الكاتب البيروفي ماريو فارغاس يوسا: أكتب كي لا أتحوّل إلى تمثال!
محمد محمد الخطّابي
في الثامن والعشرين من آذار الجاري، حلّت الذكرى الثمانون لميلاد الكاتب الروائيّ البيروفي المعروف ماريو فارغاس يوسا، وطفقت الأوساط الأدبية والثقافية في مختلف البلدان الناطقة باللغة الإسبانية إسبانيا وأميركا الجنوبية على وجه الخصوص الاحتفال بهذا الكاتب المبدع الذي أثرى المكتبة الإسبانية بغير قليلٍ من الأعمال الروائية، والإبداعات الأدبية والنقدية.
ولمناسبة احتفاله بعيد ميلاده الثمانين، قال ماريو بارغاس يوسا إنّ السنوات لم تقتل فيه حبّه للمعرفة، ولا روح المغامرة عنده، وإنه كان دائماً يشعر بالحزن على هؤلاء الأشخاص الذين يقتلون أنفسهم وهم على قيد الحياة، ويجلسون في انتظار الموت والحِمام. وقال في السياق نفسه: «لا أستطيع أن أستوعب أن أعيش الحياة من دون أن أكتب، وأن أواجه، وأقاوم حتى لا أتحوّل إلى مجسّمٍ أو تمثال».
يعتبر الكاتب البيروفي ماريو فارغاس يوسا من دون منازع من كبار الروائيين المعاصرين، فقبل حصوله على جائزة نوبل للآداب عام 2010، سبق له أن حصد أو حصل في إسبانيا وحدها على عدد من الجوائز الأدبية الكبرى، منها جائزة «أمير أستورياس» في الآداب عام 1986، وجائزة «بلانيطا» عام 1993، وجائزة «سيرفانتيس» في الآداب الإسبانية 1994، وجوائز النقد الأدبي بالتوالي 1963 و64 و66.
ولد يوسا في مدينة آريكيبا في البيرو عام 1936، من مؤلفاته: «حرب نهاية العالم»، «امتداح الخالة»، «من قتل بالومينو موليرو»، «الفردوس على الناصية الأخرى»، «البيت الأخضر»، «حديث في الكاتدرائية»، وسواها من الأعمال الوفيرة. وقد ترجمت بعض قصصه ورواياته إلى اللغة العربية.
الزوايا الخمس
ولمناسبة صدور روايته الأخيرة «الزوايا الخمس»، أشار الكاتب البيروفي العالمي، خلال حديث له أجرته معه مؤخراً جريدة «لاناسيون» الأمّة الصّادرة في الأرجنتين، قال: «إن هناك مظاهر وإرهاصات تنبئ بقرب تغيير وشيك طفقت تتجلى معالمه، بدأت تشهده بلدان عدّة في أميركا اللاتينية كفنزويلا وبوليفيا والإكوادور». كما أبرز في السياق نفسه، «أنّ بوادر الديمقراطية بدأت في الظهور من جديد في الأرجنتين على وجه التحديد»، وقال: «هذا أمر يكتسي أهمية بالغة، لأنه لا بدّ أن ينعكس بشكل أو بآخر على سائر بلدان المنطقة».
واعتبر أنّ الشعبوية أصبحت في تراجع ونكوص، على صعيد منطقة أميركا اللاتينية»، وقال إن أحداثاً وتغييرات من هذا القبيل تدعو إلى التفاؤل في ما يتعلق بمستقبل هذه المنطقة من العالم.
وأكد فارغاس يوسا خلال هذا الحديث أن وصول الرئيس ماوريسيو ماكري إلى سدّة الحكم في الأرجنتين من شأنه أن يمكّن البلاد من الانفتاح من جديد على العالم مع بداية تطبيق إصلاحات في عدد من المجالات، وتوفير الظروف المواتية، والمناسبة لورود الاستثمارات الخارجية وجلبها للبلاد، ومن شأن هذا الانفتاح أن يبشّر بآفاق واعدة في المستقبل. وانتقد يوسا الظروف السيئة التي تمرّ بها الصحافة في الوقت الحالي، على رغم أن المعلومات لم تعد تعترف بالحدود، ما أفضى إلى خلق نوع من الالتباس، ذلك أنه ليس هناك تقييم لمصداقية، وصحّة أو مصداقية المعلومات التي أصبحت متداولة ومتبادلة في العالم.
وخلال هذا الاستجواب، أشار الكاتب البيروفي إلى أنه لا يدري إن كانت الصحافة المكتوبة أو الورقية ستستمرّ في الصدور والظهور، وفي الوجود، إلا أنه يرى خلافاً لذلك أن الكتاب لا بدّ أن يستمرّ في الصمود لأنّ الناس ـ في نظره ـ يؤثرون أن يضمّوا أو يحتضنوا الكتاب بين أيديهم لقراءته، وليس من خلال أقراص مدمجة أو لوحات إلكترونية.
«المدينة والكلاب»
ولمناسبة مرور نصف قرن ونيّف على صدور «المدينة والكلاب»، الرواية الأولى للكاتب البيروفي ماريو فارغاس يوسا، كانت الأكاديمية الملكية الإسبانية، وجمعية أكاديميات اللغة الإسبانية قد أقامتا في هذه المناسبة في مدريد حفلاً تكريمياً لهذا الكاتب ذائع الصيت، وأصدرت هذه الجهات العلمية والأدبية واللغوية طبعة تذكارية خاصة من هذه الرواية التي شكّلت الانطلاقة الأولى لهذا الكاتب، وعهد القيام بذلك لدار النشر الإسبانية المرموقة «آلفاغوارا»، وقد تمّ توزيع هذه الطبعة الجديدة في الأسواق الإسبانية وفي بعض بلدان أميركا اللاتينية.
وفي التقديم الذي تصدّر هذه الطبعة نقرأ ما يلي: «أن ظهور هذه الرواية قد شكّل خطوة مهمة في تجاوز إشكالية الهنود أو السكان الأصليّين في أميركا اللاتينية، وكذا في البحث والتنقيب عن الجذور والقيم السابقة للوجود الإسباني في القارة الأميركية، ما جعلنا نتقدّم نحو توفير أرضية يومية صلبة معاصرة، وتثبيت الحقيقة القائمة اليوم للمواطن الأميركي المندمج والمتأقلم كلّياً في وسطه ومجتمعه. وقد عالج الكاتب ذلك في قالب روائي اتّخذ أشكالاً جديدة مبتكرة في كتابة الرواية في الأدب الإسباني اعتمدت على تقنيات روائية مجرّبة».
كما جاء في هذا التقديم: «هذا التجديد في الشكل والمضمون جعل من الكاتب ماريو فارغاس يوسا مرجعاً أو مؤشّراً أساسياً للرواية الإسبانو ـ أميركية المعاصرة». وتندرج الطبعة الخاصة ضمن أعمال أخرى سابقة لرواية يوسا أمثال: «دون كيخوته دي لا مانشا» لمغيل دي سيرفانتيس، و«مئة سنة من العزلة» لغابرييل غارسيا ماركيز، و«الجهة الأكثر شفافية» لكارلوس فوينتيس، فضلاً عن الأنطولوجيات الشعرية لكل من بابلو نيرودا، وغابرييلا ميسترال التشيليين. كما نجد في هذه الطبعة الأنيقة بعض الدراسات التي كتبها لهذه الغاية صفوة من الأكاديميين من مختلف الجنسيات مثل، خوسيه ميغيل أوفييدو، وخبيير سيركاس، وكارلوس غارايار، وإفراين كريستال من البيرو، وفيكتور غارسيا دي لا كونشا، وداريو فييانويبا من إسبانيا، وجون كينغ من الولايات المتحدة الأميركية. كما أنجز الببليوغرافيا الخاصة بها الكاتب ميغيل أنخيل رودريغيس، وقام الباحثان كارلوس دومينغيس، وأغوستين بانيسو بإعداد معجم خاص بهذه الطبعة لشرح مفردات الرواية، وإعداد فهرس لها، وباب خاص بالأعلام فيها.
رواية «المدينة والكلاب» ترجمت حتى الآن إلى ما يزيد على ثلاثين لغة، وتدور أحداثها في المعهد العسكري «ليونسيو برادو»، حيث يتلقى المراهقون والشباب في هذا المعهد بموجب التنظيم الداخلي تكويناً مدرسياً ثانوياً تحت تعليمات عسكرية صارمة. ويرى رئيس الاكاديمية البيروفية للغة الإسبانية ماركو مارتوس: «أنه من وجهة نظر لغوية فإنّ لغة يوسا قد أدركت شأواً أو بعداً عالمياً، إنه يقدّم من دون انقطاع للعالم الأسلوب أو الطريقة البيروفية في التعامل مع اللغة الإسبانية، هذه الطريقة قد تجلّت بشكل واضح في هذه الرواية الأولى ليوسا أكثر من أيّ رواية أخرى ندّت عن قلمه، وقد أهّلها هذا التفوّق في أن تعرف في مختلف البقاع والأصقاع التي تتحدّث فيها اللغة الإسبانية».
باكورة أعماله
باكورة أعمال يوسا «المدينة والكلاب» لم تنشر كاملةً في إسبانيا إلّا بعد رحيل الجنرال فرانكو، إذ كان قد حُذف عدد من صفحاتها، كما أضرمت النيران في عدد من نسخها في البيرو، وهي رواية تقوم على محورين اثنين القهر السياسي السلطوي والجسدي، إنها انفجار للأحاسيس الدفينة، والهواجس المكبوتة، والآلام المبرحة التي يعانيها الكائن البشري حيال نفسه، وذاته، وكيانه، ووجدانه، والقسر أو القهر الديكتاتوري الذي يثقل بكاهله، وكلكله عليه، وتوقه الدائم للانعتاق، وتطلّعه للتحرّر نحو عالم مبدع طليق. يقول يوسا عن هذه الرواية ضمن مقابلة أجرتها معه الكاتبة كوليت مرشيليان: «أعتقد أن فترة الطفولة والمراهقة وكل ما يجري خلالها من تجارب قاسية أو صعبة هي فترة حاسمة في حياة كلّ إنسان، خصوصاً في حياة الكاتب، لأنّ هذا الأخير هو في موقع قول أو كتابة أو استرجاع ما ترك أثره فيه، فتطلع عليه هذه التجارب من مرحلة المراهقة المؤثرة. لقد اكتشفت كل مشاكل البيرو السياسية والاجتماعية خلال إقامتي في تلك الأكاديمية العسكرية، وتأثرت بشدّة حين لمست كم أن البيرو في مواقف محتدمة إن في الوضع الاقتصادي أو من ناحية العنف أو من ناحية الفروق الاجتماعية، وكلّ المشكلات التي تنتج عنها من نزاعات وعذابات. لقد نقلت هذا العالم إلى روايتي الأولى، لكن الأمر تكرّر عندي بأساليب مختلفة في روايات لاحقة، وأيضاً كانت لي تجارب أخرى في الحياة توزّعت انطباعاتي عنها وأحاسيسي حيالها في كتب أخرى».
وعن سؤال حول هذه الرواية أن كيف يراها اليوم؟ وهل كان ليغيّر شيئاً فيها؟ قال فارغاس يوسا لكوليت: «بصراحة، أراها بعيدة جداً وكأنّها في حياة سابقة لي. ولكن لا، لا أحبّ أن أغيّر فيها. ربما إذا كتبتها اليوم ستكون مختلفة تماماً لأنني أنا تغيرت واكتسبت خبرات كتابية وحياتية مختلفة، لكن الكتاب هو ابن لحظته، وتاريخه، وموقعه، وأنا أحبّه كما هو، هناك في تلك الحقبة، وأكثر ما أحبّ فيه كلّ المفاجآت التي حملها معه لي، فهو الكتاب الذي جعلني أنتشر أكثر، خصوصاً بعد أن تُرجِم إلى لغات عدّة».
في مواجهة الريح والتيار
هذا الكاتب يكاد أن يصبح ظاهرة فريدة في آداب أميركا اللاتينية، وإن لم يكن كذلك فإنه على الأقل ما زال يثير فضول النقاد والقرّاء والأوساط الادبية في كل مكان، فقد حقق لنفسه شهرة عالمية واسعة أوصلته إلى الحصول على جائزة نوبل في الآداب، كما حظي بتكريم عدد من المحافل الأدبية الأخرى، إنه رجل يعيش عصره مهووس ومسكون بالآداب. لقد زاول يوسا مختلف فنون القول، اشتغل بالصحافة والأدب والنقد والدراسة، إنه كاتب يحتل مكاناً مرموقاً في آداب أميركا اللاتينية، فهو إلى جانب كارلوس فوينتيس وغابرييل غارسيا ماركيز، وقبلهما خورخي لويس بورخيس، جميعهم كوّنوا جانباً من ذلك «الجيل الكبير من الكتّاب المعاصرين» في أميركا اللاتينية وهو الجيل الذي حمل الآداب في هذه المنطقة من العالم إلى أعلى المراتب، وأرقى المستويات شهرةً وتكريماً وبعد صيت. لفارغاس يوسا كتاب بعنوان «في مواجهة الريح والتيار» يلقي الضوء على جوانب مهمّة من حياته وإبداعاته، إنه في هذا الكتاب يسمّي الأشياء بمسمّياتها، إنه يقول: «يتعلق الأمر بنصوص تؤرّخ لظروف، وملابسات ليست ذات أهمية أدبية، التي لم يعاملها الزمن بإشفاق، إنها جملة من التناقضات والأخطاء والتكهّنات، بعيدة عن أيّ تكبّر أو خيلاء، أو ندم ممزوج ببعض الحزن والأسى، إنها انطباعات وتسجيلات لبعض الآمال والتطلعات التي ذهبت أدراج الرياح وجرفها التيار». ضد هذه الرياح، وفي مواجهة هذه التيارات جذف فارغاس يوسا قاربه لمدّة نصف قرن من الزمان ونيّف، أي منذ صدور روايته الأولى «المدينة والكلاب». ففي «مواجهة الريح والتيار» يطرح يوسا وجهات نظره في شأن عدد من القضايا السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية في العالم، وخصوصاً في أميركا اللاتينية. هذا كاتب يبثّ الحياة في الأشباح، إننا واجدون في هذا الكتاب إشارات وملاحظات وتراجم ومقالات ويوميات وخطباً واستجوابات وتحقيقات واستطلاعات تحدّد أفكاره وقناعاته المبكرة.
سباقه المحموم نحو نوبل
إلاّ أنه مع مرور الزمن وانسياب السنين، صار يوسا يغيّر من آرائه الأولى التي كانت تضعه في مصاف المفكرين والأدباء اليساريين الذين يدافعون عن العسفاء والكادحين، ويأخذ بيد المحرومين والمظلومين، إذ بعدما فشل في 10 حزيران 1990 أمام آلبرتو فوغيموري من أصل ياباني في الانتخابات الرئاسية في بلاده البيرو، شدّ الرّحال إلى أوروبا، وطفق يدغدغ المجتمعات المخملية والأوساط الماسية، كما بدأ يشقّ طريقه المحفوفة بغير قليل من الصعاب والمخاطر، والمنافسات الشرسة نحو المؤسسة السويدية ليعانق أكبر تكريم أدبي في العالم بحصوله عام 2010 على جائزة نوبل في الآداب، بعد مرور 28 سنة على حصول الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز على هذا التكريم، وكانت بين الكاتبين خصومة مفتوحة مستحكمة، ولا غرو فالمعاصرة حجاب!
ينطلق يوسا في «مواجهة الريح والتيار» بمراجعة عميقة لصاحب رواية «الغريب» الأديب الفرنسي آلبير كامو، وينتهي بعرضٍ ضافٍ حول المجتمع المفتوح وخصومه. وقد أثبتت بعض هذه المواضيع في الكتاب حسب مضامينها، ثمّ يمكننا أن نتتبّع أدب فارغاس يوسا ونقتفيه ونرصد تطوّره، خصوصاً في ما يتعلق بمواضيع لها صلة بميادين الإشتراكية والثورة الكوبية، ونيكاراغوا الساندينية، ويتجلّى لنا في هذه الكتابات التزام الكاتب إزاء قضايا أميركا اللاتينية، والحرية، والديمقراطية، والنموّ الاقتصادي، وأوروبا والولايات المتحدة الأميركية وبلده البيرو. ولا شكّ في أن عدداً من المفاهيم والقناعات خلال نصف قرن قد تغيّرت بالنسبة إلى هذه المواضيع، ويتّضح لنا من خلال هذه الكتابات على سبيل المثال تأييده وإعجابه بالثورة الكوبية في عنفوانها كطرح وعلاج لمختلف المشاكل التي تتخبّط فيها معظم بلدان أميركا اللاتينية، إلا أنه معروف عنه الآن أنّه لم يعد يؤمن بهذا الرأي، ويعلن صراحة معارضته واختلافه مع كوبا الكاسترية والراؤولية كذلك. كما يعكس هذه الكتاب اتجاه الكاتب النقدي المعروف عنه، وكيف صارت مواقفه تتغيّر وتتبدّل على امتداد الزمن بحسب ما تمليه عليه ظروف الحياة ومستجدّاتها وما أكثرها عنده.
ذكريات ومعايشات
ونجد في هذا الكتاب استجوابات مع عدد من القطاعات الاجتماعية في مختلف هذه البلدان، كما أنه يعكس فترة خصبة من حياة الكاتب، وهي الفترة التي عاشها في أوروبا في مرحلة شبابه واختلاطه بالحياة الثقافية والفكرية فيها. ونجد بالتالي صدىً وانعكاساً لتلك المعايشات مجسّمة في نقاشات حول مختلف المواضيع الأدبية والفلسفية في ذلك الوقت، فنجد على سبيل المثال عروضاً حول سارتر وكامو وسيمون دي بوفوار. كما نجد عدداً من الطرائف، والحكايات، والأحداث التي وقعت للكاتب في باريس، فضلاً عن تعاليق أخرى مماثلة حول لندن ومدريد وواشنطن، كما أنّنا نجد في هذا المؤلّف معلومات كان قد طواها النسيان أو ربما هي مجهولة حول انطباعات يوسا في خصوص بعض الأدباء الفرنسيين وأعمالهم مثل «البؤساء» لفكتور هوغو، أو ذكرياته حول الشارع والمنزل الذي عاش فيه كارل ماركس في لندن، إضافة إلى أحاديث عن أصدقائه في طور المراهقة والشباب. «في مواجهة الريح والتيار» يحفل بالذكريات والمعايشات حول مختلف المواضيع مكتوبة بأسلوب سهل وسلس، يميل إلى الدعابة وروح النكتة والسخرية والانتقاد، إنه مرآة تعكس حقائق واقعية عن حياة هذا الكاتب الأميركي اللاتيني بعيداً عن خياله المجنّح في قصصه ورواياته. ولا بدّ أن هذه الذكريات، والمعايشات تلوح لفارغاس يوسا اليوم، تماماً كما لاحت للشاعر طرفة بن العبد أطلال خولة ببرقة ثمهد كباقي الوشم في ظاهر اليد!
ماريو فارغاس يوسا مستقرّ في الوقت الراهن في إسبانيا حيث منحت له الجنسية الإسبانية منذ ما ينيف على عشرين سنة. كما تمّ انتخابه عضواً في أكاديمية اللغة الإسبانية، وفي إسبانيا ما فتئ يبدع في عالم الأدب، حيث يكتب الرواية بوجه خاص، ومن أشهر رواياته التي أحيطت بهالة واسعة من الذيوع والانتشار، والتغطيات الإعلامية في العالم الناطق باللغة الإسبانية، رواية «حفلة التيس» وهي رواية تنتقد الأنظمة الدكتاتورية في أميركا اللاتينية. كما أنه يدلي بدلوه بين الفينة والأخرى في عدد من القضايا السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية التي تعرفها إسبانيا وأوروبا وأميركا في الوقت الراهن.
قال ماريو بارغاس يوسا ذات يوم: «أنا تلميذ سارتر الذي يعتبر الكلمات أفعالاً، ويؤمن أنّ الأدب يغيّر الحياة، غريب عصرنا حيث اليمين ليس على اليمين، واليسار ليس في اليسار، والوسط لم يعد في الوسط…». وما فتئ يوسا ينتقل بين هذه الجهات الثلاث منذ نصف قرن ونيّف كطائر السنونو مترنّحاً متأرجحاً بين هذا وذلك وذاك.
كان ماريو فارغاس يوسا قد فاز مؤخراً بأوّل جائزة دولية في الآداب استحدثت أخيراً، وتنظّم بِاسم الكاتب المكسيكي العالمي الراحل كارلوس فوينتيس في بلده المكسيك. وقد فاز بهذا التكريم بحسب لجنة التحكيم: «نظراً إلى مساهمته الوافرة بواسطة اللغة الإسبانية في إثراء التراث الأدبي الإنساني». تبلغ قيمة هذه الجائزة المادية 250.000 دولار أميركي، وتصبح بذلك الأعلى من حيث قيمتها المالية التى تمنح في أميركا اللاتينية وهي تفوق بكثير حتّى قيمة جائزة «سيرفانتيس» في الآداب الإسبانية التي كانت أعلى جائزة تمنح حتى اليوم في الآداب المكتوبة في اللغة الإسبانية، والتي تبلغ قيمتها 160.000 دولار.
وقال يوسا في هذه المناسبة إنه لم يكن ينتظر مزيداً من الجوائز الأدبية بعد جائزة نوبل، إلا أن هذه الجائزة لها وقع خاص في نفسه لصلتها بأحد أكبر الشخصيات الثقافية في الحياة المكسيكية وهو كارلوس فوينتيس الذي تعرّف عليه في شبابه المبكر، وأنه أعجب به إعجاباً كبيراً، خصوصاً عندما قرأ روايته «الجهة الأكثر شفافية». وقال لقد كان هذا العمل الأدبي نقطة انطلاق لهذا الكاتب الذي سرعان ما سوف يحقّق الشهرة العالمية الواسعة والذيوع والانتشار سواء ببعده الأدبي العميق، أو بدراساته الرصينة، وأبحاثه القيّمة في مختلف حقول الأدب والنقد والخلق والإبداع.
كما أكّد يوسا أنّ كارلوس فوينتيس قد ساهم بقسط كبير كذلك في التعريف بأدب مختلف بلدان أميركا اللاتينية في العالم، وهذه القارة مدينة له كثيراً في هذا الجانب. وإنه قد تصادف معه في حقبة انطلاق ألبوم الأدبي الأميركي اللاتيني الشهير، حيث اضطلع فوينتيس بدور أساسي وبارز سواء بأعماله الروائية ذائعة الصيت، أو بالتعريف بأعمال زملائه الكتّاب الأميركيين اللاتينيين الآخرين.
وقال إنّ اللغة الإسبانية تعتبر اليوم من أوسع اللغات انتشاراً في العالم بعد الإنكليزية.
حبٌّ في الثمانين!
وقد دافع يوسا بقوّة عن مشروع بناء الصرح الأوروبي الذي حقق للقارة الأوروبية الأمن والتقدم والديمقراطية و60 سنة متوالية من السلم والاستقرار» للمرة الأولى في تاريخها الحديث. ولهذا، فإنه يعتقد جازماً أنه من الأولويات السياسية الضرورية التي ينبغي أن يتبنّاها المسؤولون الأوروبيون، إنقاذ أوروبا والحفاظ على االسكينة والهدوء والتفاؤل. وأضاف: «ينبغي إنقاذ أوروبا من هؤلاء المتشائمين الذين يعجّلون بالحكم على فشلها، والحقيقة أنهم مخطئون في ذلك، فنحن نعيش أو نواجه أزمة إقتصادية حادّة، نتيجة الهدر والإسراف المبالغ فيهما، وعدم توفّر الحذر الكافي لتفادي هذه الأزمة من قبل، كما أنه لم تتخذ الاحتياطات اللازمة في الوقت المناسب، والمجتمع هو الذي يدفع الثمن اليوم».
وقال يوسا إن التضحيات التي يطلب من الشعب الإسباني تقبّلها وتحمّلها للخروج من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الحادّة التي تعرفها البلاد، هي تضحيات لا بدّ منها. وقال أن الذين يوجّهون انتقاداتهم لألمانيا في هذا الخصوص مخطئون إذ لا ينبغي أن نعتب على ألمانيا، بل يجب علينا أن نصفّق لها، انها قد تغلبت على أزمة وحشية بغير قليل من الانضباط والتضحية والصبر والأناة. إنها تغلبت على هذه الأزمة بتضحيات الشعب الألماني في المقام الأول، ثم بجدّية حكامها ومسؤوليتهم، لقد أمكن لألمانيا إحياء أو إنبعاث جثة سياسية واقتصادية هامدة وهي ألمانيا الشرقية، وقال أن بعض الايديولوجيات السياسية المتطرفة قد تقودنا إلى الشطط والمبالغات وقد تصيب عدوى هذه الترّهات حتى كبار الكتاب والمفكرين في حجم جان بول سارتر الذي كان ينساق وراء حماقات فكرية وفلسفية كبرى من هذا القبيل لا حصر لها. وقال انه باعتباره كاتباً روائياً وحكواتياً فإنه لا يخشى من خوض مغامرة الخيال في أعماله الروائية لأنه عنصر دفع بالانسانية إلى المزيد من التأمل وإعمال الفكر، كما انه يشجّع على البحث والاجتهاد والتقدم العلمي، إذ يساهم ذلك كله في أن يجعل الحياة أحسن ممّا كانت عليه من قبل، بل إنه يساهم أيضاً في التطور المذهل التي تعرفه الحياة في مختلف المجالات.
يعيش فارغاس يوسا في الوقت الراهن، وهو على عتبة الثمانين من عمره، قصّة حبّ عارمة مع إيزابيل بريسلر، وهي امرأة من أصل فليبيني تنتمي اليوم للمجتمع المخمليّ الإسبانيّ، سبق لها أن تزوّجت ثلاثة من المشاهير في إسبانيا، وهم بالتوالي: المغنّي العالمي خوليو إغليسياس، والماركيز دي كرينيون، ووزير الاقتصاد الأسبق ميغيل بويير، وقد عاب عليه أولاده، وأقاربه، وذووه، وبعض أصدقائه، وقرّائه مقاطعته وهجره لزوجته وأمّ أولاده بعد خمسين سنة من العشرة!