هزائم متتالية توّجت بسخرية بوتين على حكمة كيري
ناديا شحادة
من خلال متابعة دقيقة لتسلسل الأحداث التي تتعلق بالأزمة السورية والموقف الروسي منها ندرك تماماً أن روسيا لا تزال مصرّة على التمسك بمواقفها الداعية إلى ضرورة إيجاد حل سياسي يقوم على اتفاق سوري – سوري دون تدخل خارجي، لمتانة العلاقة الروسية السورية التي تعود لجذور تاريخية تمتد من القرن الثامن عشر حين تم افتتاح أول بعثة قنصلية روسية في الخارج في دمشق وكانت مهمة هذه البعثة خدمة الحجاج الروس الذين كانوا يزورون الأماكن المقدسة في فلسطين عبر مرورهم بدمشق، ولخوف القيادة الروسية من سقوط سورية ذات الموقع الجيواستراتيجي بيد الجماعات الإرهابية التي تقاتل الجيش السوري، فإن المنطقة بأكملها ستدخل في أتون الفوضى التي لن يستطيع أحد إيقافها، لما لدى روسيا من معلومات استخبارية تؤكد أن المقاتلين ضد النظام هم مَن ينتمون إلى مجموعات إرهابية قاتلت الاتحاد السوفياتي في أفغانستان والتي لا ترغب بقيام نظام ديمقراطي في سورية بقدر ما تسعى إليه من دمار وخراب، والقضاء على النظام الحاكم تنفيذاً لأجندة خارجية انتقاماً من العلاقات المتينة التي تربط الحكومة السورية بحلف المقاومة..
بين تصريحات مهندس الدبلوماسية الروسية الخارجية سيرغي لافروف الذي هندس عودة بلاده كقوة عالمية عظمى، يجتمع القرار الروسي المتعلق بالحرب السورية، حيث عبر منذ البداية عن تخوف روسيا من سياسة الغرب المسهل لمجيء متطرفين إلى السلطة، لأن من شأن ذلك أن يقضي على التعددية في سورية، بالإضافة إلى إعلانه أن مجلس الأمن لن يكون بإمكانه التصديق على تدخل خارجي أو فرض التغيير على السوريين من الخارج، وكذلك الإعلان على أن السوريين وحدهم مَن يقرّرون مسألة رحيل الرئيس الأسد والآلية التي تبحث في رحيله غير قابلة للتطبيق، وقد جادل لافروف واشنطن كثيراً في هذه النقاط، وأكد وزير الخارجية على أن بلاده لم ولن تغيّر مواقفها التي أعلنتها منذ بداية الأزمة في سورية وشدّد رفض بلاده اشتراط خروج الرئيس الأسد أو تنحّيه..
يؤكد الخبراء الاستراتيجيون على أن الدبلوماسية الروسية اتبعت سياسة مراحل وضعتها لحل الأزمة السورية وسارت من خلالها بداية من استبعاد التدخل العسكري الأميركي وصولاً للحل السلمي للسلاح الكيميائي. فمندوب روسيا في مجلس الأمن الدولي استخدم الفيتو مرتين لمنع أي عدوان أو عقوبات على سورية وأرسلت موسكو سفنها الحربية إلى سواحل سورية جنباً إلى جنب مع الأساطيل الأميركية عندما هددت الإدارة الأميركية علناً بضربة عسكرية، فالمواقف التي اتخذتها روسيا أثبتت أن موسكو بوتين قوة عالمية عظمى ولن ولم تتخلَّ عن حلفائها ويمكن الاعتماد عليها والوثوق بها ليس كمصدر تسليح فقط وإنما كحليف قوي لا يخذل أصدقاءه نافية بتلك المواقف كل ما تمّ الترويج له من قبل السعودية وجماعتها أن هناك تغييراً في الموقف الروسي بالنسبة للرئيس الأسد، فالجهود الدبلوماسية السعودية المتواصلة التي بذلتها في محاولة لحلحلة الموقف الروسي إزاء الأزمة السورية بشكل تدريجي، خصوصاً في ما يتعلق برحيل الرئيس الأسد تزايدت في الآونة الأخيرة ورغم جميع محاولات المملكة إلا أن الخلافات العميقة بين موسكو والرياض مازالت قائمة، ففي الوقت الذي أكد فيه الجبير خلال اجتماعه مع لافروف في موسكو في 11 آب من العام الماضي على أن موقف الرياض لم يتغيّر وليس هناك مكان للرئيس الأسد في مستقبل سورية، أعاد لافروف التأكيد على أن الشعب السوري وحده يمكنه تقرير مصير الرئيس الأسد، حيث قال القرار حول قضايا التسوية كافة، ومن بينها ما يتعلق بإجراءات المرحلة الانتقالية والإصلاحات السياسية، يجب أن يتّخذه السوريون أنفسهم بما يتناسب مع اتفاق جنيف 2 .
روسيا بوتين عادت إلى المنطقة وعلى ظهر سياسة خارجية عمادها الرئيسي نصرة أصدقائها والوقوف إلى جانبهم، وكل الضغوط لم تتمكن من زعزعة الموقف الروسي المبدئي من سورية، بل العكس تحقق لجهة دخول القوات الروسية بشكل مباشر في الحرب السورية في تموز العام الماضي لمحاربة الجماعات الإرهابية جنباً إلى جنب مع الجيش السوري وحلفائه وتمكّنوا من تغيّر الواقع الميداني وقلب موازين القوى على الأرض، وأجبرت موسكو الغرب على التخلّي عن فرض الشروط المسبقة كالمطالبة المستمرّة برحيل الرئيس الأسد وهو ما سقط بالضربة القاضية من خلال قرار أممي رسم الخطوط العريضة بدستور جديد وانتخابات مقبلة يتوافق عليها السوريون أنفسهم يحق للرئيس الأسد المشاركة فيها، بالإضافة إلى سقوط ورقة الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة من خلال تسويق النصرة منظمة معتدلة فتمّ استثناؤها من الهدنة وهو ما مهّد لانتصارات في مختلف الأراضي السورية بداية من اللاذقية وأريافها ثم حلب ودرعا والقنيطرة وصولاً لعودة تدمر لحضن الدولة السورية.
موسكو التي واجهت غطرسة القوة الأميركية أسقطت جميع معارك الرياض وحلفائها في سورية، حتى الصراع على حصر المعارضة بمن اجتمع في الرياض يبدو أنه سقط بدليل تصريحات كيري ولافروف في موسكو والتي تدعو لضرورة أن تشمل المحادثات أوسع تمثيل ممكن لأطياف الشعب السوري.
فتسلسل الأحداث يعطي إشارات واضحة بأن روسيا كانت ولا زالت متمسكة بمواقفها المبدئية من مختلف القضايا وأن مَن كان يحاول شيطنة موسكو وحلفائها في العالم نجده اليوم يتودّد ليلتقي مع بوتين ولافروف لرسم مستقبل عالم متعدّد الأقطاب.