفائه ونسقط حصاره علينا.