هذي امرأة فلسطينية غزاوية من بلادي… فانحنوا لها احتراماً
نصار ابراهيم
بين جميع المشاهد وقفت صامتاً أمام مشهد تلك المرأة الفلسطينية الغزاوية الباسقة الباسلة ليتني أعرف اسمها وهي تمشي على وقع الدمار العظيم، ترفع قبضتها في وجه السماء ووجه الأرض غضباً. هي أمي وأختي وابنتي، تداعب الريح منديلها البرتقالي، تمسك بذيل ثوبها الأسود الناهض كراية وسط الرماد، وتمشي بوضوح صارم وجميل مثل عصفور الشمس الفلسطيني. تتألم بالتأكيد، لكن قبضتها تفيض حسماً ووضوحاً. دمار خلفها ودمار تحت قدميها ودمار أمامها… ومع ذلك تتقدم مثل رمح مشرع في وجه القتلة وأصحاب الجلالة والمعالي والنيافة والقيافة والسيادة وسائر ألقاب النذالة…
هي «إلهة» غزاوية تنهض هكذا وسط الدمار. هي عنقاؤنا وروحنا، تسير كأنها تدوس بحذائها جميع تعابير «الحرية» و«الديمقراطية» و«الإنسانية» و«حقوق الإنسان»… فمنديلها أكثر حرية من «حريتهم» كلها، وقبضتها أكثر ديمقراطية من «ديمقراطيتهم» كلّها و»شِبْشِبِها» أكثر إنسانية من «إنسانيتهم» كلّها.
هي امرأة فلسطينية الوجه من غزة، امرأة من أولي العزم. ولو اجتمعت نساء الأرض جميعاً لرجحت كفتها جرأة وجمالاً وصدقاً. لم تكن تبكي، بل كانت تحاكم العالم وتحشره بين الأنقاض و»شِبْشِبِها». تلك الفلسطينية الغزاوية وهي تمشي فوق مشهد الدمار العظيم كانت كأنها تلقي بيانها على العالم أجمع: أنا هنا… نحن هنا… غزة هنا… نستشهد، نُحرَق، نُدفن تحت الأنقاض، تُمسح بيوتنا عن وجه الأرض… تشتعل غزتنا في جحيم النار والقتل الجماعي… لكنني أنا المرأة الفلسطينية الغزاوية وأنا أودع في كل دقيقة شهيداً… أقول لكم من هنا، من فوق أنقاض بيتي وبيوتنا، التي قد يكون تحتها حتى اللحظة بعض شهدائنا، أقسم لكم بقبضتي هذه وأنا أقف فوق دمار وشهداء، لن تنالوا من غزة… فثمن كل حجر أو شجرة أو طوبة شهيد… ولتعلموا أن دمنا ودموعنا يعادلان الكون، أنظروا إليّ الآن واسمعوني جيداً، فأنا لا ألقي بياني هذا من قاعة مغلقة أو من صالة أخبار، بل من ميدان المواجهة. وانظروا إلى قبضتي جيداً فهي سر قوتي، وهي سر غزة، فيها أودعت أحلامها وثقتها وأسرارها، بها دفنت الشهداء واحداً تلو الآخر، وبها بنيت بيتي حجراً حجراً. ولذلك هي التي ستقرر منذ الآن، فقبضتي هي القيادة ومركز القرار، وهي البداية والنهاية.
صدقت يا أختي مرة أخرى ليتني أعرف اسمك لأخاطبك به مباشرة . أعرف أنك تتألمين، وأعرف أنك فقدت أحباء، وأعرف أنك فقدت بيتاً وجيراناً وذكريات، وأعرف أن ألمك هائل وشاسع، وأعرف أن قلبك يرتعش مثل فراشة، وأعرف أن عينيك تبحثان عن شتلة ريحان أو نعنع زرعتها يوماً هنا تحت هذا الركام، وأعرف أنك تحلمين بجلسة هادئة على شاطئ بحر غزة، وأعرف أن الموت حزين، والفقد مؤلم، وأعرف أن الجرح عميق، وأنك تعشقين الأطفال وزهر الياسمين، وأعرف أنك تكرهين القتل والدم والحرائق وتحلمين بصباح هادئ مع فنجان قهوة أو كأس شاي… لكنّهم يا أختي لا يحترمون ذلك كلّه. ولأنك أدركت هول وحشيتهم وفاشيتهم وعنصريتهم وجبن حلفائهم من غرب ومن شرق ومن عرب ومن روم، امتشقت ذاتك ونزلت إلى الميدان تمسكين بذيل ثوبك المقدس وترفعين قبضة عارية إلاّ من الروح، رأس شامخ ، وقامة عالية، وصرخة حاسمة، ومنديل بلون البرتقال يرفرف في فضاء غزة ودمارها كأنه يحاصر العالم كله ويحاكمه.
لي عندك يا اختي رجاء وحيد وهو: ألاّ تسمحي لأحد مهما يكن دينه أو انتماؤه أو اسمه أو طائفته أو دولته أو مقامه أو لقبه بأن يتاجر أو يساوم على دماء غزة، ومقاومة غزة، وعلى كرامتك، أو دمار بيتك أو دموعك أو صرختك الأبية، أو قبضتك الهادرة أو طرف منديلك أو ذيل ثوبك… أن تصفعي وجه من يحاول ذلك بـ«شبشبك» المثقل برماد الدمار.
لك المجد وأجمل ما في الحياة يا امرأة غزاوية من بلادي وأنت تلقنين العالم دروساً في الكرامة والأخلاق والسياسة والمقاومة والصبر والعزة ووضوح الكلمة وصراحة الخطاب وثبات القلب ورهافة العينين.
بلى، هذي امرأة فلسطينية غزاوية من بلادي، فانحنوا لها احتراما!