انقلاب أميركي على تفاهمات فيينا… وارتكاسة في مسار جنيف

سومر صالح

خطب ما حدث في جنيف قلب الصورة التي بدأ معها المؤتمر الثالث بجولته الثانية لإيجاد تسوية للأزمة السورية، فبعد هرولة أغلب الوفود المعارضة إلى المدينة السويسرية من دون شروط مسبقة على وقع اتفاق ميونيخ والمكرّس بالقرار الدولي 2268 ، وبدايةٍ كانت تبشر بإمكانية حدوث اختراق سياسيّ في مسار الحلّ السياسي للأزمة عززته الإجراءات الحكومية في تنفيذ القرار 2254 كاملاً وخصوصاً الفقرتين 12 و14 من نص القرار، وتعزز هذا الاتجاه مع إعلان موسكو سحب قواتها جزئياً من سورية بما يوحي بتنفيذ الاتفاق الروسي الأميركي بوقف الأعمال العدائية، ما أعطى زخماً إضافياً للمؤتمر، ولكن ما إنْ انقشع غبار هذه القنبلة السياسية الروسية، حتى بدأت الصورة تتوضح أكثر فأكثر، والمفاعيل الاستراتيجية للحدث تجاوزت الطابع الآني للمفاوضات الحاصلة في المدينة السويسرية، وبدأت ترخي بظلال ثقيلة على أجواء المؤتمر المتشنّج أصلاً، لا لشيء يتعلق بالمحادثات السورية – السورية، بل فقط لأنّ الأدوات المعارضة والمتمثلة «بوفد الهيئة العليا للمفاوضات» والمنبثق عن مؤتمر الرياض للمعارضة إنما تمثل أجندات الولايات المتحدة مباشرة في الأزمة السورية، والتي بدأت تطلق النار على مسار جنيف للحلّ، بتجاهلها المتعمّد وبطلب أميركي صارخ لإعلانيْ فيينا الأول والثاني واللذين مهّدا لاحقاً لصدور القرار 2254 وأعيد إنتاج أجزاء كبيرة منه في مؤتمر ميونيخ الممتدّ شكلاً ومضموناً مع إعلانيْ فيينا وصدور القرار 2268 ، هذا الطلب الأميركي في الحقيقة هو أمر مستجد على انطلاق الجولة الثانية للمحادثات السورية – السورية في جنيف، وأتى بعد تبلور قناعة أميركية مفادها أن الانسحاب الروسي الجزئي من سورية سيأتي بنتائج عكسية على الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط، وحتى لا يبدو هذا الأمر، بعيداً عن المنطق سنوضح المقاربة التالية: فبعد دخول القوات الروسية بطلب من الحكومة الشرعية السورية إلى سورية بتاريخ 30/9/2015، حاولت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون احتواء الموقف والزخم العسكري الروسي، فكان إعلانا فيينا الأول في 30/10/2015، والثاني في 14/11/2015، اللذان مهّدا لصدور القرارين 2253 و 2254 ، بعدما قبلت موسكو بالتسوية الأميركية المقدمة من قبل السيد كيري في اجتماعه مع بوتين في 15/12/2015، على سلة متكاملة من الحلول في أوكرانيا وسورية وقضية الدرع الصاروخية الأميركية، مقابل تعهّد موسكو مبدئياً بعدم إنشاء قاعدة روسية ثانية وعدم الوجود الدائم في شرق المتوسط، مقابل حلّ سوري للازمة على قاعدة حكومة موسعة وإجراء انتخابات برلمانية يسبقها تعديل للدستور، وفي أوكرانيا المضيّ قدماً بالفدرلة مقابل عدم انفصال قوات الدفاع الشعبي عن أوكرانيا في الدونباس، ولكن الولايات المتحدة سارعت إلى الانقلاب على جملة التفاهمات تلك عبر الطلب من أدواتها الإقليمية رفع سقف المواجهة مع روسيا بما ينذر بالحرب الإقليمية والدولية وتحت احتمال نشوب الحرب وإجهاض جنيف الثالث بجولته الأولى أتى مؤتمر ميونيخ ومن بعده اتفاق «وقف الأعمال العدائية» ليحوّل روسيا إلى طرف في الأزمة السورية من دون أن ينقلب على شكل الحلّ المتفق عليه مع روسيا، فالحلّ أصبح يقتضي بموجب القرار 2268 خروجاً روسياً من سورية وهي المكيدة الأميركية، من هنا نضع القرار الروسي بالخروج من سورية جزئياً بخانة الردّ الروسي على الفعل الأميركي في ميونسخ خصوصاً من جهة وقف الأعمال العدائية والإصرار على أنها عدائية ، هذا القرار قلب النتائج الأميركية المتوقعة رأساً على عقب، وخرجت روسيا معه منتصرة من الحرب السورية على الإرهاب وتحوّلت إلى ضامن فعلي للاتفاق الأميركي الروسي بوقف القتال، وأمسك معها بوتين بورقة الحلّ السياسي، وبنتيجة هذا الإعلان تثبت الوجود الروسي في حوض المتوسط على عكس ما ذهبت إليه واشنطن باستراتيجيها، وكان هذا الكلام واضحاً في كلام الخارجية والرئاسة الروسية باستمرار عمل قاعدة حميميم ووحدة الإسناد البحري في طرطوس، الأمر الذي أربك كلّ حسابات الأطلسي والولايات المتحدة في سورية، وانعكس ذلك مباشرة على المفاوضات الدائرة في جنيف، طلباً أميركياً بإسقاط إعلاني فيينا الأول والثاني والعودة إلى مربع جنيف الأول، لجملة من الأسباب أبرزها ثلاث: الأول فشل استراتيجية الاحتواء الأطلسي لروسيا في شرق المتوسط والمتمثلة بإعلاني فيينا وميونيخ، والتي كان من المفترض أن تهيّئ الأجواء لانسحاب روسي دائم من حوض المتوسط الشرقي وفق الرؤية الأميركية، وثانياً، تحوّل روسيا بموجب تلك التفاهمات إعلانا فيينا وميونيخ إلى طرف سياسي وعسكري ضامن للقرارات 2254 و2268 ومن دونها ستسقط تلك القرارات، وثالثاً وهو الأهمّ أنّ الخروج الأميركي الصريح عن القرارين 2268 و 2254 سيؤدّي إلى عودة روسية أشدّ وأقوى زخماً إلى سورية لحسم المعركة كلياً، لأنّ الولايات المتحدة هي من انقلبت على روسيا وليس العكس، وفي حال المواجهة يعني حكماً أننا نسير إلى مواجهة لا يُحمد عقباها لا تريدها الولايات المتحدة ولا حلفاؤها، هنا شعرت الولايات المتحدة بحجم الخسارة السياسية أمام موسكو والاستراتيجية أيضاً، فطلبت من أدواتها العودة إلى ما قبل جملة التفاهمات تلك، أيّ إلى مربع الحديث عن هيئة حكم انتقالية ، وتنفيذ كامل للقرار 2118 ، فاسحة المجال زمنياً أمام إمكانية تبلور رؤية أميركية جديدة لمرحلة ما بعد الإعلان الروسي… الأمر الذي يعني نسفاً كاملاً لمسار جنيف للحلّ المبني أساساً على دعوة دي ميستورا لعقد جولات من الحوار والمحادثات على أساس القرارين 2254 و 2268 ، وليس على أساس القرار 2118 وبيان جنيف1 …

هذا التفجير المتعمّد لمسار جنيف 3 بجولته الثانية قاد موسكو إلى إعلان إمكانية الردّ الأحادي على خروقات الهدنة في سورية ما يمهّد الرجوع سريعاً إلى سورية ومن بوابة القرار 2268 ذاته، الأمر الذي دفع بالرئاسة الأميركية إلى الطلب من الخارجية الروسية إمكانية عقد لقاء بين كيريوبوتين سريعاً، لإيجاد حلّ ما وتسوية جديدة تحفظ ماء وجه أوباما الخاسر أمام بوتين سياسياً واستراتيجياً… وريثما تتبلور تفاهمات أميركية روسية جديدة، عمد معها السيد دي ميستورا إلى كسب الوقت تجنّباً لسقوط محتمل لجنيف 3 بجولته الثانية فتوجه بـ 29 سؤالاً تفصيلياً إلى جميع الأطراف المشاركة في جنيف حول مفاهيم العملية الانتقالية وما يسمّى بـ«هيئة الحكم الانتقالية» لعله يجد أرضية مشتركة يستطيع البناء عليها في الجولتين المقبلتين المزمع عقدهما في نيسان المقبل…

إذاً تبقى كلّ الأنظار شاخصة إلى لقاء كيري – لافروف ومن بعده إمكانية لقاء كيري بوتين ، لإحداث اختراق سياسي في الجولتين المقبلتين، وكانت القيادة الروسية قد استبقت الحدث بإعلان إمكانية الردّ على اختراقات الهدنة أحادياً من جانب بعض الفصائل المعارضة، وهذا الأمر له دلالات كبيرة ومفصلية: أولاً يعني أنّ روسيا مستعدة للعودة للحسم كما أعلن السيد بوتين في أيّ لحظة تقتضيها ضرورات الميدان، ثانياً ما زالت روسيا متمسكة باتفاق الهدنة والقرار 2268 وأشارت إلى واشنطن بالتلكؤ في تنفيذهما، ثالثاً: أيّ محاولة أميركية لإجهاض الاتفاق المشترك معها سيلغي كلّ الخطوط الحمر في الحرب الروسية على الإرهاب والتي رسمها اتفاق ميونيخ وما تلاه من اتفاق الهدنة ، لا سيما الفصائل التي اخترقت الهدنة والتي ستصنف إرهابية الطابع وفق روح اتفاق وقف الأعمال القتالية والتي حاولت واشنطن استغلاله لإخراج بعض التنظيمات المحسوبة على السعودية من خانة الإرهاب… فهل الولايات المتحدة مستعدّة لرؤية أدواتها تحترق في سورية على وقع عاصفة جديدة من السوخوي المتطوّرة والكاليبر كروز في سورية أم ستسارع مجدّداً إلى إبرام اتفاق جديد مع الرئيس بوتين يحافظ شكلاً على الهيبة الأميركية التي مرغ يوتين أنفها في الوحل السوري؟! وبالنتيجة أثبتت التجارب أنّ تحالفاً سورياً روسياً محصناً أقوى وأثبت مما يعتقده البعض لن يكون إلا في صالح الشعب السوري المتمسك بخيار القيادة والجيش … مهما بلغت شدّة الأعاصير الأميركية…

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى