قمة الأمن النووي: استعراض إعلامي يستثني محاسبة «إسرائيل»
تميّز انعقاد مؤتمر قمة الأمن النووي نهاية الأسبوع الماضي بشخصيتين، الرئيس الروسي الغائب، والرئيس التركي الحاضر. الأول غاب لدواع سياسية تتعلق بهيبة روسيا بعد استردادها موقعها القيادي عالمياً، كما يعتقد والثاني حضر ضمن جوّ ازدراء وربما انتقام ديبلوماسي عالي المستوى: لم يفلح أردوغان بلقاء ثنائي مع الرئيس باراك أوباما وكأنه يكرّر غلطته مع استجدائه السابق للقاء الرئيس بوتين ، وقصدت الإدارة ان تحصر لقاءه بنائب الرئيس، جو بايدن، لكن في مقرّ إقامة أردوغان. واستبق عدد من الشخصيات السياسية والعسكرية والأكاديمية الوازنة حضوره بإصدار عريضة على شكل «كتاب مفتوح» يعربون فيه عن عظيم قلقهم من تدهور مسألة الحريات في تركيا، واعتقال الصحافيين والمعارضين على السواء.
سيتناول المركز في قسم التحليل انعقاد المؤتمر، الذي حضره أكثر من 50 مندوب ورئيس دولة الى جانب عدد من كبار الشخصيات الرسمية الأخرى، وغاب عنه ممثلو إيران وكوريا الشمالية. اما التمثيل الروسي فكان على مستوى رسمي متدنّ. البيت الأبيض روّج له بأنه حقق عدداً من الإنجازات وفق المهام المرسومة. الخطر الحقيقي، في رأينا، يكمن في تنامي تهديد القوى المتشدّدة والتكفيرية شنّ هجوم بستخدام سلاح نووي او إشعاعي.
مؤتمر «الأمن النووي»
غابت السعودية عن حضور القمة بوفد رفيع المستوى، وتساءل معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى إنْ كان ذلك رسالة «ازدراء واستخفاف» منها بالقمة النووية، التي دشنها الرئيس أوباما عام 2009 عقب توليه مهام رئاسته الأولى. واضاف المعهد انّ السفير الأميركي في الرياض، جوزيف ويستفال، التقى مع ولي العهد محمد بن نايف الذي «كان من المتوقع ان يترأس وفد بلاده»، فضلاً عن مسؤولين آخرين زاروا الرياض والتقوا محمد بن سلمان. واعتبر المعهد غياب السعودية بأنه يشكل «تناقضاً حاداً مع مشاركة دول شرق أوسطية اخرى.. واستمرار انزعاج السعودية من واشنطن حول الاتفاق النووي مع إيران، وربما ايضاً بالسخط من تقرير مجلة اتلانتيك الانتقادات العديدة الموجهة للسعودية». واستطرد بالقول انّ الرئيس أوباما يعدّ لزيارة الرياض نهاية الشهر الحالي «ومن المقرّر ان يجتمع وزير الدفاع آشتون كارتر مع ولي ولي العهد وزير الدفاع السعودي محمد بن سلمان قبل بدء زيارة أوباما بيوم واحد. وخلص بالقول انّ «ثمة كثير من الأمور المحيِّرة» تسود العلاقات الأميركية ـ السعودية «وليس هناك متسع من الزمن لسوء الفهم ومؤشرات حملة علاقات عامة يمكن ان تفسّر على أنها ازدراء واستخفاف».
وجهة نظر الهند في الملف النووي بأكمله كانت محور اهتمام معهد كارنيغي لناحية موقفها «ضدّ الإرهاب الذي لا لبس فيه»، وهي التي تبنّت منذ زمن عقد مفاوضات دولية للتوصل الى «اتفاقية شاملة»، تأخذ بعين الاعتبار المتغيّرات الدولية، سياسياً وتقنياً. واضاف المعهد انّ الهند تخشى «تهديدات الإرهابيين الساعين للحصول على أسلحة دمار شامل». واعتبر المعهد حضور رئيس الوزراء ناريندرا مودي نبأً سعيداً للرئيس أوباما خاصة انّ الهند «أحجمت وللحظة عن الارتباط ببيانات مشتركة تصدر عن مجموعات دول متشابهة في الآراء، بدافع تباينات إجرائية وليس بالمضمون». وأوضح انّ صدور «إعلانات جديدة من رئيس الوزراء مودي قد يوصل إلى الهدف ببراعة والحفاظ على الزخم السياسي الناجم عن مسار قمة الأمن النووي».
معركة الموصل
حث معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى دول التحالف المشاركة بفعالية لتحرير الموصل «وعقد تفاهمات بينها وبين حكومة الإقليم الكردي وإيصال رسائل واضحة المضمون، بأنّ معركة تحرير الموصل قد تكون مختلفة تماماً عن الجهد العسكري الشاق الذي رافق استعادة تكريت والرمادي». واعرب عن اعتقاده بتراجع الاهتمام الجمعي بتحرير الموصل، لا سيما انّ «مستقبلها معلق… تحت رحمة داعش، او انضمام أهاليها لجهد المحرّرين فاتحين لهم أبواب مدينتهم».
«داعش»
تابعت مؤسسة هاريتاج ظاهرة «نمو تنظيم داعش في عموم المنطقة»، كمدخل لانتقاد سياسة الرئيس أوباما الخارجية والذي «لم يرتفع إلى مستوى التحدّي المفروض في ليبيا». وحذرت المؤسسة من نجاح التنظيم في إنشاء موطئ قدم في مدينة سرت الاستراتيجية «والتي قد تحتضن احدى اكبر مجموعات داعش، وفق بعض التقديرات، ان لم تكن اكبرها على الإطلاق خارج سورية والعراق». وشدّد على انّ التنظيم الليبي «يبدو انه على علاقة وثيقة بداعش الام وقد يمضي للسيطرة على اصول النفط الليبية».
أردوغان في واشنطن
استبقت حملة انتقادات واسعة زيارة الرئيس التركي لواشنطن، انضمّ اليها «مؤيدو تركيا» في المؤسسة الحاكمة، وآخرون. وذهب معهد المشروع الأميركي الى مدى بعيد أشدّ وضوحاً من أقرانه بالقول انه «يستحيل إلحاق الهزيمة بداعش في ظلّ بقاء أردوغان في السلطة». واعتبر المعهد انّ أردوغان يرفض الإقرار «بالخطاب الصادر عن السنة لتبرير أعمال العنف في عموم المنطقة، والذي يضاعف معدلات تعرّض تركيا ذاتها للإرهاب وينال من جهدها في محاربة شمولية الإرهاب». واعتبر المعهد انّ أردوغان يعاقب الجهة الخطأ، لا سيما «فرضه حظراً على الصحافة، عقب تفجيرات أنقره» العام الماضي. واضاف انّ أردوغان «يستخدم منبر بلطجيته لوسم الكرد وناشطي حماية البيئة والاكاديميين والصحافيين وأعضاء تيار منافسه فتح الله غولن بالإرهاب دون تقديم الأدلة او التزام اجراءات قانونية… وأوعز لقواته الأمنية احتجاز واعتقال اولئك المعارضين لأجندته السياسية او انتقدوا تنامي الفساد بين أفراد حاشيته المقرّبين».
النظام العربي
اعتبر معهد كارنيغي انّ الدول العربية مجتمعة «مرّت في مراحل انتقالية… منذ اوئل تسعينيات القرن الماضي، محورها قطاع الأمن» الذي اضحى معضلة في سياق «معضلات الإصلاح». واوضح انّ «الحالة السياسية والمؤسسية الهشّة للدول العربية تشكل عقبة كأداء… ودفعت التطورات بقطاعات الأمن الى التورّط في الفساد والتواطؤ مع الشبكات الاجرامية والجماعات المسلحة، مما عزز مقاومة هذا القطاع للاصلاح». واردف انّ «قطاعات الأمن اصطفت وفق خطوط طائفية واثنية وحزبية واكدت على استقلالها الذاتي التامّ.. وحافظت على الانظمة الاستبدادية وحكومات الحزب الواحد، او الحكومات غير التمثيلية». ومضى انّ «مرحلة ما بعد الصراع المسلح… وتورّط قطاع الأمن بحدة في صراعات اوسع نطاقاً، يربك عملية الإصلاح ان لم يعرقلها تماماً، واصلاحه صعب للغاية». وختم بالقول انّ الدول العربية «تواجه مهاماً تبدو عصية على الحلّ: اعادة بناء مؤسسات الدولة والعقود الاجتماعية في عصر التغيّر العالمية.. من المؤكد انّ الفشل سيكون مآل المقاربات التقليدية لإصلاح قطاع الأمن، او التي تختزله في علاقة مبسطة بين إصلاحه وإرساء الديمقراطية».
الإنفاق العسكري دون رادع
مشى الرئيس أوباما مزهواً وفي أحلى ابهة بين ضيوفه محاضراً فيهم لرصّ الصفوف «والإمكانيات» للإنفاق على خطر يتعرّض «أمن الأسلحة والترسانة النووية»، وينبغي استنباط آليات عمل تحت بند «مراكز التمييز… للاعداد لتنحية او القضاء على المواد النووية، والمصادقة العاجلة على الاتفاقيات المعقودة والشروع بتنفيذها، إعادة تحويل المفاعلات النووية، وتعزيز الاجراءات الرقابية».
واضاف البيت الابيض في بيان رسمي تمهيداً لالتئام اعمال المؤتمر بأنّ «المجتمع الدولي استطاع تعقيد مهمة الإرهابيين للحصول على اسلحة نووية أكثر من ايّ وقت مضى، وله الفضل في شعورنا الجمعي بالأمن المتزايد».
براءة الادّعاء بالحرص على «سلامة وأمن وعدم انتشار» الاسلحة النووية تدحضها وقائع وتوجهات ادارة الرئيس أوباما عينها، وهو الذي كان سباقاً في نكث وعوده الانتخابية والانقلاب عليها مبكراً.
في مطلع عام 2010، تعهّد الرئيس أوباما في ولايته الرئاسية الاولى بأنّ بلاده «لن تقدم على تطوير رؤوس نووية او المضيّ في تنفيذ مهام عسكرية جديدة او الحصول على قدرات تقنية جديدة». وتوسّم العالم خيراً، وما لبث ان انقضّ أوباما على وعده بتبنّي برنامج لتطوير وتحديث الترسانة النووية الأميركية، قيمته مليار دولار.
الاخصائيون الأميركيون، لا سيما في وزارة الدفاع، بالشؤون النووية حذروا حينئذ من البرنامج الطموح بأنه «سيعدّ من قبل الكثيرين انتهاكاً لتعهّدات الادارة بعدم تطوير او نشر اسلحة نووية جديدة».
معهد «ستراتفور» البحثي الاستخباري دشن العام الجديد بتحذير العالم بأننا نقف على عتبة «سباق تسلح جديد… تتزعّمه الولايات المتحدة بوتيرة عالية لتحديث وتطوير وتوسيع الأسلحة التقليدية والنووية على السواء».
ايضاً، وفي مطلع العام الجديد، أصدر مركز التقويم الاستراتيجي والمالي «المستقل»، مقرّه في واشنطن، دراسة مطولة بعنوان «إعادة النظر بآرمجيدون المنازلة الفاصلة : تخطيط لسيناريو في العصر النووي الثاني». «العصر النووي الثاني تعبير اطلقه المؤلف بول براكين .
رمت تلك «الدراسات» وتصريحات عسكريين كبار الى تهيئة أرضية التبرير العام لزيادة الإنفاق العسكري. اذ اعلنت وزارة الدفاع في شهر كانون الثاني/ يناير من العام الحالي عزمها المضيّ في تطبيق خططها «لاستبدال غواصات من طراز أوهايو تحمل صواريخ باليستية بأخرى جديدة بدءاً من عام 2021. يُشار الى انّ كلّ من الغواصات الحالية الأربعة عشر، من تلك الفصيلة، مسلحة بـ24 صاروخ من طراز ترايدنت-2، وكلّ رأس مزوّد بثمانية رؤوس متفجرة، ايّ انّ «كلّ صاروخ تعادل قدرته التدميرية 36 قنبلة نووية من التي القيت على هيروشيما عام 1945.
اسطول الغواصات الجديد سيضمّ 12 غواصة، كلفة الواحدة منها تتراوح ما بين 6-8 مليار دولار، والتي لا تتضمّن كلفة الأبحاث والتطوير والتجارب، وتستثني ايضاً كلفة الرؤوس النووية التي تقدّر بنحو 200 رأس، فضلاً عن كلفة التشغيل. المصدر: بيانات وزارة الدفاع وسجلات لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ .
عند الأخذ بعين الاعتبار مطالب سلاح الجو الأميركي بإنتاج الجيل المتطوّر من الطائرات المقاتلة، اف-35، والتي ترتفع كلفتها بصورة جنونية بلغت أحدث التقديرات نحو 1200 مليار دولار 1.2 تريليون إضافة إلى مائة من أحدث القاذفات الاستراتيجية من طراز بي-21، كلفة الواحدة منها 500 مليون دولار، تتضح معالم «سباق التسلح» بنسخته «الاوبامية».
في مطلع شهر آذار من العام الحالي، مثل كلّ من رئيس سلاح البحرية والجو، راي مابوس وديبورا لي جيمس، امام لجنة القوات المسلحة في مجلس النواب مطالبين بتخصيص مزيد من الأموال «لاقتناء أسلحة جديدة». عضو اللجنة ترينت فرانكس عاب على القادة العسكريين إمامه عدم انجاز الإدارة «خطة تقييم مفصلة للقضاء على نوع أو أكثر من انظمة الأسلحة النووية الثلاثية، او إحداث تغيير كبير في قدرة الولايات المتحدة النووية». الإجابة الثنائية كانت مبهمة. أنظمة الاسلحة النووية الثلاثية تتضمّن: القاذفات الاستراتيجية الصواريخ الباليستية العابرة للقارات والصواريخ الباليستية على متن الغواصات .
نتائج «متواضعة» للمؤتمر
وفق دراسة معمّقة اصدرها معهد مبادرة التهديد النووي البحثي المستقلّ رأى انّ المؤتمر سيتمخض عنه «إصدار جملة من الوثائق تتضمّن تعهّدات القادة السياسيين صدور تقارير تقويم منفصلة تخصّ الدول المعنية ومن المتوقع ان تعيد الدول المجتمعة التزامها بضمان الأمن النووي في بيان ختامي يصدر عن اعمال المؤتمر.. كما ستسعى للتوصل إلى إبرام التزامات متعدّدة الاقطاب عبر ما أطلق عليه سلات الهدايا». المصطلح من بنات أفكار البيت الأبيض . المعهد المذكور انشئ من قبل السيناتور السابق سام نان والشخصية الاعلامية تيد تيرنر يصدر نشرات دورية تخصّ «التهديدات النووية والبيولوجية والأسلحة الكيميائية» حول العالم.
بعبارة أخرى، توقعات المعهد واخصائيّيه كانت بالغة التواضع وجاءت مطابقة لوقائع ونتائج المؤتمر. ويبقى السؤال اذا ما كان غياب روسيا هو العامل الأهمّ في تواضع قرارات المؤتمر، كما يتداول في واشنطن.
بعد انفضاض المؤتمر عادت روسيا بقوة الى المشهد «النووي» على الرغم من غياب تمثيل عالي المستوى، وصفته وسائل الإعلام بأنه ثمة «مقاطعة روسية.. تعكس اتساع رقعة الصدع بين موسكو وواشنطن مما قوّض جهود الولايات المتحدة لتقييد انتشار المواد الإشعاعية، بل ادّت عملياً إلى تدمير آفاق توصل الطرفين للحدّ من التسلح بينهما، ورفعت حتى معدل المخاطرة في مواجهة نووية محتملة لم نشهدها منذ عصر الحرب الباردة». نشرة فورين بوليسي الالكترونية .
بعضّ النخب الفكرية، والمتشدّدة منها بشكل خاص، كان لها رأي مغاير لتشاؤم الأوساط المقرّبة من المؤسسة الحاكمة. اذ اعتبر الباحث ريتشارد ويتز، في مؤسسة هاريتاج اليمينية انّ «قرار روسيا بالمقاطعة… قد لا يترك اثراً، سلباً او إيجاباً، حول مستقبل عدم انتشار تقنية الأسلحة النووية. اذ لا يزال الاخصائيون الروس منكبّون على توفير تقييمات قيمة لدراسات البحث في الأمن النووي». واضاف انّ غياب روسيا في المحصلة « لم يسهم في تيسير التوصل إلى نتائج أفضل في هذا المؤتمر.. اذ لا تزال الدول المشاركة تعاني من القدرة على ترجمة مناهضتها لظاهرة الإرهاب النووي في برامج ملموسة ومشاريع بوسعها تحقيق تقدم ملموس ومستدام».
اللافت في قراءة الشقّ اليميني في المؤسسة الأميركية الحاكمة انه يبدي قراءة موضوعية وواقعية للعلاقات الثنائية مع روسيا، مفنّداً مزاعم التهوّر والانحدار نحو حرب باردة جديدة. واضاف التقرير سالف الذكر «مهما تضرّرت علاقات موسكو وواشنطن، فنحن لسنا على اعتاب المراحل الاولى لحرب باردة جديدة شاملة.. واوضحت الحكومة الروسية انّ مؤتمرات القمة النووية لم تعد مجدية، والعودة الى تفعيل دور وكالة الطاقة الدولية».
وذهبت مؤسسة هاريتاج الى طمأنة الداخل الأميركي بالقول انّ «ديبلوماسيّي كلا الطرفين، الروسي والأميركي، مجمعيْن على استمرار تعاون وثيق لحكومتيهما في ما يخصّ مسائل هامة تتعلق بعدم انتشار الاسلحة النووية والأمن». وكادت ان توصف مؤتمر القمة بانه استعراض إعلامي ليس الا، يستغله الرئيس أوباما لتعزيز إرثه السياسي قبل نهاية ولايته الدستورية.
في البعد الداخلي الأميركي، يشار الى عدم رغبة الرئيس أوباما استغلال منصبه للتوصل الى معاهدة تحدّ من الاسلحة النووية، والتي كان يدعمها خصمه الدائم عن الحزب الجمهوري، السيناتور جون ماكين عام 2009 ، والتي روّج لها في مطلع ولايته الرئاسية قائلاً انه يتطلع إلى مصادقة الكونغرس على معاهدة حظر التجارب النووية. وسرعان ما تجاهل وعده وأودعه الادراج الموصدة.
«الجهاد النووي»
تشكل شبه إجماع دولي حول تنامي شبكات الإرهاب وتوسع رقعة عملياتها في انحاء مختلفة من العالم. لسنا هنا في معرض تحليل القوى الداعمة والمؤيدة لتلك الجماعات، التي تخدم أجندات إقليمية ودولية متعددة، وعلى رأسها إسقاط الدول الوطنية وخلق الفوضى، بل للإشارة الى خطورة تمكنها من اقتناء معدات وأجهزة نووية وإشعاعية قد تستخدمها لأجنداتها الخاصة.
سياسة أوباما «للحدّ من انتشار» الأسلحة النووية عجزت عن الارتقاء الى مرحلة أعلى في التوصل لاتفاق دولي، لا سيما انّ هناك اجماعاً على خطورة الأمر، وللحدّ من تعدّد ولاءات التنظيمات الإرهابية والتكفيرية، والتصدّي الجمعي لها لحرمانها من الحصول على موادّ مشعة او نووية، مسلحاً بقوة القرارات الدولية.
المعلومات المتوفرة تشير الى حقيقة مذهلة بتنامي رغبة تلك الجماعات والمنظمات للحصول على عناصر تدخل في صناعة قنابل نووية، منذ عام 2008. وما يدلّ على ذلك استخدام المجموعات التكفيرية الأسلحة الكيميائية والبيولوجية في العراق وسورية، دون رادع.
بل انّ التفجيرات الأخيرة التي شهدتها بروكسيل، في المطار ومترو الأنفاق بالتزامن، ترافقت أيضاً مع «مصرع حارس منشأة نووية بلجيكية وفقدان هويته الشخصية»، فضلاً عن رشح معلومات تشير الى تعرّض منزل أحد كبار العلماء النووين البلجيك الى المراقبة والتجسّس. وذهبت بعض التقارير الى الاستنتاج بأنّ تنظيم داعش ضالع في «مؤامرة» الحصول على نظائر مشعّة من احد المفاعلات النووية البلجيكية بغية استخدامها في إنتاج «قنبلة قذرة». وأضافت تلك التقارير انّ اثنين من الموظفين السابقين في المفاعلات النووية البلجيكية غادرا مقارّ عملهما للالتحاق بتنظيم داعش في سورية.
المعلومات الموثقة جرى نشرها تباعاً. وقال الموقع الالكتروني الأميركي «ديفينس وان»، المقرّب من البنتاغون، انه «في شهر آب 2004، أقدم عامل في مفاعل دول-4 النووي لإنتاج الطاقة الكهربائية على فتح صمام استنزف زيوت تشحيم لأحد التوربينات… تسبّب في أضرار قدرت بنحو 100 مليون دولار، وربما ضعف ذلك المبلغ». واضاف الموقع انّ السلطات البلجيكية تعرّفت لاحقاً على هوية الفاعل «الياس بوغلاب، ترك مقرّ عمله في مفاعل دول-4 للالتحاق بداعش في سورية».
يُضاف الى ذلك ما تنشره دوريات صادرة عن تنظيم «القاعدة»، لا سيما نشرتها الانكليزية «انسباير»، تحث فيه أتباع التنظيم على تنفيذ هجمات «تستخدم فيها خبرات متخصّصة واولئك الذين يعملون في مواقع حساسة… لتعيث دماراً».
في الولايات المتحدة، تعتبر الأجهزة الاستخبارية المتعدّدة انّ التهديد «النووي» استطاع التواجد على الأراضي الأميركية. وحذر تقرير صادر عن وزارة الأمن الداخلي، عام 2011، من «تنامي حوادث تسلل الجهاديين إلى مواقع نووبة ومنشآت بنية تحتية… بل انّ الجماعات المتشددة العنفية، في الحقيقة، استطاعت الحصول على مناصب داخلية».
واضاف التقرير انّ «المعلومات الداخلية الخاصة بالمواقع النووية ، والبنى التحتية والشبكات وطواقم التشغيل تشكل هدفاً ثميناً لخصومنا وقد تضاعف حجم الضرر الناجم عن ايّ هجوم يستهدف البنى التحتية لمولدات الطاقة». يشار إلى أنّ الإنفاق الأميركي على تعزيز أمن المواقع والمنشآت النووية بلغ أزْيَد من 2 مليار دولار، منذ حوادث عام 2001، وزيادة عدد الحراس المدجّجين بالسلاح بنسبة أربعة اضعاف. العنصر الداخلي، من موظفين وطواقم صيانة، هو اشدّ ما يقلق الأوساط الأميركية والأوروبية على السواء، والذين باستطاعة فرد منهم «سرقة مواد نووية او ارتكاب أعمال تخريبية».
القنبلة القذرة
تقنية «القنبلة القذرة» لا تستند الى اقتناء الطاقة النووية الهائلة في التفجير، بل تستخدم المتفجرات التقليدية، بأنواع مختلفة، لتلويث مساحات كبيرة بعناصر مشعة، والتي يمكن توفيرها «بسرقتها من مفاعل نووي او حتى المستشفيات».
تنتشر مشاعر القلق الحقيقي من امتلاك تنظيم داعش لمواد إشعاعية، خاصة بعد استيلائه عام 2014 على «88 رطل من مركبات اليورانيوم غير المخصّب المستخدمة في جامعة الموصل… مما يعزز التكهّنات بأنه يستطيع إنتاج قنبلة قذرة نظرياً على الأقلّ»، تتضاعف نسبة خطورة انتشار المواد المشعّة مع تخلّف او استكمال أعمال تنظيف المناطق المعرّضة.
مواجهة الخطر «الإشعاعي والبيولوجي» لا يكتمل الا بالتعرّف على الجهات «والدول» التي تمارسه ومارسته، ولديها استعداد دائم للإقدام عليه ليس في زمن الحروب الضارية فحسب، بل لتحقيق أهداف سياسية واستراتيجية.
أشهر الغائبين عن المعادلة الدولية لمواجهة تلك الأخطار هي «اسرائيل»، التي تتجدّد الدلائل والقرائن ليس في بعد تخزينها لأسلحة الدمار الشامل، نووية وإشعاعية وبيولوجية وغيرها، بل استخدمتها في أزمنة متعدّدة ومنذ عهد الاحتلال البريطاني لفلسطين.
للدلالة، نقتصر الإشارة الى تقرير لهيئة الصليب الأحمر الدولي أعدّه مندوبها في فلسطين، دي ميرون، لتغطية الفترة من 6 الى 19 أيار 1948، وصف فيه تعرّض مصادر المياه الجوفية التي تمدّ مدينة عكا لداء التيفوئيد على ايدي العصابات الصهيونية وقبلها تعرّضت مدينة يافا ومصادر مياهها لوباء التيفوئيد على ايدي تك العصابات. «اسرائيل» استخدمت اسلحة فتاكة مشابهة ضدّ مصر وسورية».
الكيان الصهيوني يمتلك ترسانة ضخمة من الأسلحة النووية، تفوق التزام السياسات الأميركية المتعاقبة بضمان «تفوّقه النوعي في الأسلحة التقليدية على كافة جيرانه».
تحقيق الأمن النووي الحقيقي يبدأ من العمل الجادّ لإنشاء مناطق خالية من أسلحة الدمار الشامل، كما طالبت بذلك بعض الدول العربية منذ زمن. يتوجّب على «الأمن النووي» النظر في الاستغناء التدريجي عن استخدام الطاقة النووية وتغليب مصادر توليد الطاقة البديلة والنظيفة، خاصة لما تشكله الحوادث النووية المحتملة في المفاعلات والمنشآت من أضرار، سواء لأسباب تقنية او بشرية او كوارث طبيعية، كأحد أخطر مصادر الدمار الشامل وتدمير البيئة.
لذلك يبرز مفاعل ديمونا وغيره من المفاعلات المتقادمة في العديد من الدول الغربية، بما فيها أميركا، كمصدر تهديد دائم وداهم في ايّ لحظة، يهدّد البشر والبيئة في محيطه. تجدر الإشارة الى انّ مفاعل ديمونا لا تسري عليه إجراءات الرقابة الدولية من قبل وكالة الطاقة، ومعلومات تشغيله تبقي اسراراً حبيسة الأدراج، بموافقة ضمنية من السياسة الأميركية.
في هذا الصدد، نشرت إحدى الصحف «الاسرائيلية» تقريراً العام الماضي يفيد بإجراء «اسرائيل» تجارب على عدد من نماذج «القنابل القذرة» للتيقن من حجم الضرر والتهديد الناجم عنها.
واوضحت صحيفة «معاريف» انّ التجارب أطلق عليها اسم «الحقل الاخضر»، أشرف عليها طاقم عالي المستوى من مفاعل ديمونا النووي. وزعمت انّ البرنامج لقي نهايته عام 2014 «عقب مرور 4 سنوات عليه، جرت أغلب التجارب في موقع مغلق في صحراء النقب».
تتضمّن تقرير معاريف المقتضب صوراً فوتوغرافية قالت إنها تعود لنحو 20 تجربة تمّت على تفجير مواد متفجرة معززة بعنصر إشعاعي. واضافت انّ طائرات درونز صغيرة الحجم حلقت في الأجواء وعلى متنها أجهزة لقياس حجم الإشعاعات الصادرة، ومجسّات أخرى لتسجيل قوة التفجيرات. وزعم تقرير الصحيفة انّ نسبة الإشعاع العالي في منطقة التجارب «لم تشكل ايّ خطر حقيقي، باستثناء الحالة النفسية» الناجمة عن التفجير.
وبخلاف زعم مصادر الصحيفة المذكورة، جرت تجارب اخرى على مواد مشعّة «تترك» في مناطق مكتظة بالسكان دون ان يرافقها ايّ تفجير، تحت مسمّى برنامج «البيت الاحمر». واوضحت معاريف انّ «المسؤولين الاسرائيليين» وضعوا مزيجاً من موادّ مشعة مخلوطة بالمياه في نظام التهوية لإحدى البنايات تشبه الى حدّ ما مراكز للتسوق.
«الأمن النووي» الفعّال
بناء على ما تقدّم من معطيات، وما تضمّنته مناقشات رؤساء الوفود المتعدّدة لأكثر من 50 دولة، ينبغي إيلاء توفير الأمن والحماية للأسلحة والمعدات النووية اهتماماً حقيقياً، يبدأ بالنظر الى الدول التي تنتج أسلحة ومعدات نووية، وتهديدها بقوة القانون الدولي بالمقاطعة، دون استثناءات، في حال استمرارها لإنتاج وتطوير تلك المواد.
انجاز أمن نووي حقيقي، لا ينبغي حصره بحماية المعدات النووية فحسب، بل في التوصل الجمعي لأساليب وأنماط سياسية تخفف من التوترات الدولية، والتي تستغلّها بعض المجموعات «غير المنضبطة» للولوج الى اقتناء سلاح نووي. علاوة على ذلك ينبغي إعادة إحياء مطالب بتحقيق مناطق خالية من أسلحة الدمار الشامل، دون تأخير.