الراعي يُراعي؟
روزانا رمال
«واحدة فقط تجمعنا بكم هي إنسانية الإنسان. تعالوا نتحاور ونتفاهم على هذا الأساس… انتم تعتمدون لغة السلاح والإرهاب والعنف والنفوذ، أما نحن فلغة الحوار والتفاهم واحترام الآخر المختلف… ونسألكم ماذا فعل المسيحيون في الموصل وكلّ العراق العزيز لكي تعاملوهم بمثل هذا الحقد والتعدي؟».
هذه هي الرسالة التي وجهها بطريرك انطاكية وسائر المشرق الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي الى تنظيم «داعش» الإرهابي الذي أعلن دولته عقب أحداث «الربيع العربي» وما تبعه من فوضى يتبيّن اليوم أنها محسوبة ومدروسة في شكل دقيق لاستهداف العمق الثقافي والديني للشعوب العربية، وإثارة الفتن المذهبية في ما بينهم مع رهبة بث الرعب في نفوس كلّ من يخالفهم الرأي… هذا التنظيم الذي يعيث فساداً وإجراماً أينما حلّ وآخرها في الموصل حيث المجازر الجماعية لكل أبنائه من دون استثناء رافق بناء دولته مع هجوم دقيق وموسع على المقامات الدينية جميعها المسيحية والاسلامية، القديمة العهد كالأضرحة والمقامات، والحديثة كالمساجد والكنائس الموجودة مترافقة مع دعوة المسيحيين إلى مغادرة الموصل، إضافة إلى ذبح وقتل وملاحقة كلّ مسيحي هناك بصفة كافر، من دون إغفال موقفهم من كلّ شيعي يسمّونه رافضيّاً، وحربهم المعلنة عليه علماً انّ هذا التنظيم لا يوفر من جرائمه السنّة أو أيّ مذهب آخر.
وعليه يبدو جلياً انّ حرب هذا التنظيم ظاهرياً هي دينية بامتياز عكس الظروف التي أفرزتها وهي ظروف عالم ثائر على الديكتاتوريات ومتعطش لحكم «مدني ديمقراطي»، ويكاد يندر وجود ايّ بيان أو تصريح أو هجوم يخلو منه التلميح الديني والمذهبي في استهدافاتهم عموماً أو رسائلهم أو في اهدافهم القريبة والبعيدة والعامة وسلوكهم ابتداء من تسمية دولتهم «دولة إسلامية».
دعوة البطريرك الراعي هــذه إلى الحوار مع تنظيم تكفيري لاقت صـدى سلبيـاً لدى جزء مهمّ من المتابعين في المنطقة على صعيـد القاعدة الشعبية المسيحيـة والإسلامية لناحية النفس أو المزاج الشعبييـن والدهشة التي احدثتهـا، إذ انه من غير المتوقـع ان يصدر هكذا دعوة من بطريرك المسيحيين الذيـن يُذبحون كلّ يوم في الموصل ويهجّرون من سوريــة وغيرها… الا انّ المعترضين لم يأخذوا في الاعتبــار ان دعوة البطريرك هذه آتيـة من مفهــوم إنسانـي أخلاقي وتعتمد على قيَـم الخيـر والفضيلــة الموجـودة في كلّ انسان، والذي يمكـن ان يتراجع عـن ضلاله او ضياعه كما أكــد السيّد المسيــح وكما دعا إلـى التسامح والتقارب… دعوة إنسانية بامتياز يوجهها الراعي على غرابتها ليست سوى محاولة منه للتأكيد على المثل والأسس الدينية المسيحية التي يتمسّك بها، والتي يدعو اليها في هـذه الأرض، تماشيـاً مـع دعـوة السيـد المسيـح إلـى الغفـران والمحبـة…
يعرف الراعي تماماً ان هذه الدعوة خيالية، وأنها لن تلقى آذاناً صاغية لشدة إدراكه ودرايته بتشدّد تلك الجماعات وصعوبة التفاوض معها او مسايرتها، وإذا سلّمنا جدلاً بأنّ الدعوة طرحت لتنال آذاناً صاغية فما يجب الحديث عنه او التساؤل في شأنه هو مدى إيجابية المتلقي واستعداده لها، كما هو طبيعي لدى الدعوة إلى أيّ حوار، واذا تمّ هذا البند، ينسف الحديث عن ايّ تشدّد لداعش بمجرّد القبول بالتعاون… إلا أنّ الواقع مغاير ومختلف مع التنظيم المقصود، فحتى ينجح ايّ حوار يجب ان يستوفي الشروط ويخضع لأسس ومبادئ وأهمّها أنه «ليحاورك الآخر عليه ان يعترف بك»… وفي هذه الحالة لا تعترف دولة «داعش» بتعدّد الأديان وبأحقية ممارسة الفرد معتقداته، وبالنسبة اليها لا تجمعهـا إنسانية بل يجمعها مع البشر دين بتعاليـم خاصة لهذا اعتمدت على الإقصاء والإلغاء وتكاد لا تعرف مع مَن تتعاطى من الدول او من التيارات او المجموعات وحتى الأفراد، وعليه… كيف يمكن محاورة من لا يؤمن بوجودك او بشرعية وجودك وتمثيلك لدين او طائفـة برمّتهـا فـي هذا المشرق؟ خصوصاً أنّ هذا الاعتراف لا يمكـن انتزاعه بحـوار أو جلســة او بتفـاوض أو وساطـة…
قالوا إنّ الراعي لم يراعِ…
لا تلام الناس على مشاعرها ولا يُلام الراعي على مبادئه، لكن في زمن القلق والخوف وانعدام الثقة أصلاً بجدوى الدعوة من مطلقها وفي زمن المجازر والتكفير… مراعاة الراعي لن تفسد في القضية… وبين دعوة مجدية ودعوة مثيرة ودعوة منتجة تبقى الدعوة، هذه دعوة لا تتعدى حدود إطلاقها لكنها استطاعت ان تحدث تساؤلات وتجاذبات اعتبر كثر انّ لبنان بالغنى عنها.