سياسة التخبُّط للحفاظ على المصالح

سناء أسعد

من اللافت في مسرح الأحداث التي تشهدها المنطقة، من أبسط جزئياتها حتى أكبرها، أنها تتأرجح وفق سياسات بمنهجيات مختلفة تطرق أبواباً عدة، منها ما يصبّ في منحى الرغبات والأمنيات المتبناة كسلوك يتميّز به العدو وحلفاؤه منذ اللحظات الأولى لربيعهم المزيف، لكن مع فارق كبير وتغيّر ملحوظ بين درجات الصعود ودرجات الهبوط، تبعاً لكلّ مرحلة.

هذا الهبوط لا يخرج الآن عن كونه سياسة تخبّط وضياع لعدم إدراكهم واقتناعهم الكلي بأنّ المبادئ والقيم ستتغلب يوماً على المصالح مهما طال الزمن. فكيف إذا لم يكن هذا اليوم بعيداً؟ سياسة التخبط هذه تقابلها سياسة يقين ثابت لمعسكر المقاومة بنتائج واقعية وفعلية كخط بياني واضح ومرسوم بمنتهى الدقة.

لا يريد الغرب الاعتراف بأنّ هناك جيشاً اسمه الجيش العربي السوري ولا يريد التسليم بأنّ هذا الجيش قادر على قلب الموازين بثباته وصموده وبطولاته التي صارت أسطورة تاريخية ستنحت على صخور الزمن وستبحر عبر المحيطات وتعبر القارات لتكون دليلاً ومرجعاً لكلّ الأمم بكلّ نقطة وكلّ حرف مُضرّج بدماء أصيلة. في كلّ صفحة من هذا التاريخ وجع تغلغل في الأعماق رافضاً أن تتوجّع شوارع ومدن وطن ما عرفه التاريخ إلا شامخاً، مطلقاً صرخات الحق التي تزأر في كلّ باب من أبواب الكرامة والعزة والإباء.

هذا الجيش قهر، مع حلفائه، تنظيم «داعش» الإرهابي في تدمر، فأذهل العالم كله، لكنّ هذا العالم لم يرحب بنصره وها هو يقهر التنظيم المذكور في القريتين، وهكذا ستنقطع الإمدادات اللوجستية والعسكرية عن الإرهابيين في مناطق عدة، تبعاً للجغرافيا التي ترسم حدودها القريتين، كما أنها ستكون قاعدة انطلاق لتحرير دير الزور والرقة.

لا تزال دول الغرب تشعر بالقلق حيال وجود رجل اسمه بشار الأسد وترى أنّ خطره يفوق خطر «داعش»، وتعتبر التخلص منه مطلباً ضرورياً أكثر من القضاء على الإرهاب الذي ملّت عروقه من الاختلاط بالدم العربي، وها هو يبحث عن مذاق آخر بنكهة غربية.

لم تكفّ أميركا، بسياساتها الفاشلة، يوماً عن إطلاق التصريحات غير الجدية بالمقاييس كافة، لا سيما في مكافحتها الوهمية للإرهاب، بل إنها لم تتوقف حتى هذه اللحظة عن تقديم الدعم له بما يبقي سيفه مسلطاً على المنطقة بأكملها، والحال بعدم الجدية ذاته في اتباع استراتيجية نافعة بالتعاون مع روسيا للسير في سياسة واضحة بهدف إحلال السلم ومعالجة الأزمات بما يمنع تصاعدها وتفاقمها.

حتى التصريحات المتعلقة بتركيا والسعودية، والتي صدرت مؤخراً عن أميركا لا تعني أنّ الأخيرة استفاقت على ضرورة إحلال السلم في المنطقة، لا سيما أنّ القراءة الغربية للمستجدات ومتغيرات الأحداث بعيدة كلّ البعد، بل إنها مفصولة كلياً، عن الانتصارات التي حققها التحالف السوري ــــ الإيراني مع محور المقاومة وروسيا، ليس في مواجهة الإرهاب فقط بل بتشكيل تهديد كبير على العدو الصهيوني المرتكز جوهرياً على سياسة الولايات المتحدة في المنطقة.

يبدو أنّ تجاهل القوة الكامنة التي يمتلكها هذا التحالف هو الذي خلق هذه الهوة العميقة بين الولايات المتحدة وأتباعها، حيث أثبتت السعودية وتركيا فشلهما الذريع في الوظيفة الموكلة إليهما وذلك بملء الفراغ الاستراتيجي في المنطقة ورسم جغرافيا جديدة تسطو على حدودها أميركا و«إسرائيل». فالتوحّش السياسي لتعبيد طرق المصالح الواهمة على حساب إلغاء هويات وقوميات ومكوّنات بلدان أخرى صار سلعة مستهلكة بشدّة، لكنها فسدت وانتهت صلاحيتها.

أما تركيا التي لعبت دوراً أساسياً في تنفيذ مخططات الغرب وكانت الذراع الممتدة له في إثارة البلابل على الساحة الإقليمية مع دول الجوار، لا سيما تدخلها السافر في شؤون سورية، فقد تحوّلت من سياسة الصفر مشاكل إلى كمّ هائل من الأزمات المفتوحة الأبواب المثيرة للاستفزاز حتى طالت الداخل التركي بدرجات عالية لم تكن متوقعة لا يمكن تفاديها ومعالجتها، وقد أصبح ذلك مستحيلاً أمام جنون العظمة الذي يعاني منه أردوغان.

يبدو أنّ الولايات المتحدة أسندت لتركيا دوراً أكبر من حجمها بكثير فورمت على كاهلها أعباء تفوق قدرتها وتتطلب إلى جانب القوة الكثير من الوعي والحكمة والحنكة في إدارة الأمور، وهذا ما لا يوجد في برنامج أردوغان السياسي.

فشل أردوغان في جرّ حلف «ناتو» إلى مواجهة مباشرة مع روسيا التي تضاهيه، قوة ومقدرة في مختلف الاتجاهات، ولم يحصد عقب إسقاطه طائرة تابعة لها سوى الملمّات والانكسارات التي تتالت عقب ذلك السقوط. هذه كانت أول خيبة يعيشها الإمبراطور العثماني، تلاها تلاشي حلمه الكبير في إقامة منطقة عازلة في الشمال السوري، مستثمراً قضية اللاجئين كمبرّر ودافع شرعي وورقة يلوّح بها. وقد فتح من خلالها أبواب الابتزاز على مصراعيها، حتى تحول متسولاً من الدرجة الأولى ينظر بعيون ماكرة إلى الجيوب الأوروبية. كذلك هو الحال بشأن التدخل العسكري المباشر في الأراضي السورية، حيث لم يجد أي ترحيب، بل وصل إلى درجة التخيير بينه وبين الأكراد في الشمال السوري كحليف للولايات المتحدة ما شكل الضربة القاضية له.

تصاعدت حدة التصريحات حتى تفجّرت بأزمات يصعب لمّ أشلائها واللعب على الوتر العراقي من جهة والروسي من جهة أخرى، لإشعال فتيل النزاعات والاقتتال بين أرمينيا حليفة روسيا الأولى وأذريبجان حليفة تركيا، وهذا لن يغيّر شيئاً في مسار اللعبة ولن يثبت أردوغان من خلاله لأميركا بأنه ما زال قادراً على القيام بأعمال بطولية، فالأخيرة غاضبة من حماقاته التي تجاوزت الحدود التي جعلته عبئاً على العالم كله، فسياسة أردوغان ما هي إلا سياسة المتخبّط القائمة على التلوّن والتقلب نتيجة حتمية لفشل طموحاته العثمانية المنفصلة وبشكل كلي عن الواقع، كما أنّ إنعاش الدور العثماني، كما الدور الأميركي، بات مستحيلاً بعد صراع طويل مع مرض عضال اسمه الأحادية.

أتقنت تركيا دورها الموكول إليها في سورية وكانت في كلّ خطوة عدائية تقوم بها ضدّها تقترب أميالاً بل تقفز قفزات كبيرة إلى حضن أميركا و«إسرائيل»، وكلّ ذلك طبعاً بحجة حماية حدودها ومصالحها. فأردوغان حاول دائماً أن يصبغ سياسته ويصيغها على أنها مجرد حماية وردع لأي اعتداء على إمبراطوريته. فماذا بوسعه أن يفعل إذا أساء العالم كله فهمه وترجم سياسته بطريقة خاطئة؟ ماذا يفعل إذا خار صوته وجفّ حبر رسائله وهو يخبر العالم بأنّ انتشار رادارات الردع الصاروخية ليست لتقديم التسهيلات لحلف شمال الأطلسي وليست لحماية القواعد الأميركية؟ فهل سينتظر أردوغان حكم شعبه عليه بأنه سلطان لا فائدة منه، بعد صدور الحكم الأميركي بحقه بأنه حليف لا فائدة منه؟ هل سيدرك أنّ جنون عظمته لا يضاهي جنون عظمة أوباما وما هو إلا لاعب استنفد جميع فرصه وحان الوقت لاستبداله بلاعب آخر؟

رغم أنّ لعبتهم جميعاً قد انتهت وتغيّر خط الوسط والهجوم في الدقائق الأخيرة، فهذا لن يغير في النتيجة شيئاً وسياسة توسيع دائرة الإرهاب تحت مسمّيات مختلفة لن تنجح في إحداث فجوات وثغرات في السياسة المحكمة والاستراتيجية الذكية التي يتبعها الجيش السوري مع حلفائه.

بالأمس تدمر واليوم القريتين وغداً باقي الأراضي السورية…

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى