حسم أمر رئاسة الجمهورية والمعركة على رئاسة الحكومة

ناصر قنديل

– لا يُعير الأميركيون بالاً لما سيقوله حلفاؤهم اليوم، فهم يسمعونهم ويعرفون أنهم لا زالوا يمضغون كلمات الأمس ولم ينتبهوا لحجم ونوع التغييرات التي تجري، لكنهم كما تريد موسكو يسيرون بالتتابع في خطوات تجعل فرص التعطيل على حلفائهم شبه معدومة، وبالمقابل يراهنون على سرج أحصنة تكون جاهزة بما يتناسب مع طبيعة موازين القوى، وفقاً للقراءة الواقعية التي أوصلتهم لمفهوم الانخراط الذي شرحته بصورة مفصلة وثيقة بايكر هاملتون قبل عشر سنوات وبقيت في الأدراج لحين انتهت اختبارات حدود قدرة القوة الناعمة في صناعة التغييرات السياسية ورسم الجغرافيا الإقليمية بعدما فشلت القوة الخشنة وكان فشلها بعد حربَيْ العراق وأفغانستان والحرب «الإسرائيلية» على لبنان، وراء وثيقة بايكر هملتون ومفهوم الانخراط الذي بشّرت به وروّجت له الوثيقة.

– نالت القوة الناعمة أو مشاريع خلط الأوراق السياسية والأحلاف وابتكار التغييرات والحروب الأهلية والثورات والفتن، فرصة السنوات العشر التي تنتهي بنهاية مهلة الانسحاب الأميركي من أفغانستان هذا العام بعد تمديد بقائها لسنتين لمرة أخيرة، وبدأت خطوات الانسحاب منذ مطلع هذا الشهر لما تبقى من قوة هناك. والحصيلة كانت فشل العثمنة والأخونة، وفشل الاستعانة بتنظيم القاعدة، وفقاً للوصفة السعودية لإسقاط الخصوم. وها هو نموذج ليبيا وسورية، ومقابله داعش يدق أبواب أوروبا بقوة. وعلى ضفة مقابلة نهضت قوة روسيا وإيران بأقوى مما كانت، وصارتا شريكتين في المعادلات الدولية الإقليمية وقد قطعت واشنطن شوطاً مهماً في الانخراط مع كل منهما والتأقلم مع مواقعهما الجديدة.

– تسير واشنطن بالتتابع خطوة خطوة، وتخرج من سياسة الاحتواء المزدوج مع الإرهاب وتتجه لجعل الحرب على الإرهاب أولويتها المقبلة، وتصير أولوية الإدارة الديمقراطية لضمان الفوز الانتخابي، بمعزل عن الحلفاء العاجزين والمتورّطين، وبالتشارك مع الخصوم الذين يصيرون شركاء، لكنها تطعم حلفاءها لقمة لقمة تسهيلاً للمضغ والبلع. فهكذا تمّ التدريج من مسار فيينا الخاص بسورية وتقبّل السعوديون والأتراك فشل الرهانات وسلّموا بحدود القدرة على الممانعة، وصدر القرار الأممي الذي يُلغي موقع الرئاسة السورية كبند دولي إقليمي في التعاطي مع الأزمة والحرب في سورية ويُعيدها مسألة داخلية، وهذا يعني تركها لتداول بلا طائل، سيفرض بالتتابع سحبها من التداول مع ضغط استحقاقات الحرب على الإرهاب والحاجة لحكومة سورية تكون شريكاً معترفاً به فيها، فتتم إعادة الأمر إلى صاحب الحق الأصلي وهو الشعب السوري عبر صناديق الاقتراع عندما يصير ذلك ممكناً.

– تترك واشنطن الأمور تأخذ وقتها مع الحلفاء الذين يصعب عليهم الفهم السريع وتأخذهم أوهامهم لتخيّل مسارب والتفافات تخرجهم من الطريق الرئيسي والأميركي يتعامل معهم وفقاً لمعادلة دعهم يصدموا رأسهم بالجدار ويعودوا، لكنه في مسار آخر، يكاشفهم عندما ينضجون وتلح الاستحقاقات وتضغط بضرورة التسليم بالواقع المرّ وتجرّعه، لكنه يكون قد أنضج خطوات لاحقة يسرج لها أحصنة جديدة، تتناسب مع فهمه لما تتيحه موازين القوى، وهو يدرك أن الرئاسة السورية حُسِمت ولا مجال للبحث والخوض في مصيرها وهي ليست ورقة تفاوضية على الطاولة مع أي من حلفاء سورية، لا في موسكو ولا في طهران، لذلك ذهب كيري إلى موسكو ليقول تعالوا نتفق على صيغة تتيح إقناع السعوديين وجماعتهم بالانخراط في الحل عندما ينضجون، طالما البحث بجائزة ترضية من عيار توصيف حزب الله خارج لبنان إرهابياً، أو جعل خروجه من سورية شرطاً للحل، فلنبدأ البحث برئاسة الحكومة السورية الموحّدة، وليكن شخص رئيس الحكومة الوازن ضمانة الضفة المقابلة للرئيس الذي يملك حقاً وصلاحيات دستورية كافية لطمأنته. وطبعاً ستكون في العقل الأميركي أسماء يطرحونها في الوقت المناسب، وربما تكون أسماء يراهنون على تهيئتها لخوض المعركة الرئاسية لاحقاً انتخابياً بعد تصنيع مكانتها السورية والعربية والدولية، بما يجعلها مؤهلة للتقدم كشخصية تسووية تصالحية، يسجل في رصيدها نجاح التهدئة والمصالحات وتوضع في خدمتها موازنات الإعمار.

– عندما يتحدث الأميركي عن الدستور الجديد، فهو يقصد تقاسم الصلاحيات بين رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة، واللعب على الإيحاء بجعل التقاسم يبدو كتقاسم طائفي بعدما فشل في تكريس إعادة بناء الدولة على أسس طائفية، كان وزير الخارجية الأميركية جون كيري أول من بشَّر بها من الدوحة في العام 2012، وفي العقل الأميركي استنساخ نموذج لبنان، وإذا فشل فلا مانع من تقاسم صلاحيات على الطريقة الفرنسية، كما يبدو أن الطرح الروسي التفاوضي يتمسك ببقاء السياسات الخارجية والدفاعية بيد رئيس الجمهورية وتقاسم الصلاحيات الداخلية بينه وبين الحكومة ورئيسها، مع التمسك بمعادلتين هما سورية دولة علمانية موحّدة، حتى لو طبقت فيها الفدرالية فمن ضمن الوحدة، والثانية أن الدستور المعدل بتقاسم صلاحيات يتم بين حكومة تشكلها الأغلبية النيابية المنتخبة ورئيس جمهورية منتخَب، وليس في مرحلة الحكومة الموحّدة الآتية من المفاوضات الحالية.

– سورية أمام عمل سياسي مهم ودقيق لرسم سياساتها بطريقة تراكم انتصاراتها، وتحفظ تحالفاتها، لكنها تصون معادلتها السياسية الداخلية لمستقبل طويل المدى، وهو أمر قد لا يتفق مع الرؤيا الروسية بالضرورة، ولكن من ضمن الخلاف الإيجابي، طالما أن مَن سيقرر الدستور الجديد ويبت به هم السوريون عبر استفتائهم، لكن المحطة الأهم الآن التي يلتقي عليها السوريون وحلفاؤهم هي التنبه بعناية للأسماء التي سيجري تداولها لرئاسة الحكومة بحصيلة المفاوضات.

– تقول مصادر على صلة بالقراءة الأميركية لكل من لبنان وسورية أن لا مانع أميركي من صيغة لرئاسة الجمهورية في البلدين تبقيها بيد محور المقاومة وبصلاحيات أوسع في مجال السياسات الخارجية والدفاعية، مقابل التفاهم على رئاسة للحكومة تريح الفريق المقابل وتشكل قاعدة التشبيك الاقتصادي الذي يبقى الهم الأول للأميركيين. ولا مانع مع مراعاة بعض الخصوصية أن ينسحب بشكل أو بآخر هذا النموذج على العراق واليمن.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى