تحرير تدمر… تطوّر محوري في الأزمة السورية
راسم عبيدات
عام مضى على اختطاف تدمر من حضن الوطن السوري من قبل العصابات التكفيرية الوهابية، مثل «داعش» وغيره من التنظيمات والألوية الإرهابية مختلفة التسميات والتوصيفات، التي أوغلت في دم أبناء المدينة، وهدمت أجزاء من قلعتها الشهيرة، كما دمّرت الكثير من المعالم الحضارية والأثرية فيها.
هؤلاء مغول وتتار العصر من خارج البشرية العاقلة، وصمة عار في جبين الإنسانية والإسلام والمسلمين، أرادوا أن يوقفوا عجلة التاريخ ويخضعوه لهندستهم الاجتماعية وأن يعيدوا سورية، بلد الحضارات، إلى عصر الجاهلية الأولى، مدعومين من قوى عربية وإقليمية ودولية، في مقدمتها البيئة الحاضنة لتلك الجماعات وفكرها التكفيري الوهابي، والتي أمدّتها بكلّ مقومات القوة والبقاء من مال وسلاح وفائض بشري إرهابي وخدمات لوجستية واستخباراتية وغيرها.
القيادة السورية وفي قمة هرمها الرئيس بشار الأسد ومعها الحلفاء الموثوقون حزب الله وروسيا وإيران، عقدوا العزم على تحرير المدينة واستعادتها من العصابات المجرمة، كمقدمة لتحرير ما تبقى من أرض سورية تحت سيطرة تلك العصابات، كدير الزور والرقة وغيرها.
ثلاثة أسابيع كانت كافية لنسور الجيش العربي السوري ومغاوير حزب الله، بالتعاون مع نسور الجو الروسي والسوري، لتحرير مدينة تدمر من تلك العصابات الوهّابية التكفيرية، هذا التحرير الذي يشكل تحولاً استراتيجياً على صعيد الأزمة السورية وله دلالاته ومعانيه وتداعياته العسكرية والسياسية.
فبالنسبة إلى «داعش» و«النصرة»، فهذا يعني خسارة كبيرة ومؤلمة لتلك القوى التى جرى توافق دولي روسي ـ أميركي على مواصلة الحرب عليها، على اعتبار أنّ أولوية مواجهة الإرهاب تتقدم على أي أولويات أخرى أمام الانحسار والتراجع، تمهيداً لاجتثاثها والتخلص منها كزوائد وطحالب سامة نمت في بيئة غير بيئتها، حيث نشهد تقدماً كبيراً للجيش العراقي والقوى المتحالفة معه من خلال تحرير العديد من المدن العراقية التي كانت خاضعة لسيطرة تنظيم «داعش»، حيث باتت تلك القوات على أبواب مدينة الموصل، والتي سيكون تحريرها نقطة تحول استراتيجي في الأزمة العراقية، وبداية الهزيمة الساحقة لـ«داعش» وغيره من قوى الإرهاب والتطرف.
هذا الإنجاز العسكري السوري بتحرير تدمر والمتدحرج لتحرير بقية أجزاء الوطن سيترجم، بطبيعة الحال، إلى إنجازات سياسية في المفاوضات الدائرة في جنيف حول الأزمة السورية، فهو سيعزّز، بشكل كبير، الموقف التفاوضي للدولة السورية والمكانة الإقليمية والدولية لسورية، ويثبت أنّ الجيش العربي السوري هو القوة الوحيدة والحقيقية القادرة على ضرب أوكار الإرهاب وتصفيتها واجتثاثها.
ويؤكد هذا الإنجاز أيضاً، عمق تحالف معسكر المقاومة والجيش السوري وروسيا، ويدحض الادّعاءات والتحليلات بأنّ التحالف السوري ـ الروسي تعرض للاهتزاز وأنّ روسيا ضحّت بالأسد، خصوصاً أنّ روسيا شاركت عبر سلاحها الجوي وقواتها الاستخباراتية في تحرير المدينة وسقط أحد ضباطها شهيداً في تدمر، مؤثراً الشهادة على الأسر في أيدي «داعش».
إنّ ما حدث من تفجيرات إرهابية في بلجيكا تبناها «داعش»، عزّز بشكل كبير وأوجد حالة من الإجماع الدولي على ضرورة محاربة قوى الإرهاب والتطرف في سورية، وقد باتت تشكل خطراً على أوروبا، وهي تتقدم على أي أولوية سياسية في رسم خريطة «سورية الجديدة»، وهذا التحرير سيزيل من أذهان جماعات المعارضة، خاصة المنبثقة عن مؤتمر الرياض، الحديث عن هيئة انتقالية بصلاحيات تنفيذية كاملة ورحيل الأسد، فأميركا ودول أوروبا الغربية باتت على قناعة تامة بأنّ أيّ حلّ سياسي سيكون تحت سقف الأسد ومن خلال حكومة وحدة وطنية تضع مسودة دستور سوري جديد تجرى على أساسه انتخابات رئاسية وبرلمانية.
أحدث الإنجاز العسكري المهم تغيرات كبيرة وملحوظة في مواقف الكثير من الدول الغربية، على صعيد علاقاتها بالنظام السوري، فكان لقاء ممثلة الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي فيديريكا موغريني مع المندوب السوري الدائم في الأمم المتحدة بشار الجعفري، ولقاء الوفد البرلماني الفرنسي مع الرئيس السوري بشار الأسد في دمشق، نقطة البداية العلنية في تلك التغيرات الحاصلة.
أما بالنسبة إلى الوفد السوري الذي سيشارك في جولة المفاوضات المباشرة الثانية في جنيف، فإنّ مواقفه بعد تحرير تدمر واستعادتها ستكون أكثر تصلباً وتشدّداً، وهو لن يسمح بطرح موضوع الرئاسة السورية على بساط البحث والتفاوض، باعتبارها خطاً أحمر وحقاً حصرياً للشعب السوري لتقرير مصيرها، ولن يقبل بأن تتم المفاوضات خارج إطار القرار الأممي 2254 .
المراهنون على سقوط الرئيس الأسد ونهاية الدولة السورية بعد خمس سنوات من الحرب الكونية عليها، لن يجروا سوى أذيال الخيبة والهزائم، فها هي سورية تستعيد جغرافيتها ووحدتها، متمسّكة بقيادتها وهويتها وعروبتها وعلمانيتها ومواقفها وتعدّديتها السياسية والفكرية، وستبقى دولة لكلّ مواطنيها.
سورية ستلملم جراحها وسيعود مواطنوها إليها، وستبقى الحاضنة لكلّ الثوريين والمقاومين ورأس الحربة في الدفاع عن المشروع القومي الذي حاولت قوى التطرف والإرهاب القضاء عليه، خدمة لمشروع تقسيم المنطقة من جديد على أسُس مذهبية وطائفية.