أيّها المقدسيّون… أوقفوا حفلات التكريم
راسم عبيدات
لم يعد أحد في القدس غير مكرّم لمرة واحدة أو أكثر، حتى أنّ بعضنا حصل على أوسمة ودروع وألقاب أكثر من تلك التي حصل عليها قادة الجيش الأحمر في تصدّيهم للنازية، أو القائد الكبير هوشي منه أو الجنرال جياب أو تشي غيفارا وغيرهم من قادة الثورات العالمية والعربية والفلسطينية.
لقد وصلت الأمور حدّ الابتذال والإسفاف والإساءة إلى من يجري تكريمهم. فجميعنا، رجالاً ونساءً وطلاباً ومؤسسات ولجان وجمعيات وقادة مجتمعيين وسياسيين ورجال فكر وإعلام وثقافة وتربية ورياضة وباعة متجولين مبدعون ومتميزون ومنجزون، والقدس حماها الله خلية نحل في كلّ المجالات وقلة هم غير المبدعين والمتميزين فيها.
ما يجري من «موضة» التكريم ليس له علاقة من قريب أو بعيد بالعرفان والتقدير والشكر لمن أبدعوا أو تميّزوا في مجالات عملهم، بدليل أنّ جزءاً كبيراً من التكريمات يجري لاعتبارات لها علاقة بالجوانب والعلاقات الشخصية أو لهدف دعائي ترويجي وتلميعي أو «مسح جوخ» لمؤسسة أو شخصية ما، يتكسّب ويترزّق منها القيّمون على حفلات التكريم. وفي المقابل، فإنّ من يقدم الدعم المادي أو يتبرّع بتكاليف إقامة الحفل، يسعى حتماً إلى الترويج لنفسه أو مؤسسته أو إلى تحقيق استثمار يحسّن من موقعه ومكانته وصورته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والجماهيرية بين الناس، أيّ أنه يبحث عن استثمار واستعراض وتلميع.
في تلك الحفلات يتمّ توزيع الدروع والميداليات الصينية، التي أغرقت بها الأسواق، إضافة إلى المسابح وأعلام الفصائل وراياتها المصنوعة في الصين، وقد أصبحت هذه التكريمات تُشعر المبدعين والمتميزين في مختلف المجالات والميادين، بأنّ إنجازاتهم وإبداعاتهم لا شأن أو قيمة لها، ما دامت المعايير المهنية والأخلاقية والوطنية المتفق عليها لقياس معنى التميز والإبداع مفقودة. إذا كان هناك ما يمكن تبريره أو القبول به فهو تكريم الشهداء والأسرى أو عائلاتهم، لأنّ قضايا التميز والإبداع في الدول التي تحترم نفسها، يُعبَّر عنها بجوائز سنوية تُمنح لمبدعين كانت لهم إسهامات وإبداعات تركت بصماتها في مجالات وميادين مختلفة وكان لها دور تنويري أو تثقيفي أو توعوي في المجتمع، أو لشخصيات لعبت دوراً فاعلاً في إحداث تغير في ثقافة ووعي المجتمع تجاه قضية ما، أو لأصحاب اختراعات واكتشافات متطورة انعكست على تطور المجتمع ونجاحه وأسهمت في إيجاد علاج لمرض أو مجموعة من الأمراض التي تفتك بالناس.
لكنّ ما يجري في ساحتنا المقدسية على وجه التحديد، أنّ حفلات التكريم تضيع فيها التخوم والحدود والفواصل، حتى نجد أنّ عدداً من المكرمين كانوا نماذج سيئة في مواقعهم ومجالاتهم، وكان الأجدر محاسبتهم بدلاً من منحهم ألقاباً لا يستحقونها.
فأنا لا أعرف لماذا يُكرّم فاسد يستغلّ الناس ويهدر المال العام أو يروج لمنتوجات «إسرائيلية»، أو يلعب دوراً في تشويه وعي الطلبة، أو يدعو ويمارس التطبيع أو الدعارة السياسية والفكرية وغيرها، أو يستغلّ حاجة الفقراء والمهمّشين، لكي يمثل عليهم دور أمير المؤمنين؟ كيف ستنعكس مثل هذه التكريمات على نفسية من يُكرمون إلى جانبه، ممن لديهم فعلاً إبداعات وإنجازات حقيقية؟
إنّ تكريم الطلاب المتفوقين من باب التشجيع بهدايا وشهادات شرف رمزية وتكريم العمال الأوفياء والمخلصين في مهنتهم، في عيد العمال العالمي يشكل وحافزاً لهؤلاء في إطار مؤسساتهم ومدارسهم، وهناك فرق كبير بينه وبين التكريمات التي تجري على المستوى الوطني أو المناطقي لمنح أوسمة ونياشين وجوائز تقديرية لأشخاص أو مؤسسات، ليس لها علاقة بالإبداع والإنجاز والتميز.
عندنا في القدس أو فلسطين أصبح من ينظُم بيتين من الشعر شاعر، كذلك يُصبح من يوفَّق بكتابة خاطرة أو مقالة أو قصة قصيرة من عمالقة الأدب، وقس على ذلك الفنانين والصحافيين وغيرهم، الكلّ عندنا مبدع ومتميز، ومع كلّ إبداعاتنا وتميزنا تزداد هزائمنا وفقرنا وجدبنا وقحطنا الفكري والثقافي والفني والتربوي والتعليمي .
إننا نعيش في أزمة عميقة، هي نتاج لثقافة ووعي مشوّهين يجنحان إلى حبّ الظهور والاستعراض، ليس فقط عند من يستغلون التكريم من أجل «البرستيج» والجاه والمكانة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والمجتمعية، حتى أنّ المكرمين أنفسهم يتلذّذون بهذه الطقوس.
هناك الكثير من الشخصيات المبدعة والمفكرة عالمياً رفضت جوائز تكريمية بملايين الدولارات، لأنّ ذلك لا يتفق مع قناعاتها وأفكارها ومعتقداتها، كما حصل مع الكاتب الإسباني خوان غويتيسولو عندما رفض تسلم الجائزة من معمّر القذافي، في حين أنّ من يُدعى في بلادنا إلى حفل تكريم من وزير أو وكيل أو مدير تراه يطير من الفرح، سواء اتفق ذلك مع قناعاته أو لم يتفق، وهذا حال من يوجهون دائماً سهام النقد لأميركا وسياساتها ومواقفها وانحيازها الأعمى لـ«إسرائيل»، فما أن توجه الدعوة إليهم في عيدها القومي حتى تجدهم أول المصطفين على أبواب سفارتها.
إنّ الأموال التي تُصرَف وتهدَر في هذه الجوانب، يجب استغلالها في أمور يستفيد منها المجتمع أو المؤسسات، والتكريم يجب أن يقتصر على من يستحقه وفق معايير صارمة مهنية ووطنية وأخلاقية، حتى لا يفرغ من محتواه، كما هو حاصل الآن، حيث أضحى «موضة» من «موضات» العصر، وهناك فرق بين جوائز تقديرية تمنح للأشخاص والأفراد من أجل حثهم وتحفيزهم على التطور والتقدم وبذل المزيد من العطاء في مجالاتهم وتعميق وتجذير انتمائهم، وبين تكريم أفراد ومؤسسات لتميزهم وإبداعهم، كما حصل مع المدرِّسة حنان الحروب، أو فوز عمل أدبي أو صحافي أو اختراع علمي على مستوى عربي أو دولي، وحتى التميز والفوز على المستوى الوطني، عبر جائزة سنوية تُخصّص لذلك، لكنّ ما يجري اليوم لا يمتُّ إلى التكريم والتقدير بصلة، بل هو شكل من أشكال «البرستيج» والجاه يخدم مصلحة جهة أو فرد بالدرجة الأولى قبل أن يكون هادفاً إلى التكريم على إنجاز أو عطاء.
القدس المحتلة فلسطين
Quds.45 gmail.com