عندما غادرتُ مدينتي… حلب!
تُغلقُ باب بيتك مودّعاً كل ذكرياتك وبصمات عمرك. تصعدُ إلى السيارة المحمّلة بحقائب السنين لتقلّك خارج بلدك، فينتابك وللمرّة الأولى في حياتك شعور الموت وأنت على قيد الحياة. كل كلمات العالم وكل حروف اللغة لن تكفيك في التعبير عن شعورك المميت.
في السيارة، تفاجئك الشوارع التي لم تزرها منذ زمن بعيد بحكم وجودها على خطّ النار. فعلى أطرافها ترى الموت المخيّم ملتصقاً بأبنيتها المدمَّرة التي هجرتها الحياة منذ ثلاث سنوات وهجرها أصحابها إما موتاً أو رحيلاً.
دمعةُ تسقط منك، تحاول أن تمسحها من دون أن يلاحظها أحد. أشعة الشمس المنسابة تكون حجّة لك لتضع على عينيك نظارتك الشمسية فتخفي دموعاً ازدحمت في المآقي وبدأت تنساب بهدوء حزين.
بينما أنت سارحُ تودّع هواء بلدك المختلط برائحة البارود والموت، تتوقف السيارة فجأة أمام الحاجز الأول الذي تصادفه. جنودُ من الجيش يقفون هناك مبتسمين، تسأل بينك وبين نفسك: لماذا الابتسامة، فلا شيء يدعو إليها. يسألونك عن هويتك وعن المكان الذي تقصده، لتجيبهم أو يجيبهم السائق اسم المدينة أي مدينة حتى إن كانت كذباً فهم في النهاية لا يهمّهم سوى المحافظة على الأمن وأيضاً المحافظة على جيوبهم ممتلئة ببضع ليرات يأخذونها بكلّ جرأة وهدوء، ما يجعلك تتساءل هل هذا من حقهم؟ أو أنهم وبتصرّفهم هذا، يهينون بزّة الجيش المقدّسة التي يرتدونها؟ أسئلتك ترتطم بحاجز آخر… ثمّ آخر هنا وهناك، ما يجعلك تعطف على البعض و تغضب من آخرين. فلا أحد يعرف ما يجابهه هؤلاء الرجال كلّ يوم. ماذا يفكرون وكيف يتحملون كل هذا الضغط الكبير وهم يجابهون الموت كل يوم؟ ومع ذلك، أن يطلب عناصر الحاجز منك مالاً ليدعوك تعبر، فهذا يعتبر برأيي إهانة فعلية لهذه البزّة المقدّسة.
وتمضي الساعات وأنت على الطريق، والحواجز التي لا تنتهي من جيش وجمارك وشرطة مرور، وقرى هجرها سكانها مدمّرة. لا شيء فيها سوى رائحة الموت.
أخيراً، تصل إلى الحدود، يرفرف العلم السوري على مدخلها، وتحت ظلاله يقف صفّ طويل من السيارات كلٌ في انتظار الدور لتصديق الأوراق والتفتيش. طبعاً لا بدّ من الوساطة ودفع الأموال لتعبر قبل غيرك فتصبح في بداية الرتل، كأمور كثيرة تحدث في المجالات كلّها وفي البلدان كافة.
بينما السائق يوقّع الأوراق هنا وهناك، ترتطم نظرتك ببيان معلّق على الحائط كتب فيه ما هو مسموح وما هو غير مسموح لإخراجه خارج سورية. وبينما أنت تقرأ، تبتسم من دون أن تعرف إذا كنت تبتسم لأن ما تقرأه يدعو الى الابتسام أم إلى الاستهزاء، لتُفاجأ بالبند الذي يقول:
«لا يحق لك كمواطن سوريّ أن تخرج من سورية وأنت تحمل أكثر من عشرة آلاف ليرة سورية وخمسمئة دولار أميركي فقط»!
تتأمل العبارة وتسأل نفسك عن ذلك المسؤول الذي وضعها، فكيف ـ بحقّ الله ـ يستطيع أي انسان محترم أن يسافر إلى خارج سورية وفي جيبه هذا المبلغ الزهيد؟ كيف يستطيع أيّ إنسان طبيعي أن يسافر إلى لبنان ـ أغلى بلد في العالم ـ وفي جيبه بضعة آلاف؟ من يصدق من؟ ولماذا توضع هذه البنود السخيفة التي وللأسف يدلّ وضعنا المزري اليوم على أننا نلعب اللعبة على أنفسنا ونصدّقها.
المهم في الأمر، أن رجل الأمن سألنا عمّا نحمل من مبالغ لأجيبه: كلٌّ منّا يحمل عشرة آلاف ليرة سورية. فضحك وقال لنا: «حفظانين الدرس». كنت أريد أن أجيبه، لكنني أغلقت فمي، فما الذي سأستفيد منه إن قلت له ما يجول في خاطري؟
ودّعت ذرّة الهواء السورية الأخيرة ونحن نغادر الحدود متجهين إلى الحدود مع لبنان، واذ تتراءى لك أرتال من السيارات تنتظر دورها. وهنا، إن لم تكن تحمل في يدك بطاقة سفر أو ورقة تتضمّن موعداً مع سفارة أو وساطة مهمة جداً، فأنت ستنتظر ساعات وساعات، لتسأل نفسك كيف أوصلنا نأيهم بأنفسهم إلى أن نصبح، نحن السوريين الشرفاء، موضع شك، في حين هم قد أدخلوا في بداية الحرب أشكالاً وألواناً من الناس، نحن كسوريين نشكّ في سوريتهم وانتمائهم؟
لعبة الحدود الجديدة تجعلك تشكّ في كل شيء حولك. مئات الأسئلة في رأسك وأنت تتذكر أحلام أنطون سعاده في سورية الكبرى.
وجدتُني أقف أمام كوخ صغير أمامه رجلان من الأمن، نظر إليّ أحدهما وأسمعني السؤال الموجّه إلى جميع المسافرين: «لماذا تسافرين إلى لبنان؟».
وجدتُني أتأمله مبتسمةً، وأنا أقول بسخرية لم يلحظها في كلمتي: «سياحة»!
نظر إليً وقال متفاجئاً: «سياحة… معقول؟».
ابتسمت وقلت له: أريد أن أرى النقيب».
ابتسم بدوره وهو يسمع الاسم وسمح لي بالدخول إلى الأراضي اللبنانية.
دخلت إلى لبنان ببطاقة هوية والدتي اللبنانية ووثيقة وفاتها. ها هي أمّي، ملاكي الحارس، تساعدني حتى في موتها. شكرتها بيني وبين نفسي، وتابعنا المسير إلى بيروت، لتبدأ الرحلة إلى المجهول.
فيليبا صرّاف