قيادات ونُخب وتصريحات بائسة ومُيَئِّسة!
رامز مصطفى
قدرُ الشعب الفلسطيني أنه اختير من بين شعوب العالم حتى يُمتحن بسيل من التصريحات والتطمينات المجانية العبثية التي تطلقها قياداته وبعض من نخبه بين الحين والآخر. والمؤسف أنّ أغلبها ومعظمها يأتي على حساب عناوين قضيته الوطنية، في قفزٍ مُتعمّد على تضحياته وآماله وتطلعاته. والغريب أنّ تصريحات قياداته وما يتفتق به عقل بعض تلك النخب تزاحمت على وقع الانتفاضة، وكأنّ الهدف من ورائها رسالة لجمهور الانتفاضة من شباب وشابات وفتيان وفتيات، أن لا أمل يُرتجى من انتفاضتكم وتضحياتكم، والمطلوب مغادرة الساحات والميادين والعودة الفورية إلى منازلكم، والتسليم بأنّ الاحتلال قدركم المحتوم، وعليكم التعايش معه في ظلّ قوانينه العنصرية.
قبل أيام، وفي مقابلة على القناة الثانية العبرية، استرسل رئيس السلطة السيد أبو مازن في تصريحاته وتطميناته للاحتلال وحكومة نتنياهو، بأنّ الأجهزة الأمنية وبأوامر مباشرة منه، تبذل قصارى جهودها من أجل الحدّ من أعمال الانتفاضة والتضييق عليها، عبر الإجازة لهذه الأجهزة الدخول إلى حرم المدارس والقيام بعمليات التفتيش عن السكاكين والأدوات الحادّة التي قد يحملها التلاميذ في حقائبهم.
هذا ما صرّح به رئيس السلطة إلى القناة الثانية العبرية، وتأكيده أنّ أجهزته قد تمكّنت من مصادرة سبعين سكيناً كانت بحوزة هؤلاء التلاميذ. وتابع في تأكيده على استمرار التنسيق الأمني مع «إسرائيل»، التي انتقدها بتجاهل التنسيق الأمني مع أجهزة السلطة باعتبار أنّ «البديل سيكون الفوضى ووصول مسلحين من الخارج». بل تعداه إلى ما أبداه السيد أبو مازن من استعداد للقاء نتنياهو بقوله إنه يرغب في «إجراء مفاوضات من أجل إحياء عملية السلام. وأنني قادر في جلسة واحدة مع نتنياهو على حلّ جميع الخلافات، خاصة أنّ الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي يرغبان بذلك».
هذه التصريحات لم تأت بنت لحظتها، بل تأتي في سياق ما كشفه مراسل صحيفة «هآرتس» العبرية باراك رابيد عن أنّ المفاوضات الأمنية التي انطلقت قبل حوالي ثلاثة أسابيع بين مفاوضين فلسطينيين و»إسرائيليين»، تشهد تقدّماً ملحوظاً حول ما سمّي تقليص الوجود العسكري للاحتلال في المنطقة أ مقابل وقف للانتفاضة.
وما يؤكد صحة معلومات الصحيفة العبرية أنّ رئيس السلطة وخلال مقابلته مع القناة الثانية في التلفزيون «الإسرائيلي» قد قال: «ليسحب نتنياهو قواته من المنطقة أ بشكل كامل، مع وقف الاقتحامات، وأنا أتعهّد باستتباب الأمن».
عبثية هي هذه التصريحات التي يطلقها رئيس السلطة، التي لا تخدم حتى رؤيته القائمة على تمسكه بالمفاوضات خياراً أوحد، لأنّ نتنياهو لا يريد إعطاءه شيئاً، لا الدفعة الرابعة من أسرى ما قبل أوسلو ثمناً لاستئناف المفاوضات، فكيف بوقف التهويد والاستيطان والاعتقالات والاغتيالات، أو حلّ الدولتين، الذي انقلب عليه رئيس جامعة القدس الفلسطينية، البروفسور والمفكر سري نسيبة في تصريح لافت ومُدان في الشكل والمضمون، مؤكداً فيه أنّ «الخيار الأردني هو المهرب الوحيد للفلسطينيين، ونحن نشكل بالنسبة إلى الأردن عنصر قلق، وهذا يدعوها للتفكير ملياً للإقدام على هذا الخيار، وأنا عارضت سابقاً هذا الخيار بشدة ولكن بعد سنوات، والآن بالتحديد أنا ونحن أحوج ما نكون لهذا الخيار. ولكن الأردن ربما لا يزال غير قادر على حمل عبئنا لا سيما في ظلّ ما يشهده الأردن والوطن العربي من تشنّجات أمنية»، معلّلاً تراجعه عن وثيقة كان قد تقدّم بها قبل 14 عاماً، مع عامي أيالون من حزب «العمل»، لحلّ ما أسماه «الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي»، ، لأسباب قال عنها: «لا توجد لدينا بدائل للخروج من هذا النسق، لأنه لا يوجد لدينا جيش لتحرير فلسطين، ولا حتى نصف فلسطين. والاستراتيجية على الدوام تستند إلى قوة، ونحن لسنا أقوياء خاصة في ظلّ ما يجري في الدول العربية والإسلامية من صراعات وهذا لا يسندنا استراتيجياً. وأنه يجب علينا أن نقرأ الواقع ونستقرئ المستقبل، وإذا ما فعلنا ذلك نرى أنه لا يوجد حلّ مُرض للشعب الفلسطيني». كلام سري نسيبة جاء في مقابلة مع موقع «دنيا الوطن» الالكتروني.
هذا التفنّن في إطلاق التصريحات التي ترتقي إلى مبادرات من قبل السلطة بأركانها ورئيسها، وبعض النُخب من نسق سري نسيبة، إنما تُدلل على أنّ المناعة المستندة إلى الإرادة الوطنية للأسف تلاشت بشكل كبير ومخيف، وهي تعبير صارخ عن مستوى العجز الذي وصلت إليه قيادات ونخب ليس في مقدورها إلاّ تقديم العروض التي تساعد الاحتلال على التمادي والإيغال عميقاً في الجسد الفلسطيني أرضاً وحجراً ومقدسات، وجعلت من نفسها وسيطاً بين المواطن الفلسطيني وقوات الاحتلال، بحسب ما عبّر عنه القائد الوطني مروان البرغوثي، حين كتب من سجنه قائلاً: «القيادة الرسمية حوّلت السلطة الفلسطينية من قيادة حركة تحرّر وطني إلى وسيط بين المواطن والاحتلال الإسرائيلي».