غزّة… على نصرها يُبنى الكثير
رامز مصطفى
قدر غزة اليوم أنها تتحمّل مسؤولية رسم أفق مستقبل قضية الأمة كلّها. وقدرُ غزة التي لا تبخل أو تتخلف أو تشكو ألمها وحزنها أن تواجه ببسالة منقطعة النظير آلة العدوان الهمجي الصهيوني، وتواجه ظلم ذوي القربى وحالة التخلي عنها والتنكر لها كعنوان للنضال والكفاح الفلسطيني، وقد تجاوز التخلّي حدوده نحو الشراكة في منح الإجازة للكيان وآلة إرهابه، وفي الإيغال عميقاً في الدماء الفلسطينية. ما تتعرّض له غزة اليوم يأتي في سياق استكمال مشروع الإخضاع الذي تمارسه الإدارة الأميركية وحلفاؤها وأدواتها في المنطقة. وكل كلام آخر خارج هذين الفهم والتوصيف لا معنى له ولا قيمة على الإطلاق، بل هو مجرد تزويق بالمساحيق لتسويق وترويج منظمين يقوم بهما الكيان وطابوره الخامس وجوقة أدواته الوظيفية المشبوهة من إعلاميين وكتاب وصحافيين ومثقفين ووسائل إعلامية صفراء، محمّلين المقاومة مسؤولية ما يتعرض له القطاع وأهله، ويصب ذلك في خانة خلق الذرائع والمبررات لنتنياهو وتشكيل مظلة حماية وشبكة أمان لهذا الكيان وقياداته، لعدم مساءلتهم عن جرائمهم ومجازرهم التي أودت بألوف الشهداء والجرحى واليتامى والأرامل والمشردين من أهلنا في غزة. وتركي الفيصل وتوفيق عكاشة نموذجان.
على وقع العدوان الذي دخل أسبوعه الرابع، والفشل الذريع الذي مُني به نتنياهو وقادته بسائر منظوماتهم «الأخلاقية» والإعلامية والإستخبارية والعسكرية.
في المقابل، نرى أن الدول الإقليمية الحليفة للولايات المتحدة الأميركية والكيان الصهيوني، تشهد صراعاً محتدماً في ما بينها، إنما ليس حول الأولويات والمصالح الوطنية أو القومية للأمّة، فهذه الدول متورطة أساساً في ما تعانيه المنطقة ودولها من حوادث وحروب منذ أربع سنوات، من خلال التحريض على الاقتتال وتصدير الإرهاب بأدواته ومسمياته المختلفة وضخ السلاح والأموال، وهي ذاتها تعمل جاهدة اليوم على منح نتنياهو وعدوانه انتصارات ونجاحات في السياسة. هذا ما تؤكده الوقائع وما تسربه وسائل الإعلام المتعددة، بالإضافة إلى العديد من الكتّاب والصحافيين والإعلاميين الذين يؤكدون أنّ سياق العدوان واندفاع نتنياهو وحكومته إلى تنفيذ هذا العدوان لم يكن ليحصل لولا الاطمئنان غير المسبوق لدى الكيان وقياداته من ردود الأفعال لما ارتكبه من مجازر على مدار الساعة في حق الآمنين في غزة من أطفال ونساء ومسنين. وصرّح شمعون بيريز أمام مستشفى «سوروكا» في بئر السبع قائلاً: «هي الحرب الأولى التي تشنها «إسرائيل» وغالبية العرب معها». كذلك وجه شاؤول موفاز دعوة إلى السعودية والإمارات كي تضطلعا بدور لنزع سلاح المقاومة. وأضاف موفاز أن في إمكان السعودية والإمارات أن تلعبا دوراً مهماً في توفير التمويل اللازم لتنفيذ هذه الخطة. وأوردت صحيفة «يديعوت أحرونوت» العبرية في منتصف تموز الجاري أنباءً تفيد بنيّة «إسرائيل» طرح اقتراح في مجلس الأمن يقضي بتقديم 50 مليار دولار لإعمار غزة، مقابل التهدئة ونزع سلاح الفصائل الفلسطينية. ونقلت الصحيفة عن تلك مصادر حكومية قولها: «إن «إسرائيل» تريد الحصول على ضمانات دولية كتلك التي تمّ الاتفاق عليها في ملف نزع الأسلحة الكيميائية السورية».
حيال مشهدية العدوان على غزة، طفا على السطح الإقليمي صراع المحورين المتصادمين، فالسعودية ومصر والإمارات في جانب، وقطر وتركيا في جانب آخر، وكلا الجانبين عند الإدارة الأميركية، التي أوعزت لكليهما المسارعة في البحث عن مخرج للمأزق الذي أوقع نتنياهو نفسه فيه نتيجة العملية العسكرية التي شنها على قطاع غزة. ورغم حالة الولاء التي تبديها هذه الدول للولايات المتحدة، إلا أن كلا المحورين أراد توظيف ما يتعرض له قطاع غزة من عدوان بربري ومجازر مفتوحة في مواجهة بعضهما البعض على حساب الدماء الفلسطينية، على خلفية ما وقع في مصر من إسقاط نظام الرئيس محمد مرسي، بمعنى إسقاط نظام «الإخوان المسلمين». والمبادرة المصرية التي رفضتها المقاومة أتت في سياق قطع الطريق على المحور التركي- القطري، وبالتالي تحديد سقف أيّ تفاهمات سياسية تفضي إلى وقف العدوان والدخول في تهدئة مستدامة بمباركة أميركية. كذلك فعلت السلطة الفلسطينية. المؤكد أن «الإسرائيليين» ليسوا بعيدين عن وضع لمساتهم على هذه المبادرة التي سارع نتنياهو إلى الموافقة عليها، ما يعني أن نتنياهو يأخذ جانب المحور السعودي ـ المصري في عملية كسب أساسها العرض والطلب، ولا يعني في أي حال من الأحوال أن المحور التركي ـ القطري يأخذ في حسبانه شروط المقاومة ويتبناها. إذ كشفت الإذاعة العبرية النقاب عن وصول مبعوث تركي خاص إلى «إسرائيل» كمبعوث لرئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، للسير قدماً في مفاوضات وقف إطلاق النار في قطاع غزة. والاتصالات القطرية «الإسرائيلية» نشيطة في هذا السياق. بل على العكس، يتقاطع هذان المحوران، باستثناء مصر، عند مشتركات تتجلى ترجماتها العملية في ما تتعرض له الدولة السورية من محاولات لإسقاطها كنقطة ارتكاز استراتيجية في محور الممانعة والمقاومة الممتد من إيران إلى فلسطين مروراً بسورية ولبنان. وبالتالي فإن المحاولات البائسة لدول هذين المحورين في حرمان دول وقوى المقاومة والممانعة تمنع لعب دور مؤثر في مجريات ما يتم ترتيبه من خطوات وترتيبات سياسية كمحصّلة لانتهاء الحرب والعدوان على المقاومة وأهلها في قطاع غزة. ولقطع الطريق على هذه المحاولات ومنع الاستفراد بالمقاومة الفلسطينية، كانت كلمة السيد نصرالله وما حملتها من رسائل للقريب والبعيد بأنّ الحزب يراقب عن كثب تطورات العدوان. كذلك تصريحات الإمام الخامنئي الداعية إلى ردع العدوان وتسليح الشعب الفلسطيني، فضلاً عن الحركة الدبلوماسية الإيرانية النشيطة في أكثر من اتجاه. وليس بعيداً عن هذا السياق كانت كلمة أمين الجهاد الدكتور رمضان شلح، وقائد كتائب القسام المجاهد محمد الضيف، إذ أكدتا على أن المقاومة لن تخذل تضحيات أهلها وشعبها وهي تتمسك بشروط المقاومة قائلة للعدو إنّ المقاومة قادرة على مواصلة القتال الذي سينتهي لمصلحتها ومصلحة الشعب الفلسطيني. ولعل التصريحات التي أدلى بها اللواء قاسم سليماني قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني واعتبرها المراقبون بمثابة التحذير من محاولات إسقاط المقاومة الفلسطينية عبر المطالبة بسحب سلاحها، بتصريحاته عشية إعداد الولايات المتحدة وحلفائها شن عدوان واسع على سورية، حين قال إن كل جندي أميركي أو أجنبي يدخل سورية سيعود إلى بلده في تابوت.
إن الأيام أو الساعات المقبلة حاسمة، خاصة في الميدان الذي يميل لمصلحة المقاومة رغم قوة النيران وآلاف الغارات الجوية والقصف المدفعي البري والبحري المتواصل والمجازر المتواصلة التي تودي بحياة المزيد من الشهداء والجرحى على مدار الساعة. وهي حاسمة في ما يدبر للمقاومة من أفخاخ وأشراك سياسية تهدف إلى إسقاطها، وهناك من يطالب بـ1701 بنسخة فلسطينية. لكن يبقى الرهان دوماً على المقاومة في الميدان، وقد حسمت أمرها في التصدي للعدوان ومواصلة القتال حتى تحقيق النصر الذي يُبنى على نتائجه الكثير في المشهد الإقليمي.