التعاون الأميركي ـ الروسي «أوسع» من أي وقت
روزانا رمّال
تكاد تغيب مواقف القيادة التركية المندّدة بوجود الرئيس السوري بشار الأسد والمطالبة برحيله عن المشهد الحافل بالأحداث السياسية للمرحلة المقبلة المفترضة في سورية، والتي تعتبر أحد أبرز منعطفات المنطقة نحو مرحلة تحمل العملية الديبلوماسية فيها الجزء الأكبر من الحضور.
يبدو أنّ الحرب التي حطّت رحالها منذ عام 2011 في الشرق الأوسط تستعد للدخول إلى الغرف السياسية المغلقة التي ستفتح على أنقاض غرف سوداء أنشأتها الدول الكبرى وهي القادرة على إيجاد مخارج للأزمات الأربع التي كان مرسوماً لها أن تغيّر وجه المنطقة، فإذ بها تتخذ مساراً مغايراً بات خطراً مباشراً على كلّ العالم، في ليبيا واليمن وسورية والعراق، حيث تمدّد «داعش» والقوى المتطرفة من دون أن تتقيد بما أملته عليهم القوى الاستخبارية التي رافقت تطور مسيرهم.
شكّل التوافق الروسي ــــ الأميركي حول مصير الأزمة السورية مقدمة لاستدراج الحلول نحو باقي الملفات حتى بات المشهد في اليمن اليوم والذي توجه نحو لقاءات بين الحوثيين والسعوديين في الرياض قبل موعد مؤتمر الكويت المخصّص لبحث إنهاء الحرب والانتقال إلى العملية السياسية، ما ينبئ بتقدم لا يحمل لبساً على صعيد التواصل السعودي مع مَن يُعتبرون حلفاء لإيران وخصوماً للسعودية التي يُفترض أنها حاولت إقصاءهم عن المشهد السياسي والحؤول دون اقتسام السلطة معهم.
أجوبة صريحة بدأت تظهر بعد عملية تحرير تدمر في سورية، حيث تدحرجت الاستجابات الدولية والأمنية نحو قبول معادلة حضور الرئيس الأسد الذي بدأ يحظى بما يعتبر «مخارج شرعية» ديبلوماسية افتتحتها الأمم المتحدة بترحيب أمينها العام بان كي مون بخطوة الجيش السوري، معتمداً على هالة الإنجاز في تحرير تدمر، حيث الآثار وملتقى الحضارات لدى الطبقة التي عوّل على استدراجها عاطفياً ضدّ الدولة السورية، مستخدماً الإنجاز ذريعة لتسهيل مرور ما يعتبر ملاطفة وإشادة بالجهد السوري.
تلك الأجوبة الواضحة ستنسحب على تركيا وحكومة رجب طيب أردوغان، لكنها وليدة الاتفاق الروسي ــــ الأميركي حول سورية وملفات المنطقة والذي انعكس ضغطاً كبيراً على أنقرة، وإذا كان الخلاف بين تركيا وروسيا قابلاً للحلّ في مرحلة ما بعد إسقاط الطائرة ومقتل الطيار الروسي على يد الإرهاب المدعوم من الحكومة التركية، فإنّ التعقيد الروسي وخلق أجواء سلبية أمام أي محاولة للوساطة بين الجانبين طيلة الأشهر الماضية أصبحا مفهومين اليوم.
تضغط روسيا بشكل مباشر على تركيا التي كشفت عن نيات الإمعان في التحدي والاستمرار في النهج المتفرد نفسه في سورية، وبالتالي وجدت موسكو أنّ استغلال قضية الطيار التي شكلت تحدياً قومياً أبعد من خلاف يحلّ بوساطة سيكون بمثابة نقطة الانطلاق الأمثل نحو حصد ما أمكن من ظروف تضغط على الحلف الأميركي في المنطقة المتمثل بشكل أساسي بتركيا والسعودية، خصوصاً أنّ الأخيرة غير قادرة على الإنجاز من دون تركيا في الملف السوري، لا ميدانياً ولا سياسياً.
تُترجم التحولات في ليبيا والتي تتعلق بحلّ الحكومة الإخوانية الأخيرة اتفاقاً أميركياً ــــ روسياً مباشراً يقتضي بتحجيم القدرة التركية في المنطقة من أجل الانطلاق نحو عملية جدية لمكافحة الإرهاب. وهنا يجد أردوغان نفسه مستعداً لتقديم تنازل سبقته إليه الرياض في ملف اليمن تمثل بقبول التفاوض مع الحوثيين واستغلال الهدنة من أجل التوصل إلى حلّ سياسي. وبالتالي يفترض أن تقدم تركيا تنازلاً في سورية على طاولة مفاوضات تبدو القوى الكردية الأكثر حضوراً فيها.
تدرك تركيا اليوم، بعد خسارتها ليبيا، مدى التنسيق المتين بين موسكو وواشنطن. وتدرك أيضاً مدى اهتمام واشنطن وموسكو، بالورقة الكردية، ومعهما الأوروبيون الحريصون على تأمين ما يمكن من تسهيلات للأكراد في مشهد يحاصر أردوغان بإجماع دولي كبير وتعاطف حول القضية تجعل منه غير قادر على المجابهة وسط الضغط الذي سحب منه تدريجياً كلّ مكامن القوة المتمثلة بحكومات انبثقت عن مفهوم حزبه.
يكشف أوباما عن موقف يكاد يحذّر السعوديين من مغبة تجاهله أو الإمعان في انتهاج ما يودي إليه، وهو المصير نفسه الذي واجه أردوغان وسوء العلاقة التي طفت على السطح بعد امتناع أوباما عن لقاء أردوغان كاد يكشف عن استقبال أميركا لمهزوم استنفد محاولاته تقديم صورة مغايرة عن المشهد.
تقرأ السعودية المشهد بشكل مباشر، وقبل زيارة الملك سلمان إلى موسكو تحاول واشنطن تسهيل عبور المملكة إلى تعاون مقبول مع الروس في المفاوضات السورية، بما لا يكشف عن هزيمة مباشرة تعيق توازنات من المفترض أنه يتم درسها بشكل يسمح لطاولة المفاوضات جمع أكبر قدر ممكن من المعنيين بالصراع.
يخضع التعاون الأميركي ــــ الروسي اليوم لأقوى درجات التنسيق ويبدو أنّ ذلك قد بدأ منذ لحظة توقيع الاتفاق النووي مع طهران، وهو نقطة التحول الأكثر جدية من عمر تعقيدات المنطقة. والملف الأكثر حساسية الذي كشف أخيراً عن أرضية منتجة بين موسكو وواشنطن يبدو أنها انسحبت على باقي الملفات.