تدمر العمق التراثي
العلامة الشيخ عفيف النابلسي
استعادة الجيش السوري وحلفائه مدينة تدمر لا تُوزن فقط بميزان النصر العسكري، وإنما بدرجة كبيرة بميزان النصر التراثي. الاستعادة من دون شكّ ضربة قاسية للإرهاب الذي يخسر المزيد من الأراضي وتتقلص على نحو تدريجي المساحة الجغرافية السورية العميقة للدولة السورية، ولكن الأهمّ في إرجاع تدمر هو عودة العمق التراثي للدولة السورية. لأنّ التراث يعكس بعداً هاماً من أبعاد هوية الدولة وثقافتها وصورة من صورها الإنسانية المرتبطة بالنظرة إلى كلّ ما هو قديم.
التراث لا يُذكّر بماضٍ عريق فقط، وعلى حضارة أقوام بادت، أو على عمران شامخ يُبهر الناظرين، وإنما على غدٍ متسامح مع التاريخ وناظر فيه ومعتبِرٍ منه.
التراث ليس صنماً يُعبَد وإنما تجربة إنسانية تستحق الاقتراب منها واكتشاف غوامضها.
الفارق بين الإسلام الأصيل وبين هؤلاء الإرهابيّين، أنّ الإسلام لا يمارس فعل الهدم، كما فعلت جيوش وقبائل كثيرة كانت على مرّ العصور الماضية تدمّر بعضها بعضاً، فلا تُبقي حجراً على حجر بفعل تجذّر روح الانتقام والتشفّي والكراهية تجاه الآخر والرغبة في إفناء كلّ أثر عمراني وثقافي له.
الإسلام لا يجوّز هدم الأبنية والجسور وغير ذلك من المعالم والمنشآت المدنية التي لا علاقة لها في كسب الحرب أو دحر العدو. وكانت وصايا الرسول ص لا تجيز أيّ نوع من أنواع الغلوّ والتجاوز والخروج عن حدّ قتال الأعداء، فيما كان المغول والتتار قديماً والأميركان والصهاينة حديثاً يمعنون في ممارسات الهدم لإزالة صفة المدنية والحضارة عن شعب هنا وشعب هناك. و داعش الذي ينتمي بالهمجية إلى هؤلاء يمارس الأفعال الشنيعة عينها، وقد أحصت منظمة اليونسيكو مئات المواقع الأثرية التي هدمها التنظيم في كلّ من سورية والعراق ما يؤكد أنه لا يوجد في قاموسها احترام لإنسان أو مراعاة لتراث قديم. وليس ببعيد عن تنظيم داعش الإرهابي، فقد وثّقت منظمات محلية وعالمية تعمل في اليمن مئات الجرائم التي طالت مجالات الحياة كافة على مدى عام كامل من العدوان السعودي الوهابي. وقالت وزارة الثقافة اليمنية في بيان لها إنّ أكثر من أربعة آلاف معلم أثري قد تدمّر أو تضرّر بفعل العدوان وبعضها مسجل في قائمة التراث العالمي.
والمعالم الأثرية التي قصفها السعوديون ليست أحجاراً أو أصناماً تُعبَد بل هي موزّعة بين مسجد وحصن وقلعة وأحياء ومتاحف تحوي آلاف القطع الأثرية النادرة.
يتضح من كلّ ما ذكرناه أهمية استعادة تدمر، لأنّ استعادتها تؤكد على اهتمام الدولة السورية حماية التراث الإنساني من جهة، وتؤكد من جهة أخرى أنّ الإسلام ليس السعودية ولا «داعش» ولا غيرهما ممن أمعنوا في تدمير المواقع الأثرية انتقاماً من حضارة الغير وحسداً لما عندهم.