فلتقطعِ اليدُ السعودية في الجسد السوري…
سعد الله الخليل
سبعة عقود من الاستقلال حافظت سورية خلالها على استقلالية خياراتها السياسية باعتراف العدو قبل الصديق، ورسمت خطها المقاوم، بحيث لم تتنازل خلالها عن أي من مبادئها الاساسية ولم تضع بوصلتها في ظل التطورات التي عصفت بالمنطقة منذ الاستقلال، ابتداء من تشكيل المحاور حتى زمان ما سمي يوماً «الربيع العربي»، وما تخلل المنطقة من أحداث كبرى كحرب تشرين والاجتياح «الإسرائيلي» للبنان وغزو العراق والحرب على أفغانستان، وغيرها من أحداث لا يمكن حصرها، جعلت من منطقة الشرق الاوسط نقطة الاهتمام الكبرى في مجريات الأحداث، وبطبيعة الحال، شكلت سورية مركز هذا الاهتمام إذ نجحت في التصدي لكل محاولات كسر استقلالها والنيل من هيبتها كدولة.
بعد سبعين عاما من استقلال سورية ثمة من يحاول العودة بها إلى ما قبل عهد الانتداب وربما بعقود، فبعد انهيار منظومة الأخلاق الأوروبية لدى دول الانتداب المتمثلة في فرنسا وبريطانيا، وسقوط رداء التقدم والتطور السياسي والعلمي لدول يفترض أن تكون موغلة في العراقة وتسليم قرارها لسطوة المال السعودي، فإن المشروع المعد لسورية والمرسوم في دوائر صنع القرار الغربي أسوأ بكثير مما رسمته سلطات الانتداب، كون المخطط له والأدوات التنفيذية والمقرِّرة سعودية، وببساطة شديدة، فإن فاقد الشيء لا يعطيه، والإناء ينضح بما فيه، فهل ترسم مملكة الجهل مستقبل سورية المشرق وفق مبادئ الديمقراطية أم الشورى؟ أم تحضر لسورية ما هو أفضل مما صنعته في باقي الدول التي تدخلت فيها وعاثت فيها فساداً ودماراً؟
ليس بغريب الدور السعودي الفاعل في صناعة قرار أطياف المعارَضة السورية والمنضوية تحت غطاء الهيئة العليا للمفاوضات ووفدها المعروف بوفد الرياض والذي يفاوض على إنهاء حرب ساهمت بإشعالها إن لم نقل أشعلتها المملكة وشركاؤها الإقليميون والمحليون، وبالتالي من حق السوريين السؤال عن المشاريع السعودية الحضارية التي أنجزتها حول العالم ليستشفوا صورة سورية المستقبل وفق الرؤية السعودية.
يصعب خلال القراءة السريعة أو التفصيلية للمنجزات السعودية حول العالم اكتشاف أي بقعة مضيئة بدءا من القارة العجوز أوروبا، فبالرغم من الوعي الأوروبي الحضاري، كرست المملكة جهودها في اتجاهين: الأول نشر الفكر الوهابي في الساحة الأوروبية من بوابة حرية نشر الأديان والمساواة بين المواطنين، دون أن تسمح سطوة المال الخليجي لمسؤول أوروبي بالتساؤل عما إذا كانت تلك الشعارات قادرة على سماح المملكة ببناء كنيسة ضمن الأراضي السعودية لخدمة الآلاف من المسيحيين العاملين في المملكة أو منحهم أبسط الحقوق بالظهور العلني في أوقات الصلاة دون الحاجة للاختباء من دوريات هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيما يشكل شراء القرار السياسي للدول الأوروبية ثاني اتجاهات السيطرة السعودية على مفاصل القرار الأوروبي من بوابة الاستثمارات الاقتصادية في مناحي الحياة كافة. وبعد عقود من تلك الجهود، دفعت أوروبا الثمن تفجيرات في فرنسا وبلجيكا وتفشيا لظواهر التشدد الفكري والسلوكي بالتزامن مع الانحلال الأخلاقي والقيمي في مجتمعاتها، فمن مبادئ فولتير وجان جاك روسو وفرانسيس بيكون واسحاق نيوتن إلى عهد الداعشية، وفي السياسة: من المدرسة الحرة للعلوم السياسية في باريس عام 1872 ومدرسة لندن لعلم الاقتصاد والسياسة إلى البرغماتية السياسية التي تبيح كل شيء في سبيل السلطة، فوصلت إلى سدة الحكم نماذج من قبيل شيراك وساركوزي وأولاند وكاميرون ممن يصفهم الأوروبيون بالأغبياء، كل ذلك ثمرة المال السعودي.
عربياً، يبدو لبنان النموذج الأكثر وضوحاً للتدخل السعودي في الحياة السياسية والاقتصادية والمجتمعية بعد الحرب، فحولت المملكة لبنان جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وناصيف اليازجي وبطرس البستاني وأحمد فارس الشدياق وشكيب أرسلان وغيرهم من المفكرين الكبار الذين نشروا عبق حضارة بلدهم حول العالم إلى بلد منقسم على نفسه يوصف بدولة الطوائف والمذاهب العاجزة عن صناعة رأس لها أو التخلص من نفاياتها، أما في السياسة والاقتصاد فشكلت ظاهرة رفيق الحريري أبرز معالم ضرب الدولة اللبنانية لما تبعها من تطورات كرست تبعية لبنان للمؤسسات الدولية عبر مؤتمرات باريس المتلاحقة، وجعلت منه دولة قائمة على المساعدات، وما التطورات المتسارعة على الساحة المصرية وما تبذله المملكة في التعاطي مع الحكومة المصرية الا سياق لتكرار تجربة المملكة في لبننة مصر من بوابة المساعدات المالية.
في سورية، وقبل التدخل المباشر في الحرب على سورية، ومع الصعوبة التي تلاقيها المملكة في نشر فكرها الوهابي ونفوذها السياسي المباشر، حضرت عبر ضخ الأموال بالنوادي الليلية في ريف دمشق والغوطة الشرقية وريف حلب وإدلب، فجل روادها أثرياء الخليج ممن يقودون اليوم حملة السعودية العسكرية في الحرب على سورية، وفي قطاع العقارات عبر شراء الفلل والقصور في المصايف السورية وما كان يدور فيها من جهاد نكاح مغلف بعقود زواج لثلاثة أشهر من فتيات قاصرات برضى أهاليهم مقابل بدل مالي معلوم.
عبر عقود، لم تقدم مملكة آل سعود أي مشروع حضاري لبنيان وطن أو تقدم أمة، فجل ما حملته هو جهل وتفتيت وظلامية، وما على السوريين سوى الاتعاظ من التجارب السعودية في أوروبا والعالم العربي، ما يحتم على السوريين قطع الطريق على محاولة السعودية لعب دور في مستقبل سورية عبر أدواتها الواضحة، كي لا يصلوا في يوم من الأيام بسورية إلى نقطة الانهيار التي وصلت اليها أغلب الدول التي وضعت المملكة يدها عليها، وتتحول الذراع السعودية سرطاناً يصعب احتواؤه والقضاء عليه.