الضابطان جوزف نعمة ومسعود لطيف

بقلم الرفيق فريد صباغ

كان الرفيق فريد صباغ 1 نشر مقالاً في المؤلف الصادر عن النقيب المؤرّخ جوزف نعمة، ننشره أدناه للفائدة التاريخية.

وتشاء الصدف أن ألتقي بعد ما يزيد على الثلاثين سنة بالرفيق جوزف شكر الذي عرفته جيداً في خمسينات وستينات القرن الماضي، عندما عملت في بنكو دي روما، وعمل الرفيق جوزف في بنك التوفير، لأعلم أنه اقترن من الفاضلة ابنة النقيبب جوزف نعمة وشقيقة العميد أدونيس نعمة فيقدّم لي مشكوراً عدداً من مؤلفات النقيب المؤرّخ.

وهذه هي كلمة الرفيق صباغ:

« لما وصل الزعيم أنطون سعاده الى لبنان يوم 2 آذار 1947 ألقى خطاباً شهيراً في حفل استقباله كان مدعاة لإصدار مذكرة توقيف بحقه من جانب القضاء اللبناني. وفي صيف ذلك العام كان موعد إجراء الانتخابات النيابية في الكيانين اللبناني والشامي، وبما أنّ الحزب السوري القومي الاجتماعي يملك إمكانات انتخابية كبرى لا يستهان بها فقد كان جميع المرشحين بحاجة ماسة الى الاتصال بالإدارة الحزبية ومقابلة حضرة الزعيم للبحث معه بشأن الانتخابات والحصول على تأييد الحزب لهم في المعركة.

« وكان الزعيم، في تلك الأثناء، متخذاً مقراً له في بلدته ضهور الشوير، فأصبحت هذه البلدة مرجعاً للمرشحين وأكثريتهم من الوزراء والنواب، إذ إنّ مقابلة الزعيم لا غنى عنها للفوز بتأييده. وتجاه هذا الوضع لم يعد من الممكن أن يتوارى الزعيم عن الأنظار، بل أصبح ظهوره واجباً، فكان أن اضطررنا لإنشاء فرقة من الحرس المسلح لحمايته وضمان سلامته، وهذا ما حصل.

« وكان وزير الداخلية في ذلك الحين الأستاذ كميل شمعون، فاغتاظ من هذا الوضع وهو المسؤول عن تنفيذ مذكرة التوقيف، وأصدر أمراً صارماً بإلقاء القبض على أنطون سعاده مهما كانت الظروف، والإتيان به حيّاً أو ميتاً، وقد عُمّم هذا الأمر بواسطة الإذاعات والصحف وكُلّفت قوى الأمن الداخلي تنفيذه.

« وصل الأمر الى آمر سرية المتن، الضابط الحكيم الجريء جوزف نعمة، ثم وصل بالتسلسل الى مخفر بكفيا. في ذلك الحين كان الضابط مسعود لطيف الذي لا يقلّ حكمة وجرأة عن زميله آمر السرية جوزف نعمة.

ولما تسلّم هذان الضابطان هذا الأمر الخطير ساورتهما الحيرة وراحا يتساءلان ماذا فعل أنطون سعاده كي يُتخذ بحقه مثل هذا التدبير؟ فاتصلا ببعضهما واجتمعا لبحث الموضوع، ودرسا قضية الزعيم أنطون سعاده من الناحية الجرمية من جميع النواحي، فلم يجدا مأخذاً عدلياً يستوجب هذا الإجراء، وتأكدا مئة بالمئة من أنّ القضية سياسية بحتة، إذ إنه ألقى خطاباً أبدى فيه آراءه وأعلن مبادئه، ومثل هذا العمل لا يستوجب إجراءً خطيراً من مثل المجيء بالشخص حيّاً أو ميتاً.

وقرّرا، بنتيجة اجتماعهما، استدعاء المسؤول الحزبي في المتن ومقابلته في أحراج ضهور الشوير لبحث الموضوع معه، وقد قيل لهما إنّ هذا المسؤول الحزبي هو فريد الصباغ، أيّ كاتب هذه السطور. وبطريقة ما حصلت المقابلة ما بيني وبينهما على تلّة برج دحدوح… حيث أطلعاني على الإجراء المتّخذ باختصار، وطلبا مني، إذا كان ذلك بالإمكان، تخفيف المظاهر المسلحة حول مقرّ الزعيم. فأجبتهما بأنّ ذلك غير ممكن… إذ لا يمكن منع المقابلات مع الزعيم وإلغاء اتصالاته في هذا الظرف الانتخابي، ملاحظاً أنّ المتصلين به هم من الحكام أنفسهم وسائر المرشحين للانتخابات. وقد أطلعتهما على حدث حاصل في تلك اللحظة إذ قلت لهما: «أتعلمان من هم الأشخاص الموجودون الآن في مقابلة مع حضرة الزعيم في منزلي بالذات عندما طلبتماني للاجتماع بكما؟ انهم الرئيس حسين العويني، وفيليب تقلا، وإميل لحود وبهيج تقي الدين. انهم جميعهم الآن مجتمعون مع حضرة الزعيم، ولا يمكننا على الإطلاق أن نرفض طلباتهم. أنّ ذلك يجري منذ أسبوعين دون حصول أي إخلال بالأمن، وبلدتنا الشوير، والمنطقة كلها، بألف خير… وأنتما الساهران على أمنها، فلماذا هذا الخوف وتكثيف الملاحقة؟ ليطمئن معالي وزير الداخلية ويخفف من لهجته، فالأمن والهدوء سائدان عندنا». وانتهى اجتماعنا بالتفاهم التامّ في ما بيننا، وحمّلني الضابطان تحياتهما لحضرة الزعيم.

ولكن.. عندما وجدت القيادة الأمنية العليا أنّ إجراءها المتخذ بحق الزعيم سعاده فشل تطبيقه غيّرت طريقة الملاحقة، إذ جهّزت فرقة مطاردة شكّلت عناصرها من أفراد قوى الأمن المتواجدين في ثكنة الفوج السيّار ببيروت، أي مقرّ قيادة قوى الأمن الداخلي، ووقّتت موعد عملها ابتداءً من منتصف الليل، إذ تخرج هذه القوة من ثكنة السّيار في هذا الوقت المتأخر لتصل في الثالثة بعد منتصف الليل الى ضهور الشوير. فقابلنا هذه الخطة بخطة من جانبنا أتاحت لنا أن نكون على علم تام بتحركات القوة الأمنية، إذ تصل المعلومات الكافية حول ذلك إلينا بظرف عشر دقائق، وقد شرحت تفاصيل خطتنا هذه في مذكراتي 2 .

فكان أنّ آخر صرعة قرّرت الدولة تنفيذها هي إرسال قوة من رجال الأمن مؤلفة من خمسين عنصراً بالثياب المدنية… تتجه بسيارات صغيرة الى منطقة الينابيع 3 في قارعة النهار وتتجمّع هناك، وتحديداً في منتزه مقهى الينابيع القديم، وعند منتصف الليل تحاصر المنطقة التي يتواجد فيها الزعيم، اي منطقة العرزال ودير مار الياس شويّا حيث المنزل الذي يقيم فيه، وهي المنطقة المسماة «حرف الدير». وهذه الخطة وصل العلم بها وبتفاصيلها أيضاً الينا، فكان مصيرها الفشل أسوة بسابقاتها… وبقي وضعنا على ما هو عليه طوال مدة موسم الانتخابات.

أردت من هذه النبذة أن اسجل للتاريخ تقديري وشكري لهذين الضابطين المملوءين حكمة وجرأة، ولهذا التصرف العاقل من جانبهما الذي دلّ على أخلاقهما العالية وضميرهما الحي. فإنهما تصرفا بشكل يُفعمه الفهم الاجتماعي الصحيح، وقد ردّ حضرة الزعيم لهما التحية بتوجيه كتاب شكر من قبله يعبّر لهما فيه عن إعجابه وتقديره لسلوكهما الانساني الرفيع، لأنهما تفهّما الواقع الصحيح وعملا على أساسه، ولا يزال هذا الكتاب موجوداً في إضبارتيهما على ما اعتقد.

وفي المؤلف المذكور نشر العميد أدونيس نعمة تعليقاً على مقال الرفيق فريد صباغ، فوجدت أن أوجه له رسالة أصحّح فيها بعض ما جاء في التعليق. انشرهما بالنص الحرفي:

« لقد توجه والدي جوزف نعمة، سنة 1927، الى بعلبك للقاء كاتم سرّ المحافظة كميل الشدياق، ابن شقيقة رئيس الوزراء في ذلك الحين أوغست باشا أديب نعمة. فعيّنه الشدياق ترجماناً لدى ضابط الاستخبارات الفرنسي آنذاك… واسمه مامييه. وكانت تربط عائلتنا، عائلة نعمه في دير القمر، رابطة صداقة مع آل حيدر في بعلبك، بحيث حلّ الوالد ضيفاً، طوال إقامته في بعلبك، على كبير آل حيدر سعيد باشا سليمان حيدر.

« وجد جوزف نعمه في تلك المدينة أنطون سعاده مجاعص، الذي كان نزيل أوتيل نهرا. فراحا يتزاوران، وقال له سعاده مرة في معرض الحديث إنه يريد تحقيق مشروع «الهلال الخصيب» أيّ سورية ما قبل الفتح العربي.

ثم دخل الوالد سلك «الجندرمة» وفي الأربعينات عُين في قضاء المتن الشمالي حيث عاد يلتقي الزعيم أنطون سعاده في بلدته ضهور الشوير، وخصوصاً في فندق القاصوف. وكان آخر شخص تكلم معه قبل إعدامه، إذ كان الوالد آنذاك قائد فصيلة سجن القلعة الذي كان يُحتجز فيه أنطون سعاده. وقد رأى سعاده بنفسه النعش المهيأ له، فالتفت الى والدي قائلاً:» إليك النذير بما ينتظرني، فإنني مقضيّ علي بالاعدام»، مضيفاً كلاماً خاصاً للوالد لم يُرد جوزف نعمة الإفضاء به يوماً إلا لي، لأنه «خاص جداً» و «شخصي» كما كان يقول.

« أدلي بهذه الشهادة مع إيضاح أنّ جوزف نعمه لم يكن، في تفكيره الوطني، متفقاً مع آراء سعاده ومبادئه، ولكنه أحب هذا «الزعيم» لإخلاصه لما يعتقد، وقد عامله، ورفاقه في السجن أفضل معاملة إنسانية، يشهد على ذلك المحامي عبدالله القبرصي والنقيب محمد البعلبكي وغيرهما من أعضاء الحزب السوري القومي الاجتماعي.

رسالتي الموجهة الى العميد أدونيس نعمة بتاريخ 7/9/2004

حضرة العميد الركن المهندس ادونيس نعمة المحترم

تحية تقدير

اطلعت باهتمام على كتابكم القيم عن النقيب المؤرخ المرحوم جوزف نعمة الذي كنت أقرأ له كثيراً في الصحف انما فاتني أن أطلع على مؤلفاته التي تبيّن لي من كتابكم عنه، كم كانت غنية ومتنوعة. من كان من أمثاله يكتب له الخلود ويستمر في ذاكرة الأجيال.

استوقفني في التعليق الوارد في الصفحة 298 أمران وجدت مفيداً أن أنقلهما لكم، لربما في ذلك فائدة للحقيقة آملاً أن اتزوّد بأي تعليق لديكم:

اولاً: لم يكن سعاده متواجداً في بعلبك عام 1927، فهو في هذا العام كان لا يزال مقيماً في البرازيل، ولم يرجع الى وطنه إلا في تموز من العام 1930.

ثانياً: لم يحتجز سعاده في سجن القلعة بعد أن جرى تسليمه من قبل حسني الزعيم في تموز 1949 فإعدامه بعد محاكمة صورية يخجل منها تاريخ بلادنا، والعالم، إنما أقتيد الى سجن الرمل وهذا الأمر وارد في الكثير من أدبيات الحزب، ومنها مقال «حدثني الكاهن الذي عرّفه» للأديب الكبير الرفيق سعيد تقي الدين.

مع تقديري…

مدير دائرة تاريخ الحزب

الامين لبيب ناصيف

هوامش:

1 فريد صباغ: من الشوير. رافق سعاده وكان من بين أوائل الذين انتموا.

2 لم تنشر المذكرات. نأمل ان يحصل ذلك في اي وقت.

3 حيث مطعم الينابيع حالياً، في منطقة دير مار الياس شويا.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى