ارتباط المسألتين السياسيّة والاقتصاديّة في العلاقات التاريخيّة بين لبنان وسورية
د. مصطفى بزي
يقول ابن خلدون: «إن موضوع التاريخ واسع جداً، وهو لا ينحصر بما حدث من الفتوحات والحروب… بل يشمل كل ما حدث من التحول في الحياة الاجتماعية على اختلاف مظاهرها… وإن الأخبار المتعلقة بالأحوال الاقتصادية والصنائع والعلوم أيضاً، تدخل في نطاق موضوع التاريخ» 1 .
ولأنّ الناس لا يستطيعون أن ينشطوا في المجتمعات بمعزل عن بعضهم البعض، ولأن نشاطهم لا بدّ من أن يكون مشتركاً، وبالتالي متكاملاً، فإن هؤلاء لا ينتجون علاقات سياسية واقتصادية واجتماعية، إلاّ إذا تفاعلوا في ما بينهم.
من هذا المنطلق تتضح مسألة ترابط المسألتين السياسية والاقتصادية في سيرالعلاقات بين لبنان وسورية وتطوّرها، وإن ما قرأناه وعرفناه في كتب التاريخ، وما شهدناه ونشهده في التاريخ الحديث والمعاصر، من ارتباط مباشر في المسائل التي ذكرنا، لم يكن أمراً طارئاً وبسيطاً، ولم يأتِ من عبث، فهذا الارتباط عميق في جذوره الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، خاصة خلال فترة لم تكن هناك حدود، مثل الحدود التي اصطنعت من قبل الانتدابات في ما بعد، ولم تكن هناك حواجز تفصل بين لبنان وسورية، كذلك بين لبنان وفلسطين. ويمكن القول إنه كان هناك شعب واحد يعيش في مقاطعات مرتبطة بعضها ببعضها الآخر بأكثر من رابط، ومتصلة بأكثر من صلة.
إن لعلاقة اللبنانيين بالسوريين ما يبررها، واعتبارات عديدة، وأسباب ذاتية وموضوعية لا يمكن اختصارها بعناوين بسيطة، بل تشمل حقيقة النواحي الحياتية كافة.
لا بدّ هنا من ذكر مسألة على الصعيد الإداري، فأثناء إعادة ترتيب الولايات التابعة للدولة العثمانية عام 1864، إثر حوادث 1860، تعلق جبل عامل مثلاً بولاية سورية، وفي 1888 وبعد استحداث ولاية بيروت، أصبحت أكثر المناطق اللبنانية تتبع هذه الولاية التي شملت سناجق بيروت وعكا وطرابلس واللاذقية ونابلس. والجدير ذكره أن سنجق بيروت كان يتألف من أربعة أقضية هي بيروت وصيدا وصور ومرجعيون، وبحكم الجوار مع سورية، فإن معظم أجزاء ولاية بيروت كانت ترتبط بعلاقات مع سورية، خاصة عبر منطقة الجولان كلّها، امتداداً إلى درعا والحدود الأردنية، وعبر منطقة البقاع في اتجاه حمص ومحافظتها، وعبر طرابلس واللاذقية والساحل السوري كلّه.
إن اللبنانيين عامة، وخاصة في الجنوب والبقاع والشمال، كانوا يساهمون مساهمة كبيرة، مع آخرين، في صوغ منحى سياسي عام في دولة المسلمين، وكانوا على المستوى القومي يعملون لما فيه دوام الدولة وتقدمها. ورغم السمة الشيعية للعامليين والبقاعيين، إلاّ أنهم لم يختلفوا عن سواهم من مسلمي السلطنة في تطبيق السياسة العليا للدولة «رغم سمتها الإسلامية السنيّة، وإن شعورهم المذهبي لم يكن يميز تطلعهم السياسي عن غيرهم من العرب، أو المسلمين السنّة، لأنهم كانوا كغيرهم من المسلمين، من مختلف الأعراق، لا يكادون يشعرون بغير الجنسية الدينية» 2 ، وظلوا يعتبرون أنفسهم، ككل العرب، «مسلمين وعرباً» 3 ، وبالتالي فإن تطور الحركة القومية العربية في المناطق اللبنانية التي ذكرنا، يندرج في سياق الحركة القومية لعرب السلطنة قاطبة.
كدليل واضح على دور الشيعة العروبي في بداية الحركة العربية، تبرز الشهادة الشفهية لأحد أعيان آل الصلح حول مشاركة أعيان وعلماء من الشيعة في مؤتمر دمشق السرّي الذي عقد سنة 1877 4 ، والذي قرّر إنشاء إمارة سورية عربية برئاسة الأمير عبد القادر الجزائري، ومن هنا يمكن أن نفهم الزيارات التي كان يقوم بها الأمير إلى بعض المناطق اللبنانية، وبينها جبل عامل، ولقاءه أعيان البلاد.
لدى عقد المؤتمر العربي في باريس، في حزيران 1913، تلقى المؤتمر برقيات، خاصة من جبل عامل، وبينها برقية باسم قضاء صيدا، والثانية من الشيخ أحمد عارف الزين، صاحب مجلة «العرفان»، يشير فيها إلى الجهل والظلم اللذين تعانيهما البلاد، وهي جديرة بكل إصلاح، وحريّة بالسعي وراء الرقي والنجاح، خاصة داخل البلاد وبواديها.
بعد هزيمة الأتراك وإعلان حكومة فيصل في دمشق جرت اتصالات بين هذه الحكومة والمناطق اللبنانية، وأنشئت حكومات محلية تابعة للحكومة العربية، ورفع على مقارها العلم العربي أو الراية العربية في أيلول 1918. وذهبت الوفود من المناطق اللبنانية إلى دمشق في تشرين الأول من العام نفسه لتهنئة الأمير فيصل.
إن مجريات الأوضاع السياسية التي أعقبت ذلك، ومحاولات الفرنسيين خنق أي تحرك استقلالي عربي، قابلتها مواقف في المناطق اللبنانية، خاصة في جبل عامل والبقاع والشمال، معارضة للفرنسيين. تلك المعارضة ارتَدَتْ في ما بعد طابعاً عسكرياً مسلحاً لمقاومة العدوّ الجديد.
إن إصرار فئات لبنانية عديدة على العلاقة مع سورية يبرز أيضاً في 21 حزيران سنة 1928، حين عقد مؤتمر الوحدة السورية العام في دمشق في منزل ياسين بك الجابي وحضرته وفود لبنانية، بينها وفد عاملي من صيدا وصور ومرجعيون وغيرها، ومن أهم البنود التي انبثقت عن المؤتمر تأييد وحدة البلاد السورية العامة. ويذكر أن عبد الحميد كرامي كان رئيس المؤتمر، والشيخ أحمد عارف الزين أحد السكرتاريين.
في 8 نيسان 1933 عقد مؤتمر في دمشق كان عنوانه بشكل أساسي وقف سياسة التعاون مع الانتداب الفرنسي، و«حملت وفود من سورية وغيرها مضابط، تدعو ملك العراق فيصل لتوكيله للتوسط لحلّ القضية السورية حلاً يحقق آمال البلاد، وعبّرت عن هذه الرغبة وفود كل من بيروت وطرابلس وحماه وحمص وجبله واللاذقية والنبطية وبعلبك، وذلك في مضبطة واحدة» 5 . وفي 2 تشرين الثاني 1933 صدرت عريضة مؤتمر أهل الساحل التي تبنّت النظرة التي تؤكد على أن يكون هؤلاء ضمن الوحدة السورية العامة التي لا حياة للبلاد من دونها.
إن قمة النضال لأجل تحقيق الوحدة السورية كانت خلال انتفاضة العامليين في1 نيسان 1936، يوم حصلت انتفاضة عارمة، وجدت صداها في سائر المدن اللبنانية، خاصة صور وصيدا والنبطية وبيروت وطرابلس، وفي سورية قاطبة وفلسطين. ظاهر الانتفاضة كان اجتماعياً ضد شركة الريجي الاحتكارية، لكن باطنها سياسي ضد الانتداب الفرنسي وتأييداً لشعار الوحدة السورية.
ولعل أبلغ تعبير عن التعلق بسورية في تلك الفترة ما قاله الشاعر العاملي موسى الزين شرارة في قصيدة له:
تشهد الأرض والسما بأنا
عن هوى الشام لحظة لن نحيدا
هي في القلب والحشاشة منا
فليقيموا حواجزَ وحدودا
إن المؤتمر الذي عقد في صيدا في 5 تموز سنة 1936 كان تتويجاً للموقف المؤيد للوحدة السورية، إذ تحول هذا المؤتمر الذي عقد في منزل عباس الحرّ وحضرته شخصيات عديدة إلى مؤتمر تحت شعار الالتحاق بسورية. وبعد هذا المؤتمر لوحظ أنه أصبح ضمن الفريق الإسلامي الواحد اتجاهان، أحدهما ينتقد المؤتمر، وعبّر عنه محي الدين النصولي في جريدته «بيروت»، وآخر مؤيد لما صدر عنه، وخاصة في ما يتعلق بالموقف من سورية، وعبّر عن هذا الفريق الشيخ أحمد عارف الزين الذي ردّ على النصولي قائلاً: «إن زعماء المسلمين في بيروت، ووجهائها، هم المسؤولون في الدرجة الأولى عن هذه التجزئة، لأنهم تخلوا عن قيادة الحركة الوطنية في المطالبة بالوحدة أي الوحدة مع سورية ، وتركوا أهل طرابلس وحدهم يطالبون بها كما تجاهلوا الحركة الأخيرة في صيدا وجبل عامل…» 6 .
عقد المؤتمر الإسلامي في 24 تشرين الأول 1936 في ظل تباين في المواقف بين اتجاهين إسلاميين، وكان من جملة القرارات التي اتخذت التأكيد على أن المسلمين هم من «جملة طلاب السيادة القومية مركزة على وحدة شاملة لأجزاء سورية، وكان هناك احتجاج لإقصاء طلاب الوحدة من الاشتراك في المفاوضات التي كانت تتم مع الفرنسيين» 7 .
استمر النضال السياسي في المناطق اللبنانية أو بعضها في هذا الاتجاه، وكان هناك تواصل مستمر بين القيادات الوطنية السورية والزعامات الوطنية في لبنان حتى نهاية الأربعينات، إذ أصيبت الأمة بما هو أدهى وأصعب، ألا وهو احتلال فلسطين من قبل الصهاينة عام 1948، وهنا تبدأ مرحلة جديدة في العلاقة منذ مطلع الخمسينات حتى اليوم.
إن العلاقات السياسية التي تحدّثنا عنها والتي كانت تتسم بالتلازم بين أكثر المناطق اللبنانية وسورية، كانت لها أسس اقتصادية متينة عمرها مئات السنين، كما أن تطور الأوضاع السياسية انعكس على تطوير العلاقات الاقتصادية بين المنطقتين، وتحديداً بين جبل عامل والبقاع والشمال من ناحية، وسورية وتحديداً الشام وحوران وحمص وحلب واللاذقية وغيرها من ناحية ثانية، امتداداً حتى الأراضي والبلدات الأردنية. وكانت العلاقات الاقتصادية تتمّ عبر القوافل التجارية والمكارية الذين كانوا ينقلون البضائع بين البلدين، ويكفي أن نقول إن واردات مرفأ صيدا من مدن الجوار الجغرافي، بلغت سنة 1862 عشرة آلاف فرنك، ثمن سلع مختلفة من حلب وسبعين ألف فرنك من دمشق.
يمكن القول إنه كان هناك تكامل اقتصادي بين لبنان وسورية، وإن العمليات التجارية كانت تتم عبر الأسواق الأسبوعية التي تعقد في المدن الرئيسية في لبنان وسورية، ويمكن القول إن الشام والقنيطرة بخاصة كانتا مقصداً أساسياً، يومياً وأسبوعياً لمئات التجار العامليين الذين كانوا يشكّلون الزبائن الرئيسيين التجاريين للتجار في الشام وحوران.
هذا الأمر كان ينطبق أيضاً على العلاقات الاقتصادية بين البقاع والداخل السوري، خاصة في منطقة حمص وجوارها، وبين الشماليين والساحل السوري… استمرت هذه العملية طوال الفترة بين نهاية القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين، لتشهد بعد احتلال فلسطين واقعاً جديداً، ففيما استمرت علاقات البقاعيين والشماليين على حالها تراجعت علاقة العامليين بسبب إقفال طرق القوافل، لتعود هذه العلاقة وتأخذ طابعاً آخر مختلفاً.
هذه الأمور كلّها شكلت منطلقاً لعلاقات تاريخية اتسمت بمزايا مختلفة سياسية واقتصادية لا تزال قائمة إلى اليوم وهي جديرة جداً بالاهتمام.
1 ساطع الحصري: «دراسات في مقدمة ابن خلدون» طبعة موسعة، دار الكتاب العربي، بيروت سنة 1967، ص 264.
2 مجلة المنار، المجلد 27، ج 7، 23 يونيو سنة 1914، ص 534.
3 زين نور الدين زين: «نشوء القومية العربية» دار النهار للنشر، بيروت سنة 1968، ص 135.
4 راجع: عادل الصلح: «سطور من الرسالة» ط1، بيروت سنة 1966، ص 131 وص143.
5 علي شعيب: «مطالب جبل عامل 1900 ـ 1936» المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط1، بيروت سنة 1987، ص 112.
6 أحمد عارف الزين، العرفان، م 32 ج5، سنة 1946، ص 407.
7 «انعقاد المؤتمر الإسلامي»، النهار 26 تشرين الأول سنة 1926، ص 3.