خوان ميرو الكاتالونيّ عاشق الطبيعة وفضاء الطفولة السرمديّ
لخوان ميرو 1893-1983 موقع مهمّ في تاريخ الفن المعاصر، إذ كان في أعماله ميل إلى اللاوعي والروح الطفلية والتعلق بكاتالونيا مسقط رأسه. تأثر في بداياته بالحركات السائدة في زمنه مثل التوحشية والتكعيبية والانطباعية، قبل أن يطوّر تجربته نحو رسم مسطح يحمل بصمته الخاصة.
لم يرغب ميرو في الدراسات التجارية التي غصبه عليها أبواه، لذا سرعان ما انقطع عنها والتحق بمدرسة الفنون الجميلة في برشلونة. اكتشف جمال الطبيعة في قرية عائلية في منترواغ ديل كامب كان زارها للمرة الأولى عام 1911 طلباً للنقاهة، بعد إصابته بمرض السلّ، وشعر عندئذٍ بأنه سيكون رساماً خلافاً لرغبة أبويه.
تلك الحرية في تحديد مصيره بنفسه طبعت مسيرة التقى خلالها كبار فناني عصره، إذ ظل محافظاً على استقلاليته حتى عندما انخرط في المغامرة السوريالية.
تناول ميرو ثيمات كثيرة منذ مشهدياته الأولى في العقد الثاني من القرن الماضي، إلى أعماله المتأخرة التي يتجلّى فيها الحلم وتسكنها العلامات والرموز، لكنه كان أكثر ميلاً إلى الطبيعة والمرأة وسرمدية الفضاء. وحتى مطلع العشرينات، كانت لوحاته تصويرية شديدة التأثر بفناني عصره مثل بول غوغان وفنسنت فان غوغ وهنري ماتيس وبول سيزان. غير أن انطلاقته الفعلية كانت عقب لقائه بفرنسيس بيكابيا الذي أطلعه على بحوث مجموعة دادا، وتلك الحركة تقوم فلسفتها على إزاحة كل عقد أو إرغام ذي صبغة أيديولوجية أو سياسية أو جمالية، وزوده نصائح لأجـــل «تجــاوز الفعل التشكيلي لبلوغ الشعر».
لدى انتقاله إلى باريس عام 919، تعرف ميرو إلى أندريه ماسون وماكس جاكوب وأنطونان أرتو وميشال ليريسثم وإيف تانغي وجاك بريفير، وكلهم من الشخصيات الفنية والأدبية القوية ذات الخيال الخصب التي ستفتح أمامه أبواب الحلم على مصراعيه.
وشيئا فشيئاً مضى يخط طريقه ويعمّق مجراه بأسلوب خاص بدأه بلوحة «القرية» عام 1921 التي باعها لكاتب أميركي شاب لم يعرف بعدُ المجد والشهرة هو إرنست همنغواي، وتميّزت بالاعتناء بالتفاصيل سواء في رسم الأشجار أو الحيوانات أو الأشياء، ما اعتبره النقاد قاعدة لأعماله اللاحقة. التي تعكس تعلقه بالأرض الكاتالونية التي شهدت طفولته وانبهاره بالطبيعة حتى موته.
في تلك الفترة مر ميرو في أزمة هوية في التعبير. كان يريد إعادة صوغ الواقع والتخلص من التصويرية ليدخل مرحلة تبسيط الخط والأشكال في خضم الأعمال التي تستدعي التفكيك والتأويل. وكانت عفويته المطلقة ذروة ما بلغته السوريالية وبصمته الخاصة في الوقت نفسه. وتجلى ذلك في «كرنفال أرلوكان» التي قدمت عام 1925 في معرض جماعي شارك فيه بيكاسو وبول كلي وماكس إرنست ودي شيريكو ومان راي ومثلت بداية الاعتراف بفنه. وفي الأعوام اللاحقة تطورت الكيفية التي تمثل بها العالم الحميم والسمو به، ويتجلى ذلك في تبسيطه ذاك العالم وتركيبه الأشكال إلى الحدّ الأقصى الذي يمكن أن تبلغه، لخلق توليفات محمّلة برموز تقارب التجريد من دون أن تنخرط فيه. ولا شك في أن لقاءه بفناني الحركة السوريالية وتوقيعه بيانها كان لهما دور في هذا التطور.
في تلك المرحلة، أطلق ميرو العنان للأحلام والرؤى والتخيّلات والهلوسات، يرسمها على الورق أو القماشة وفق تصوّره الفني الجديد، إذ صار الوجه مجرّد خطوط، والأجسام أضحت أطيافاً تتموّج في الفضاء. وأنجز أعمالاً بدا فيها كأنه يلهو بالفضاء واللون، مصرّاً على تدمير شروط الفن التقليدية. لوحات زال فيها الرسم المنظوري، وتراقصت الأشكال وتكسرت وتمطّت، مثلما ذابت أوهام الواقع في ابتكارات خطوطية متناسقة حيناً ومتنافرة حيناً آخر. أي أنه أضاف إلى حرية الفكر حرية جمالية.
لا يعني ذلك أن ميرو كان بعيداً عمّا يجري في عصره، منعزلاً في محترفه ولا يشغل فكره غير المسائل الفنية. على العكس كان يتابع حوادث العالم بعين فطنة ويعبر عن موقفه بشجاعة، كما لدى اندلاع الحرب الأهلية في بلده إسبانيا حيث أنجز عام 1937 لافتة لمساندة الجمهوريين ضدّ قوات فرانكو عنوانها «ساعدوا إسبانيا» استعملت كطابع بريدي. وعرض لوحة «الحاصد» في جناح بلاده في المعرض العالمي الذي أقيم في العام نفسه في باريس، إلى جانب «غرنيكا» لبيكاسو، أو أثناء الحرب العالمية.
في نهاية الثلاثينات، احتلّ الفضاء بعمقه وغموضه وألغازه حيزاً جديداً في أعمال ميرو، إثر لقائه جورج براك وألكسندر كالدر في فرنشفيل سور مير التي لجأ إليها بعض الفنانين هرباً من الحرب. هناك كان ميرو يمضي أوقاته متأملاً القبة الكحلية ونجومها. ولم يمض وقت طويل حتى أنجز سلسلة سماها «كوكبة نجوم» استهلها عام 1939 وضمت ثلاثاً وعشرين لوحة كانت بمثابة «رؤى كونية»، وهي رسوم خرائطية لسماء خيالية ترصع صفحتها النجوم والمجرات والأقمار.