عباس وأسلوب الحصار المالي الأرعن!
د. فايز رشيد
رئيس السلطة محمود عباس يستعمل أسلوباً بدائياً قديماً: الحصار المالي ضد كلّ من يطالب بمحاسبته على تصريحاته البعيدة عن الحقيقة، والتي تقع خارج إطار الزمن، والتاريخ والجغرافيا أيضاً. رئيس السلطة عندما يتباهى بإصداره الأوامر لمدير مخابراته بمنع عمليات المقاومة الطعن بالسكاكين في حالتنا الراهنة ، ويتباهى الأخير بمنع وإحباط ما ينوف عن 200 عملية ضد قوات الاحتلال الفاشي الصهيوني، تماماً كما التصريح ولمن؟ للتلفزيون الصهيوني، بأنه أصدر الأوامر بتفتيش حقائب طلبة المدارس بحثا عن السكاكين المطبخية، كما التنسيق الأمني، الذي يعتبره مقدساً، كما نهج المفاوضات كخيار استراتيجي وحيد يتبناه! رغم عبثيته ولا جدواه وعقمه، ورغم أن الاستيطان الصهيوني تجاوز نطاق أية إمكانية لقيام دولة فلسطينية! عباس، والحالة هذه، لا يرى أكثر من مسافة تمتد إلى أرنبة أنفه فقط لا غير.
آخر تقليعات رئيس السلطة، مسألة رعناء مارسها للمرة الألف، وهي الأمر بتوقيف مخصصات الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين من الصندوق القومي الفلسطيني، المقرّة من المجلس المركزي الفلسطيني واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية قبل أن يسمع أحد باسم الرئيس، الا بعد اعترافه وتفاخره بأنه الذي هندس اتفاقيات أوسلو المشؤومة سيئة الصيت والسمعة، والتي لم تجلب سوى الكوارث حتى اللحظة لمشروعنا الوطني ولقضيتنا ولحقوق شعبنا االفلسطيني. كانت هذه الحصة التي هي أصغر بكثير جدا مما تستحقه الجبهة من أموال التبرعات للفلسطينيين وليست من جيب عباس أو غيره، مقررة ومنذ زمن طويل، مثل كل باقي التنظيمات الأخرى، التي تأخذ أضعاف ما تأخذه الجبهة شهريا، لكن جرى اقتصارها على أقل من مئة ألف دولار شهرياً، برغم أن الجبهة الشعبية وكما تثبت الوقائع، هي الفصيل الثاني في منظمة التحرير الفلسطينية وباعتراف فصائلها كافة. السبب بالطبع مواقف الجبهة ضد تصريحات رئيس السلطة، الخارجة عن المشروع الوطني الفلسطيني والميثاق الوطني وقوانين واعراف منظمة التحرير.
الجبهة الشعبية معروفة تاريخياً بنظافة أيدي قادتها وكوادرها وأعضائها مالياً، وهي في المسلكية النضالية أقرب منها إلى الطهارة الثورية على شاكلة اليعاقبة الثوريين، ولم تضع في حسبانها يوماً رهن موقفها السياسي بفائدة تجنيها أو ثمن تدفعه أو ستدفعه، سواء أكان على الصعيد المالي أو على الأصعدة الأخرى، ولم ترتهن يوماً لنظام أو لدولة على مدى تاريخها. أما على الساحة الفلسطينية ومنذ الراحل جورج حبش أمينها العام الأسبق، مروراً بالشهيد أبو علي مصطفى أمينها العام الثاني، الذي دخل الأراضي الفلسطينية رافعاً شعار جئنا لنقاوم لا لنساوم وصولاً إلى الحاضر وأمينها العام أحمد سعدات المعتقل في السجون الصهيونية، والمحكوم بثلاثين عاما، إثر اختطافه ورفاقه من سجن أريحا التابع للسلطة وهي التي قامت باعتقاله أولاً رداً على العملية العسكرية التي قامت بها الجبهة وهي اغتيال العنصري الشوفيني الصهيوني رحبعام زائيفي رداً على اغتيال أمينها العام. يومها لم تقم السلطة بالدفاع عن سجن أريحا ولا عن معتقليها، ووقفت صاغرة أمام الهجوم الصهيوني على الرغم من ذلك فان الجبهة الشعبية ومنذ انطلاقتها تميزت بالانحياز الدائم والعنيد والراسخ للوحدة الوطنية الفلسطينية وناضلت من أجل تحقيقها ولا تزال. لقد قدمت أوراقاً ومقترحات كثيرة للخروج من مأزق الانقسام الفلسطيني الداخلي الراهن. هذا ما هو معروف عن الجبهة في الساحة الفلسطينية وخارجها. تمثلت ردود أفعال الجبهة في المنعطفات السياسية الخطرة والحرجة والمواقف التي كانت ترفضها ببعض الخطوات المختلفة التي لا تطال وحدة الساحة الفلسطينية.
حصار الجبهة الشعبية بالمال من قبل أبو مازن، لا يختلف بأي شكل من الأشكال، عن الحصار المفروض دولياً وإقليمياً على التنظيمات التي لا تزال ترفع شعار المقاومة، بتهمة اعتبارها إرهاباً ، ولذلك، فإن هذه التنظيمات أصبحت تعاني مادياً وبشكل قاسٍ نتيجة سياسة تجفيف مصادر ما يعتبرونه ارهابا . إنها ليست المرة الأولى التي تُحاصَر فيها الجبهة مادياً، فمن المعروف أن الجبهة وقفت ضد مباحثات مدريد وأعلنت موقفا رافضا لها، وهي فعليا مباحثات هيأت لأوسلو. لقد تزعمت الجبهة التيار الفلسطيني الرافض للاتفاقيات المشؤومة وجمّدت عضويتها في اللجنة التنفيذية، فما كان من الرئيس حينها سوى قطع حصتها المالية من منظمة التحرير بين الأعوام 1991 إلى 2000.
عانت الساحة الفلسطينية تاريخيا من الاستئثار والهيمنة من قبل الفصيل الواحد، ومن قبل القائد الأوحد على منظمة التحرير الفلسطينية المهيمن والمتحكم في قرارات هيئاتها والمؤسسات التابعة لها. هذه المظاهر المغالية في سلبيتها، تركت آثارها وتداعياتها في مختلف المناحي، وبخاصة المتمثلة في قرارات سياسية أقل ما يمكن أن يقال فيها إنها كانت كارثية على المشروع الوطني الفلسطيني، مثل اتفاقيات أوسلو، والمباحثات التي امتدّت لعقدين مع العدو الإسرائيلي، وها هي النتائج تثبت بما لا يقبل مجالاً للشك، التداعيات التدميرية الكبيرة للاتفاقيات والمباحثات على القضية الفلسطينية.
المهيمنون على الساحة الفلسطينية يريدون للوحدة الوطنية الفلسطينية أن تكون قميصاً يلبسونه عندما يريدون، ويخلعونه عندما لا يناسبهم، فالجبهة الشعبية، حتى وفقاً لتقييمهم، هي التنظيم الثاني في منظمة التحرير عندما يلزمهم العودة إلى المنظمة ومؤسساتها، ويحاصرونها بحصتها المالية في ميزانية المنظمة التي هي ملك لكل الفلسطينيين وفصائلهم في حالة اختلافها معهم. الجبهة الشعبية هي أكثر من يتمسك بالميثاق الوطني الفلسطيني، وهذه حقيقة يعرفها القاصي والداني أما الخارجون عن ميثاق المنظمة فأبرزهم السلطة ورئيسها وأركانه، ومن لا يستحق أخذ أموال من المنظمة بالطبع هم الخارجون عن ميثاقها وليس الملتزمين به. منذ تشكيل السلطة الفلسطينية وهي الواقعة فعلياً تحت الاحتلال جرى إهمال متعمد لمنظمة التحرير ومؤسساتها كافة، وظلت العودة إليها شعاراً ليس إلاّ يرفعه المهيمنون عليها، عندما تقع السلطة في ورطة سياسية. تنظيمات فلسطينية عديدة وعلى رأسها الجبهة الشعبية رفعت لواء الإصلاح في المنظمة ومؤسساتها، وتم توقيع أوراق على هذا الصعيد، لكن لا تتوفر الإرادة السياسية للمهيمنين عليها، لاعتباراتهم الخاصة، لبدء هذا الإصلاح، وبالتالي ظلّ الإصلاح وإعادة الاعتبار للمنظمة ومؤسساتها شعاراً فقط، لم يبدأ تطبيقه. لا يقتصر التفرد والهيمنة والاستئثار على الأموال وحدها في المنظمة، بل تتجاوزها إلى الوظائف كلها بلا استثناء في مؤسسات المنظمة. إننا لا نطالب فقط بالحصة المالية للجبهة فقط، ولكن أيضاً بتوزيع مالي جديد للحصص.