إلى أولاد أحمد مغتبطاً في أبديته

منصف الوهايبي

الآن، وقد رحل محمد الصغير، هكذا كنت أناديه. وكان يضحك ويقول لي: «أنت تناديني بِاسمي، كما كانت أمّي تفعل. الآخرون كلّهم ينادونني أولاد أحمد حتّى زهور زوجتي». الآن، أقول هو شاعر شجن معقود على نفسه حتى الضنى، ولغة لا تتحالف إلا مع نفسها، ولكنها تأخذ من الأشياء وتتورّط فيها، ولا تميز بين «الأنا» والـ«هو» في تراسل أو تجاوب بين العالم والذات، بين الداخل والخارج كما لو أنّ كلّ الأشياء تتلاقى فيه. ربما هي طريقة في أن نَرى، في الآن ذاته الذي نُرى فيه. شاعر يلحِم ُبالكلمات جرحاً لا يندمل، واعياً أن الشعر تعويض عمّا لا يمكن تعويضه.

وأظن أن في هذا الشعر ما يمنحنا نعمة الكشف والانبعاث. هو لا يتنبّأ، إنما يرصد تلك التحوّلات الغامضة في الحاضر، حيث يتشكل المستقبل، ويتمهّد الطريق إلى حقيقة وراء المرايا.

كتب إلي صديقي الشاعر الفرنسي جون كلود فيلان يعزّيني في أولاد أحمد: «أجل أنت تؤدّي جيداً عن هذه الحركة المستمرّة ذهاباً وإياباً، التي هي أشبه بمفصل في نابض تسمح بفتح باب في الاتجاهين، بين التجربة والخلق، بين الشعر والحياة. وعند الصغير، يلوح هذا قوياً بدَهِياً مذهلاً. لكن أليس كلّ شاعر حقّ يفعل ذلك؟ ثم هناك الآخرون: المتصنّعون النفّاجون هواة الكلمات المتقاطعة. كان رمبو قد فضحهم، وهو الذي كان يريد تغيير الحياة بعبارته. وكانت هذه الصيغة الحياة التي أفكّر فيها كلّ يوم تناسبه تماماً».

مدار نصّ أولاد أحمد أكان شعراً أم نثراً على «لعبة الضمائر»، من حيث عناصر صوتية تتّخذ صيغاً كثيرة التفرّع، لها بعض الاستقلال، بحيث يمكن أن نعتبرها كلمات متميزة، ما دام لها معنى متميز. وعوامل الصيغة التي تتميز بأصوات يسبغ عليها استقلالها الصوتي قيمة ذاتية لها، علاوة على وظيفتها في بناء الجملة أو الكلمة، معنى محسوس. الجملة الشعرية وحدها هي الحقيقة المحسوسة عنده. ولكنّها حقيقة خاطفة عابرة إذ إنها بحكم طبيعتها لا تتكرّر على النسق نفسه.

ذلك أنه يُفيد من المخزون الثقافي والذاكرة الجمعية، ويعرف في مواضع غير قليلة، كيف يتصرّف بالمفردات والمعاني «العامية». لكن ليس من شأن ذلك أن يسوق إلى القول بـ«واقعية» الشاعر، أو أن يجعل العامي قرين الواقعي.

قد تبدو لغته أقلّ «صفاء» ممّا يقع في الظن خصوصاً أنه لا يتردّد في استجلاب القاصي والدّاني من الكلام، كأن يقحم في التركيب كلمة مألوفة وكلمة شعبية وكلمة مستهجنة ليستخلص منها أثراً من واقعية غير متوقّعة. لغةٌ مليئة بأشياء الحياة اليومية، تجري في عربية حية مثل «اللحمة الحية» لا تلوي عليها حبال الاستعارات وأورام البلاغة. وهي تبعث في القارئ وهماً جميلاً بأنّ اللغة نفسها قد اختفت، وليس من وسيط بين العالم والشعور وكأنّ الأشياء والكائنات في نصّه، ليست كلمات فهي تفصح عن مكنوناتها دونما حاجة إلى اللغة.

والحقّ أنّ «التهجين» اللغوي في نصّه لا يخفى. على أنّ الكلمة «العامية» فيه تحرف مجراها، وتُستفرغ من مدلولها، بل أنّ المعنى في سياق هذا الشعر ليس «الواقعي» وإنما هو «الموقف» بامتياز، وأولاد أحمد شاعر مواقف بامتياز.

كان يطلب هذا الموقف أو ذاك، ولا يبالي باللفظ حتّى لو تمّ له المعنى بلفظة عامية أو أجنبية لأتى بها. يقول أولاد أحمد في نصّه الذي كتبه بعد انتحار البوعزيزي بأسبوعين، وقبل فرار بن علي بأسبوعين: «آنَ لي أنْ أخْتارَ ما بين موْطني ووَطَني، آنَ لي أن أضعَ دماءَ الشابِ المحروق، والآخرِ المنتحر، والثالثِ المجروح، والرابعِ المصعوق، والخامس المقتول، على قمصانِ رجال الحكومة حتى تدْفعَهم الخيلاءُ إلى الاعتقاد بأن قُمصانَهم هي أعلامُ تونس ذاتها، وأن بُقعَ الدمِ الحمراءِ التي تُزينُها ما هي إلا نوع منَ الابتكار والديزاين في معرض اللباس التنكّري الطويل هذا أشرع، للتوّ، في الاختيار تاركاً لحرّاس الوطنية حقّ النباح وفضائلَ التكسّب من المدح المنثور على شاشات التلفزيون الرسمي الذي يسوؤهُ ألا تكونَ التلفزات الأجنبية على شاكلتهِ. أنحاز إلى موطني لأنّ لي فيه قبراً محفوراً، وأغضب على وطني لأنّ جنازتي طالت بين شوارعه وأزقّته من دون أن تنقلب إلى حياةٍ ولو لبرهةٍ من الزمن. وليتها كانت جنازتي لوحدي: إنها جنازة الآلاف من الرجال والنساء والشباب الذين لم يشاهدوا الدولةَ بالعين المجرّدة إلا في استعراضاتها المخزية.

لقد علّمتنا التجاربُ، طيلة السنوات الخمسين الفائتة، أن هؤلاء لا يكفّرون عن ذنوبهم إلا بمزيد الإكثار منها والتنويعِ عليها في محاولة مكشوفةٍ للإغارةِ على المستقبل بعد أن تمكّنوا من مصادرة الحاضر والماضي. بعد أن ألجَموا المثقفينَ والأحرار والمعارضين المدنيين، واشتروا المتزلّفين والصحافيين والمغنين والرياضيين، وصنعوا معارضةً تكادُ تكون أكثر ولاءً من شيعتهم، ها هُم يقلعون أشجار الصنوبر والزيتون والكلتوس… ويفصّلون من أغصانها عصيّاً غليظةً ينهالون بها على رؤوس العاطلين المتعلّمين وظهور الفقراء المساكين…».

أولاد أحمد نصّ تروي فيه لغته سيرتها، وتؤرّخ لتدرّج اكتسابه ملكة اللغة وتناضج قدرته على الكلام. إنّ التجربة الشعرية عند صديقنا الباقي لا تنفصل عن تجربة الحياة، وما نعدّه شعراً، إنّما هو تحويل شكل لغوي إلى شكل من أشكال الحياة، وتحويل شكل من أشكال الحياة إلى شكل لغوي. قلت له مرة: أنت شاعر في نثرك، وناثر في شعرك. ولقد تقبّل منّي ذلك بمحبّة.

كتبتُ لأولاد أحمد، وهو في المستشفى: هناك كلمات لها عطْر الضوء.. ولنا منها ذكرى لطخات الحبرعلى الأبواب… في حزيران… عندما تكون العطلة الصيفية قد هلّت شمسها… وبدأ الأزرق يلمّ على مهل شمْل سطوح المنازل… ونحن نتهيأ لنركض حفاة تحت سقف من ريش النوارس… ومن هذه الكلمات كلمات أولاد أحمد: الأب «محمد الصغيّر» أو البنت الجميلة «كلمات.. ليكُن… أخي وحبيبي «الصغيّر»… هذا مرض قلت أنت بلغتك الشعرية الساخرة «إنّه أميّ… لا يعرف القراءة»… وأضيف أنا: «مرض لا يحسن الكتابة أيضاً»… ولكنّك يجب أن تنتصر عليه، لأنّنا لا نزال نحتاج إلى قلمك… هذا لسان بصرنا التونسي. وهذه قصيدة كنت نشرتها أوّل ما نشرتها في كتابي الشعري الصادر في بيروت عام 2007 «كتاب العصا»، وها أنا أهديها لك. وقد سبق أن أهديتك بعض قصائدي في كتابي «ميتافيزيقا وردة الرمل». سلاماً للضوء الذي ينبثق في تويجات اسمك.. يا أخي… يا محمّد الصغيّر.

إلى محمّد الصغيّر

في ضباب من الضوءِ حيث الهواء

يتلابس والظلّ، قال الكتابة يلزمها كلماتٌ مفاتيحُ لكنّها لم تدر قطّ

في قفل قافية من قوافي امرئ القيس والمتنبّي

الكتابة لا تفتح الباب إلا لتغلقه،

ولذا كان لا بدّ أن يتبقّى لنا في الأصابع، من عضّة الباب، أبيضُ جرح،

وفي الكلمات، دمُ الكلمات

الكتابة تحتاج منّا إلى كلماتٍ أصابع، تحتفر الأرض،

توقظ أعمى الحجارة،

حتّى إذا نهض البيت فوق رؤوس الأصابع،

قلنا: إذن كان لا بدّ للبيت بيت القصيد

من يد حرّةٍ، كان لا بدّ… كي نتوحّد نحن وهذا النشيد

الكتابة يلزمها ـ لتكون ـ لسانٌ كحية آدم مزدوجٌ، فتقول بنا ونقول بها

الكتابة مثلي ومثلك

تحمل أمواتها في ثنايا الكلام

والكلام لهم هؤلاء الذين ينامون في نومنا

حيث نحن ننام

في منازلنا أو على مقعد في الحديقة،

أو في رخيص الفنادق،

مثلي ومثلك،

في حلمنا يحلمون

الكتابة ليست سوى رمية النّرد،

حيث السماء

تتزلّج في الأرض، والصوت يشرد من كلمات لنا ولهم

تتدحرج مثل «البولينغ»… تصلّ صليل حصان أبي الطيّب المتنبّي

وقد حجبت شمس شيراز عنه منازله في الشآم

الكتابة ألواح سومر تطبخ في النار،

حزّة أقلامهم وهي تحرث أصواتنا البائدة

الكتابة آخر ما ينشد الجاهلي الأخير

الكتابة آخر ما يتنزّل في سورة المائدة

في الوداع الأخير

الكتابة مثل الفراشة وهي تحاكي لحاء البتولة،

مثل الفراشة أيقونة بجناحين،

لكنّها لا تطير

الكتابة مثلي ومثلك، مرجأة أبداً

بين مدّ الحضور ومدّ الغياب

غير أنّ الكتاب الذي أنت تكتبه

بأصابع مبتورةٍ،

ليس إلا كتابك بعد الأخير

لا مدادَ له… إنّما سِيرُ جلد يلفّ على قلم كالعصا،

وحروف تُضمّ إلى بعضها مثل الوعول

عند منحدر الغاب، إذ تتشمّم

رائحة المطر الاستوائي يقرع بلّوطه كالطبول

دُقّ في السِير زُرقَ مسامير لحمك

كي يتماسك… غيّر يديك

وخُطّ عليه سوانح من فرحةٍ،

هي أقصر من رمية النرد في رقعة من ذهول

ثمّ سُلّ المسامير

قل: هل ترى غير نمنمةٍ،

ونقاطٍ مبعثرة في البياض؟

ـ إذن كيف نقرؤه؟

قال: هذا كتاب العصا

أو كتاب الرمال

والقراءة تبدأ يا صاحبي من دون أن تنتهي

حين نطوي الكتاب!

شاعر تونسي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى