جورج خبّاز… الحداثويّ العبقريّ ومعرّي ويلات لبنان السياسية والاجتماعية
أحمد طيّ
أن تكتب عن جورج خبّاز، هذا يعني أنّك تنال شرف الكتابة عن حداثويّ نابغة، استطاع عبر عبقريته وصبره وجَلَده وطموحه ومثابرته وإصراره لا بل نضاله، أن يخترق حائط الجمود، وينتشلنا من الفوضى والعبثية والغيبوبة المعشّشة فينا، ويمضي بالمسرح اللبناني خصوصاً، والفنّ عموماً، نحو مجدٍ سيكتب التاريخ عنه عمّا قريب.
أن تكتب عن جورج خبّاز، هذا يعني أنه ينبغي عليك أن تكون صافي الذهن، مركّزاً، لا لشيء، إنما فقط لتحيط بكلّ ما أبدعه، وأن تسترجع عبر ذاكرتك كلّ مشهد مسرحيّ أو دراميّ أو سينمائيّ أدّاه، كلّ قصيدة ألقاها، كلّ أغنية غنّاها، كل دمعة ذرفها، كلّ ضحكة، كلّ «صفنة». هو الذي لم يترك «شاردة» تشرد عن باله، ولا «واردة» تمرّ مرور الكرام أمام قلمه، فتجده يعرّي الويلات السياسية والاجتماعية التي لمّا يزل لبنان يعاني منها، علّه ـ أي جورج خبّاز ـ يستطيع عبر ما يقدّمه من فنّ راقٍ قريبٍ من القلب، أن يفتح كوّة في جدار، شقّاً في عباب الموج، أو يُحدث تغييراً منشوداً في نفوسنا… نحن اللبنانيين.
بكلّ ثقة بعيدة عن التملّق والمجاملة، أسمح لنفسي أن أقول، إن جورج خبّاز، مجموعة من العباقرة في عبقريّ، قيمة لبنانية كبيرة، على اللبنانيين ـ مواطنين ومسؤولين ـ أن يتمسّكوا بها ويدعموها. هو الذي ـ إلى جانب آخرين ـ استطاع أن يخلّص المسرح اللبنانيّ من براثن الابتذال، بعدما اتجه هذا المسرح خلال فترات معيّنة، إلى مَسرَحَة النكات لا سيما البذيئة، وإلى استعراض السيقان والهبل والصراخ والنشاز.
ابن البترون، وابن الأسرة الفنّية والده الممثل جورج خبّاز ووالدته الممثلة أوديت عطيّة ، ولد في 5 تشرين الثاني عام 1976، أي أنّه ترعرع في لجّة الصراع الدموي الذي خاضه اللبنانيون. رأى ما رآه من ويلات الحرب. رأى دماءً تُزهق، وأُسَراً تُشرّد وقرى تُفرغ من قاطنيها، فاختزن كلّ هذا الألم في جوّانيته، ليشكّل تربةً خصبةً لإبداعاته في ما بعد.
لا تندهي؟!
هو الشاعر والكاتب والموسيقيّ والملحّن، والمخرج والممثل، وبكلمة واحدة، هو الفنان الشامل. عندما تسمعه ينشد أو يغنّي، لا يمكنك إلا أن تنسجم، تضحك، تبكي، تثور، تغضب، وأحياناً ـ غصباً عنك ـ يقشعر بدنك فتجد نفسك تصفّق من دون أن تشعر. يقول في مسرحية «مش مختلفين» 2013 :
ما نقّيت وين خلِقْت
ولا نقّيت وين علِقْت
ما نقّيت إسمي شو
ولا طولي قديشو
ما نقّيت شكلي كيف
عادي ناصح ولّا ضعيف
ما نقّيت أهلي مين
ولا المذهب ولا الدين
ما نقّينا نحنا مين
عَ شو دخلك مختلفين؟
ونبقى في الأغاني والقصائد التي يصرّ خبّاز أن يدرجها في مسرحياته، إذ تساهم جدّاً في إيصال أفكاره إلى الناس، ورسائله التي يريد بموجبها أن يضيء على أمور معيّنة ذات صلة بالقضية التي تعالجها المسرحية ككلّ.
يقول في مسرحية «هلّق وقتا» 2007 :
اسمعني يا رفيقي الشهيد يللي تركتنا بكير
نفس الغلطة عم نعيد واللي صار رجع يصير
رجعنا نمشي نفس الدرب وعم نفتّش عَ ما شي
كأنه كلّ سنين الحرب ما تعلّمنا منها شي
تلاتين سنة من الذلّ يظهر ما بتكفّينا
رجع الحقد فينا حلّ ورجعوا يلعبوا فينا
والشباب بعدا بتفلّ عم نسمع صوت القنابل
رجع الكلّ يسبّ الكلّ ونخلط الحابل بالنابل
ومِشْيِت لغة التجريح والبلد ما شفيو جراحو
قولك رح تاخدنا الريح ما بيكفي يللي راحوا
سبق وشربنا الكاس وبكينا عالمقابر
ما اشتقنا عَ خطوط التماس ولا اشتقنا عالمعابر
قلهم حاج يضحكوا عالناس اللي بيحكوا عالمنابر
يا ريت فيك تزورهم يوم مش عم يسمعو منّي!
فيّقهم إنت من النوم ببلد متل الجنّة
قلهم يا بشر أوعوا تِرْجَعوا لهيك الأيام
صار لازم نوعى بلدنا بيلبقلو السلام
ما حدا منّا سئلان وعَ بلدو خايف
كل واحد فاتح دكّان ليتاجر بالطوايف
يا عالم كلّ الأديان بتدعي لنكون محبّين
نحنا منكره الإنسان ومنحطّ الحجّة بالدين
قلوبنا صارت من حديد وما تعلّمنا من الماضي
خايف يا رفيقي الشهيد… تكون رحت عالفاضي
بنتك صارت صبيّة وصار عُمرا فوق العشرين
عم تسأل وينو بيّي… وبيّي استشهد كرمال مين
قلتلها بيّك بدمّه دفع حق الحرّية
القضية كانت همّه واستشهد بالقضية
قالت أيّ حرّية وشو بدّي بالقضية
مبارح بالحفلة تخرّجت وما كان بالحفلة بيّي
قلهم يوعوا من جديد وما يرجعوا للماضي
حتى يا رفيقي الشهيد ما تكون رحت عالفاضي!
ويغنّي في مسرحية «ورا الباب» 2015 :
شو بدنا نسمّي البوبّو
شي اسم الكلّ يحبّو
يلبق لكلّ الظروف
ولا دولة فيها تسبّو
الاسم الأجنبي بالشرق
تسكّر بوجّو البواب
الاسم العربي بالغرب
على لايحة الإرهاب
يمكن ترجع تتسكّر المناطق عنّا
ونرجع نحكي بمنطق منّا ومش منّا
شو بدي سمّي يا ناس
شي اسم يضلو ينعاز
ما يضطر يغيّر فيه
أو فجأة يضبّو
أو فجأة يكبّو!
وشجّعته «حرقة القلب» في مسرحية «ناطرينو» على تحريف كلمات النشيد الوطني اللبناني فيقول:
كلّنا عَ الوطن
كل واحد عندو علم
كيف إلكن عين بهالزمن
تعيّشوا الناس بالألم
بعنا السهل والجبل
وعم نفتّش ع الرجال
والشباب بلا عمل
بتهاجر تتجيب المال
كلّنا برّا الوطن
والسرقات اللي بالعلن
حرقت سلّاف الوطن!
دراما وسينما
غزير الانتاج في شتّى المجالات، بدءاً من مشاركاته في الأعمال الدرامية والتلفزيونية، نذكر منها: مسلسل عُرض على قناة «ديزني» عام 1994، إلى «شباب وبنات» 1995 ، و«أصابع من ذهب» 1996 ، و«بسمات وطن» من 1997 إلى 2001 ، «نساء في العاصفة» 1997 ، «طالبين القرب» 1998 ، «سنابل الحب» 1999 ، «جميل وجميلة» 2001 ، «عبدو وعبدو» 2003 و2004 ، «ساعة بالإذاعة» 2005 ، «فادي وراضي» 2006 ، إلى «يارا» 2010 ، و«القناع» 2012 .
وفي السينما، نجد خبّاز يعالج مآسي الحرب في «وينن» 2014 و«تحت القصف» 2007 ، كما يعالج نظرة المجتمع إلى ذوي الاحتياجات الإضافية في «غدي» 2013 ، ويساهم مع نجوم كبار من سورية ولبنان في إعادة مسرحية «سيلينا» سينمائياً 2009 .
المسرح… المنبر الأحبّ
أما في المسرح، فأن تجد من يبدع كلّ سنة تقريباً مسرحيةً ناجحة، فهذا أمر عجز عنه عمالقة سابقون، ونشكّ في أن يستطيع أحدٌ ذلك مستقبلاً.
قد يقول أحدهم: «النوعية أفضل بكثير من الكمّية. وأن تنتج مسرحية تشاهَد لسنوات، خير من أن تخرج بمسرحية كلّ سنة»… كلام قد يكون سليماً.
وقد يقول آخر، إن الغزارة تولّد التكرار… كلام قد يكون سليماً أيضاً. ولكن جورج خبّاز كسر ـ بحق ـ تلك القواعد كلّها. فهو الذي نجح في إنتاج الكمّ النوعيّ، وهو الذي لم يسقط قط في فخّ التكرار إلّا طوعاً وعن قصد، حين تتطلّب الرسالة الأسمى ذلك.
أما نحن فنقول، إنّ ما أنتجه هذا العبقريّ خلال أكثر من عشر سنوات بقليل، لا يمكن أن يُنسى. بمعنى أنّ مسرحيات جورج خبّاز كلّها، تصلح لأن تكون جاهزةً في أيّ مكتبة منزلية. وقد يجد كثيرون مبالغةً في ما سأقول، إنّني أشاهد مسرحيات جورج خبّاز كلّ ليلة، من دون أن يتسلّل إليّ أي شعور بالملل أو السأم. كلّما تشاهد مسرحية ما، تشدّك إليها، وتجد تفصيلاً صغيراً لم تنتبه إليه سابقاً وتحاسب نفسك على كلّ خطأ نبّهك إليه. فيكون جورج خبّاز بفنّه، تلك القوّة المسمّاة… ضمير! فمعه، تصمّم على أن تكون الإنسان المواطن الذي في داخلك، والذي ينبّهك خبّاز إلى وجوده، كي تحرّره من كلّ القيود التي تكبّله وتمنعه من بناء وطن جميل قويّ حرّ، يسوده الحبّ، ويليق بنا وبالشمس التي تشرق عليه.
يدعوك خبّاز عبر مسرحياته إلى التحرّر من الطائفية والمذهبية والمناطقية والاقطاعية والطبقية والفساد والتحزّب الأعمى اللامجدي، والتبعية والخذلان والضعف والهوان والجهل والهبل والكذب والرياء… يدعوك لأن تكون وطنياً محبّاً صادقاً نظيفاً وحدوياً مؤمناً لا متعصّباً. يدعوك لأن تتخلّص من لوثات زرعتها الحرب فيك، لتمضي مع أخوتك في الوطن، إلى بناء هذا الوطن. إنّ جورج خبّاز عبر ما يدعوك إليه في مسرحياته، كلّ مسرحياته، يذكرني بفيلسوف ومفكّر من بلادي، اغتيل استُشهد كرمى لهذه القيم، هو الذي قال ذات يوم: «إن اقتتالنا على السماء أفقدنا الأرض»!
قد لا تتّسع الصفحة هنا لأن نفنّد كل مسرحية من مسرحيات جورج خبّاز، بدءاً من مشاركته في مسرحية «غادة الكاميليا» لجيزيل هاشم زرد 1996 ، وإخراجه مسرحيته الأولى «هاملت في ورطة» 1997 ، إلى «طق RIRE» 1998 ، لتكرّ سبّحة إخراج المسرحيات سنوياً مع «مصيبة جديدة» 2005 ، و«كذّاب كبير» 2006 ، و«هلّق وقتا» 2007 ، و «شو القضية» 2008 ، و«عَ الطريق» 2009 ، و«البروفسور» 2010 ، و«مطلوب» 2011 ، و«الأوّل بالصفّ» 2012 ، و«مش مختلفين» 2013 ، و«ناطرينو» 2014 ، و«ورا الباب» 2015 .
أما مسرحيته الجديدة فهي بعنوان «مع الوقت… يمكن»، والتي يؤدّي فيها شخصية «باخوس»، كاتب الأفلام الفاشل وغير القادر على بيع نصوصه، فيحاول الانتقام من ماضيه الأُسَريّ. ما زالت المسرحية تُعرَض على خشبة «شاتو تريانو»، من الأربعاء إلى الأحد، وهي من بطولته إلى جانب شقيقته لورا، وجوزف آصاف، غسان عطية، مي سحّاب، ناتاشا شوفاني، وسيم التوم، جوزف سلامة، عمر ميقاتي وبطرس فرح، إضافة إلى فرقة استعراضية.
شهادات
وإذا كان الممثل القدير دريد لحّام قد رشّح جورج خبّاز ذات يوم لتجسيد شخصيته في حال أُنتِج فيلم أو عمل دراميّ عن حياته، فإنّ نجوماً لبنانيين كثيرين اعتذروا عن إبداء الرأي بخبّاز، لا لشيء، بل لأنّهم أجمعوا على أنّ شهاداتهم بجورج خبّاز «مجروحة»، فهو المبدع الذي عرف كيف يخطّ طريقه نحو التألّق.
إلّا أنّ الممثلة ندى بو فرحات، ودّت أن تصف خبّاز بالعصاميّ الجميل، وقالت في حديث مقتضب إلى «البناء»: جورج خبّاز صنع نفسه بنفسه، فهو اختار خطّه منذ البداية، وطوّر نفسه وفنّه، من خلال قراءاته وأبحاثه. لقد استطاع جورج خبّاز أن يبني عالمه المسرحيّ السينمائيّ الخاص، في وقتٍ كانت أزمة السينما والمسرح في لبنان في أوجها. لجورج خبّاز العصاميّ الجميل كلّ الاحترام والحبّ، ولشغفه وإيمانه بموهبته كلّ التقدير.
كلمة أخيرة
ختاماً، يبقى أن نقول إن لبنان ـ كما العالم العربي ـ قلّما ينجب مبدعين أمثال جورج خبّاز، هو الذي يدرك جيّداً أنّه لا يغرّد خارج سرب المسرح الأصيل، بل هو يبني مداميكه من جديد، لتعود إلى لبنان صورته الناصعة.
لجورج خبّاز، الذي ردّ ذات صباح على الهاتف بصوتٍ يغالبه التعب والنعاس بعد ليلٍ طويل من الوقوف على خشبة المسرح، والذي سارع بعد فترة وجيزة إلى معاودة الاتصال للاعتذار عن طريقة ردّه، لهذا الإنسان الراقي بأخلاقه رقيّه بفنّه، كل الحبّ، وله نردّد مع الفيلسوف والمفكّر الذي استعرنا منه مأثورةً في متن هذا المقال، ونقول: «كلّما بلغتم قمّة، تراءت لكم قممٌ أخرى أنتم جديرون ببلوغها». جورج خبّاز… القمم تليق بكم!