معنى الموت في قصص السوري جورج سالم

صالح الرزوق

صدرت مجموعة القصص الأولى لجورج سالم عام 1960 وهذا التاريخ علامة فارقة في منعطف الحداثة، لكنه لم يكن كاتباً حداثياً بالمعنى الشائع، والشكل السائل أو المرن الذي اتبع خطاه وليد إخلاصي وياسين رفاعية وغادة السمان لم يكن واضحاً في بواكيره. فقد التزم بمنهج بلزاكي يرسم فيه الشخصيات قبل المواقف والأحداث قبل الظروف.

ناهيك عن عنوان المجموعة، فقد أطلق عليها اسم «فقراء الناس» بينما اختارت غادة عنواناً شاعرياً هو «ليل الغرباء» واختار وليد إخلاصي عنواناً صادماً وهو «الطين». والفرق واضح بين المباشرة عند جورج سالم والإحالات الوجودية في أدبيات زملائه. ومع ذلك لم تكن طروحاته اجتماعية.

لقد تكلم من خلال الفقراء عن الشدة النفسية التي يعاني منها النمط، وهم أفراد الكتلة الاجتماعية، من غير أي عناية بشكل المجتمع أو طبيعته وطرق تطويره. والتزم بهذا الخط لاحقاً في كل قصصه التي تراوحت بين الكلام عن سقوط الطبيعة ومعاناة وشقاء الأفراد. ويمكنني أن أقول إن قصصه كلّها تختصر في موضوعين هما: الموت والعذاب.

وهذا يذكّرنا بالحالة فوق الوجودية لميتافيزيقا كافكا. فأبطال الكاتبين تبدو لي شديدة التماهي مع ظرف الخوف من ذنب أصلي، وإن كانت الشخصيات لا تقدّم وعياً محدّداً بهذا الذنب، فهي دائماً في حالة قلق وهروب، حتى أن العالم لدى كليهما يتحول غالباً إلى سرداب مظلم يتعين على الشخصيات المرور فيه. وإذا كان كافكا أشد وعياً بحقوقه المهدورة وهو ما يعبر عنه بمفردات قانونية مثل: «في حضرة القانون» أو «المحاكمة» أو «مستعمرة العقاب» وما شابه ذلك، فإن جورج سالم لا يعلم شيئاً عن حقه الطبيعي، بل إنه لا يستطيع التمييز بين ذنوب البشرية والأحمال الملقاة على كاهل ضميره الشخصي. وتجد الدليل على ذلك في مفردات تتكرر لديه مثل: الظمأ والمنفى والتصدعات والرحيل ليس بمعنى الموت ولكن الضياع في التيه واستلاب الروح ـ ذهولها وانفصالها مع صور لمشاهد تعبر عن الحرمان والسقوط واليأس ومنها: قطار يجري على القضبان ويجر وراءه غمامة دخان أسود، ومنها أيضاً محطات مهجورة أو أدغال يكتنفها الظلام، أضف إليها البوادي والصحارى. ونادراً ما تجد لديه صورة لنهر بمياه بلورية، وإذا توفر ذلك فقط ليكون إشارة إلى تيار الحياة الذي يجري من المنبع إلى المصب بشيء من التسليم بالقدر، فالمياه الجارية في كل قصصه تدل على اللامبالاة واللاأدرية والاستسلام ولا تعني بأي حال ديالكتيك الزمن، ويغلب لديه رسم صور المياه الراكدة كالبحيرات الصغيرة والمستنقعات. والاستثناء الوحيد تجده في أوائل أعماله وهي رواية «في المنفى» التي تبدأ من الضياع في قرية نائية وتنتهي بالصعود إلى السماء بطريقة إعجازية تشبه تماماً صعود المسيح. وحتى هذه اللمحة ذات المدلول الإيماني تفقد معناها إذا نظرنا إليها في سياق الرواية. فقد كان الصعود بمثابة هروب من شرط وجودي، أو احتجاج على الحالة.

ولا يمكن أن نقول إنها تضحية أو فداء، فخلاص الإنسانية هو آخر ما يفكر فيه جورج سالم، لأن شخصياته مثل المعاني عند الجاحظ، إنها موضوعات ملقاة على قارعة الطريق، وهي دائماً تبحث عن شكل لفلسفة شقائها الفردي، وهذا هو المفتاح الأول لحل ألغاز قصصه، فقد تطورت أفكاره بين أولى مجموعاته صدرت عام 1960 وحتى تاريخ وفاته 1977 من الرومنسية الواقعية إلى الرومنسية الوجودية. وهذا لا يعني أنه كان رومنسياً نموذجياً، فهو أبعد كتّاب جيله عن الاضطرابات العاطفية، إنه لم يبشر في أي لحظة بثورة على التابوات بطريقة جبران، ولم يقع في غرام حسناء فاتنة، ولم يستعمل ألفاظ العشق المكبوت، وانحصر اهتمامه بمعاناته وتهذيب نفسه. ودواعي التهذيب لديه تدل على استسلام النمط، حتى أن شخصياته تظهر وكأنها صور في مرايا متقابلة أو نسخ. ولها اسم واحد هو «سين» مثل «كاف» اسم أبطال كافكا. ولو أنه أبدى أي إشارة على التمرد سيكون تمرداً على بنيته النفسية. وبالمقارنة مع كاتب من جيله وليكن صدقي إسماعيل يمكن توضيح هذه الفكرة. فمجموعة «فقراء الناس» التي يهيمن عليها جو المقابر والموت تختلف تماماً عن «الله والفقر» لصدقي إسماعيل. ويمكن اختصار الفروقات في نقطتين:

ـ إن جورج سالم لا يربط بين سلوك الإنسان وموته وينظر لكليهما على أنهما عصاب أو لاشعور غامض ولا مندوحة عنهما.

ـ بينما يرى صدقي إسماعيل أن الفقر مفروض على الطبيعة من الإنسان. بمعنى أن الطبيعة هي الجانب الحيّ القابل للتطور في وجدان البشر وعقلهم، بينما الإنسان هو صناعة اجتماعية. فالمجتمع الذي يسلب من الطبيعة الإحساس بمعنى التحول وبمعنى توالي الفصول، هو الذي يضع الإنسان في مواجهة نفسه. ويعبر عن ذلك من خلال ازدواجية في شخصية بطل قصته وهو أسعد الوراق، فهذا الإنسان البسيط والمقهور يتكون من لاشعور معرفي ومن وعي لاشعوري. فقد ورد على لسان أسعد: أن الله لا يخلق الناس كي يذعنوا لما يقدره عليهم فحسب، بل إنه يفعل عن طريقهم أعمالا خارقة الأعمال الكاملة .

إنه في لحظات الحياة العادية يترك زمام أموره للإرادة العامة ولكنه حينما يدخل المنطقة العازلة بين فئات وشرائح المجتمع يختار مصيره، والاختيار يكون نيتشوياً. فهو يعدم كل الأطراف.

ـ ميتافيزيقا الذات الإلهية التي يختصرها في الإرادة.

ـ وميتافيزيقا الشرط الاجتماعي الذي يمقته كل المقت ويهرب منه. فقد كان يعيش خلال محطات حياته بين الخمارة والفرن وفي مغارة بين الجبال.

ـ وأخيراً ميتافيزيقا ذاته المجروحة.

إن أسعد الوراق لا يرتكب جريمة قتل الإله، وهو واحد من بدائل كثيرة عن معنى المجتمع البطريركي، ولكنه يقتل الروح التي هي سرّ إلهي. ويصرّح بذلك حينما يحمل بارودة الصيد ويطارد بها حيوانات الغابة. ويعتقد أنه بذلك يسترد شيئاً له، وهو الروح التي يفيض بها الله على المخلوقات.

وبهذا التفسير، يلغي الفرق بين العاقل وغير العاقل أو بين وعي الحضارة واللاشعور الاجتماعي. وهو يؤكد أنه حين يطلق الرصاص على عصفور يطير في الفضاء إنما ينفذ مشيئة الله الذي اختار له هذا المصير. أن يضعه في مجال نيران سلاح قاتل، وكأنه يريد أن يقول: إن هذا السلاح هو يد الله.

وعن هذا الموضوع يقول بالحرف الواحد: «لقد مات هذا العصفور لأن الله أنهى أجله، هذا لا شك فيه، ولكن من الذي نفذ إرادة الله؟».

وقد وقفت مثل هذه الفلسفة وراء اختيار مصيره الخاص حينما انتحر كي لا يقع بين أيدي رجال الضابطة أو الشرطة. لقد كان ينفذ إرادة الله الذي علمنا كيف نكون أحراراً. إن معنى الحرية عند صدقي إسماعيل تجريدي. وبالأخص أن الإنسان هو جزء من ذات الإله، وعندما يختار الموت لنفسه أو لغيره لا يكون مسؤولاً، ببساطة لأن الموت سبب وليس نتيجة. وهو أيضاً حياة إنما بلا صورة. فالذات لا يمكن أن تفنى ولكنها تعود إلى مصدرها الأساسي وهو الخالق. وعليه فإن انتحار أسعد الوراق يستهدف إنهاء سقوطه الوجودي في حفرة الفقر والإهمال، وليس إنهاء لفكرة رغباته التي لا تجد الظرف ولا الأسلوب المناسبين، وأعتقد أن جورج سالم يبدأ من هذه النتيجة، إنه يرسم صوراً عدّة لفكرة لا ثانٍ لها. وهي الإنسان الصغير المخطئ بطبعه، الذي لا يجد مخرجاً من حفرة الواقع والرذائل المصاحبة له. وعليه فإن الحداثة عند جورج سالم هي في اختيار علاقة الذات بالموضوع وليس بالشكل، أو بالأحرى مكان الذات من سياق التجربة العامة والشمولية لموضوع متكرّر، وهو غياب الوجدان عن صانعه.

ولو ألقيت نظرة على قصصه ستلاحظ أن الواقع ذاتي، وأنظار الكاتب تتركز على داخل التجربة وليس خارجها، وهذا هو المفصل المهم الذي يميزه عن أقرانه. ففي نماذجه الأولى كانت شخصياته تتحرك في فضاء مغلق كالبيت أو السرداب أو غرفة المكتب. ولاحقاً تحولت الطبيعة إلى لامتناه متشابه ومحدود. ويمكن أن نسميها بتحويل فرويدي بسيط باسم الأبدية أو نهاية الدهر، إن كان للدهر نهاية كما ورد في قصة «القطار».

بتعبير آخر كان الفضاء الطبيعي مغلقاً بدلالة تشابهه. ليس بينه تخوم ولا يحمل أي تضاريس أو علامات فارقة. ويمكنك بكل بساطة أن تجد أنه تيه نفسي يتجسد بصورة سماء زرقاء أو صحراء مترامية الأطراف أو غابة. وهو دائماً مدفون داخل أسوار هذه الطبيعة. وأكاد أجزم أنه مثل جيل دولوز ينظر إلى الموت على أنه ولادة ميتافيزيقية. فهو سقوط من المهد «رحم الأم» ودخول في متاهات الواقع الغامض الذي لا نمتلك دليلاً على أنه حقيقي أو موجود إلا من خلال شعورنا به.

لقد كانت الحياة بالنسبة إلى جورج سالم مجرد حاجز نواجهه طوال الوقت. وهذه الفكرة واضحة في قصته المشهورة «أمام الجدار» الرحيل التي تذكرنا بقصة «الجدار» لسارتر. لكن إذا كان سارتر ينظر إلى الأخلاق على أنها مجرد خوف من شرط الحرية، وهذه مأساة تزيد من وعينا برهبة الموت، فإن وعي جورج سالم بالمأساة يتكون من إدراكه لشرط الوعي بالمعرفة والمجتمع، حتى أن البيت الذي يسكن إليه المرء ليس إلا القبر الذي يتمدد فيه، كما ورد في نهاية قصته الطريفة «منزل في ظاهر البلدة». فالبيوت في خاتمة القصة تأخذ شكل منازل صامتة تملأ المدى والأفق كأنها غيمات صغيرة بيض ملتصقة بالسماء.

والتجاور المجازي بين البيوت والمنازل له تفسير واحد، أننا نحيا في قبور. حتى أن بطل القصة في السطور الأخيرة يهبط إلى بيته ويشعر بسقف من التراب ينهال عليه. ولا يبقى أمامه حل إلا بقوة الانفصال أو الاحتفاظ بمسافة بين ذاته ووعيه بها.

يقول له العراف في قصة «أمام الجدار»: «هذا الجدار سيظل ههنا ما دمت قربه». حوار الصم . و أعتقد أن العبارة تنطوي على فكرة جوهرية.. أن الموت معنا دائماً وإنما يمكن تأجيل إدراكنا له. وهو ما يوحي به قول آخر ينسبه الراوي للعراف حين يقول: «إن البداية في متناول أيدينا دائماً».

وربما يشير بذلك إلى مرحلة ما قبل نضوج الوعي واكتمال معرفة الإنسان بمصيره، حينما تكون الولادة أول حدث مزيف في سلسلة من الأفعال الوهمية التي تسبق الحقيقة وهي الموت.

كاتب سوري

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى