عبد الحليم حمّود في «سكون أيقوني»… ما له وما عليه
«البناء»
اختتم الفنان عبد الحليم حمّود مؤخراً، معرضه التشكيليّ الذي منحه عنوان «سكون أيقوني»، والذي احتضنته أروقة قصر الأونيسكو في بيروت.
لا شكّ في أنّ لرئيس جمعية «حواس» الثقافية أسلوبه الذي يصدم الجميع، وربما تؤدّي هذه الصدمة لدى البعض استحساناً لنتاج حمّود، وقد تؤدّي أيضاً إلى حيرة آخرين، فيرون في لوحات عبد الحليم حمّود ما لم يره غيرهم.
في هذا التقرير، ثلاث رؤى مختلفة، وثلاثة آراء متباينة، من ثلاثة زملاء زاروا معرض «سكون أيقوني»، ولعلّ في ذلك غنى لحمّود، كونه سيعرف ما له وما عليه، هو الذي ـ كما نعرفه جيداً ـ يرحّب بكلّ ما يرفد مسيرته الفنيّة ويغنيها.
الرؤيا انعكاس للواقع
كتبت عبير حمدان:
قد لا يكفي يوم واحد للعرض حين تكون الخطوط والألوان مسكونة بالتأويل. ولكن عجلة الزمن كثيراً ما تتغلب على الفكرة تبعاً للروتين اليومي الذي يعتبر الفنّ نوعاً من الترف الثقافي المرتبط بشخوصه ومبدعيه. ورغم الإطار المحدد للعرض، إلا أن الزميل الفنان عبد الحليم حمّود تمكّن من إيصال رؤياه في وقت قياسيّ، إذ أتى «السكون الأيقوني» صادماً بشكل إيجابي ومحفّزاً للناظر ليطلق جملة من التساؤلات ولو لم ينل كل الأجوبة التي يريدها.
العين ترقب اللوحات التي انتشرت في قاعة العرض وتبحث عن ذات صاحبها بين التقاطيع التي تميل إلى لون داكن في معظمها، وليس بالضرورة أن يرمز ذلك إلى السودواية. بل قد يكون خطاً متصلاً بالواقع الذي يتقن حمّود محاكاته وتجسيده بالريشة والرمز…
هو يجلس متأملاً محيطه الشاسع ويسكب فلسفته الخاصة على القماش، في مكان ما يصبح اللحن جسراً للطبيعة بعيداً عن ضجيج المدينة وقد يضيق بنا المكان لنشعر أننا أسرى قضباناً ابتدعناها خوفاً من المحاولة. إلا أن حمّود لا يكفّ عن المحاولة، يدنو منها ويعلن القيامة بكرنفال أزرق ويعزف على تقاسيم الدمع وينغمس في الطبيعة الصامته فيحثّها على الثورة. الفكر لديه ثورة وكذلك الخطوط والألوان ولو استوحى بعضها من رطوبة الخوف المقيم في الملجأ… هنا يصبح الحبّ ركناً للبقاء والإرادة معزوفة بلون السماء تلامس صهيل الريح وذكريات الفارس الذي واجه حروبه العامة والخاصة. لعله انتصر واختار العبور إلى مساحة من الصمت المقيم بين الأمس واليوم ليجمع صوَره وأحلامه بحثاً عن بداية جديدة.
أراد حمّود الخروج من إطار التوصيف الكاريكاتيري الذي لازمه لسنوات فكان مدهشاً في تشكيل الرؤيا وعميقاً في ترسيخ بصمته الفنية المشبعة بالفلسفة. حتى أن الاسماء التي اختارها للوحاته الـ49 تفتح الباب على مصراعيه نحو المدى اللامتناهي.
يمنحنا حمّود جزءاً من نبض ريشته ويدعونا لنسامر قلوبنا ولو كانت في إجازة قسرية. وتبقى ألعاب الطفولة حاضرة مهما حاولنا اختزالها بادّعاء رصين.
هي ملامحنا ولو بعين واحدة، نحن نقيم داخل الإطار بما في داخلنا من تناقض وشغب وسكون، لكن الإطار لا يأسر الروح التي تتفوق على الحواجز وترتفع الى فضاءات من الوجد بحيث يمكنها التمرّد على الخوف ولو طوق صاحبها الألم في معترك بحثه عن كوة في جدار الجنون القائم. حمّود يحث المتلقي على دكّ هذا الجدار والسماح للنور اختراق السواد المقيم في ثنايا وجوده ولو أن عملية تدميره لم تنجح من المرة الأولى، إلا أن شرف المحاولة يكفي وقد تنبت الزهور بين شقوق أيّ جدار.
«سكون إيقوني» مادة فنية مستفزّة بالمعنى الإيجابي للتوصيف. تمكّنت ريشة الفنان من خلالها دعوتنا إلى تشكيل زمننا الخاص، وقدّمت للعين انعاكس الواقع وتقاسميه بشكل يظهر الرؤيا الفنية الاحترافية لصاحبها، فكانت أدواته الأيقونة وسكونه الفلسفة التي تستحق البحث والمزيد من الوقت للعرض.
عاشق صوفيّ الهوى
وكتبت رنا حيدر:
أن تقف وجهاً لوجه أمام لوحات معرض «سكون أيقوني»، أي أن تبحث لبرهة ليست بقصيرة في محارة التميّز، فيتغمس نظرك ببهاء اللون وعمق الفكرة وندرتها.
مجموعة من 49 لوحة رسمها الفنان عبد الحليم حمّود في لحظات انقطاع ليست بقصيرة عن محيطه المادي والآنيّ، مسترسلاً في رحلةٍ مطوّلة، مأخوذاً ومسكوناً بالنبض الصوفيّ واللحن المتسلل عبر مسامات الصمت.
لوحات تخال أن السكون يتقمّصها والهدوء يجلّلها كرسائل ختمت بنقوشٍ أزلية. إلا أن هذا الانطباع لا يلبث أن يتبدّد كلّما تيمّم نظرك بطين الألوان وتماوجت الأيقونات أمامك كأنها أبطال يتحرّكون على مسرح العين فيتشابهون شكلاً لوهلة، لكنهم حتماً يختلفون مضموناً وإيحاء.
فلكلّ لوحة أيقونتها ورسالتها ومضامينها الخاصة، وهذا ما عكسه أولاً عنوان وتسمية كل عمل. وهذا ما فتح لنا نافذة تتراءى من خلف ستائرها وجهة نظر الفنان ورؤيته. لكن هذا لم يمنع المتابع والواقف في مواجهة اللوحة أن يقرأها قراءة مغايرة تماماً، مصوّباً دفة التأويل نحو زوايا ومعاني مختلفة تلمسها في روح اللوحة وبنيتها.
تسع وأربعون رواية خطّت بحبر الليل تلاها على مسامعنا ناسك المساء وفارس الضوضاء، جامعاً حكاياته الأيقونية بخيطٍ مشترك استطاع أن يوحّدها في روح واحدة. إلا أنه استطاع أن يحفظ لكلّ منها فلسفتها وعمقها… بدايتها ونهايتها.
انعكست الأجواء الحميمية الدافئة الباذخة روحاً التي عايشها الرسام المتألق عبد الحليم حمّود في فترة ولادة وتبلور ملامح أيقونته، فحضرت طقوسه في بناء اللوحات وفي كافة تفاصيلها الأنيقة والعميقة. فهنا تسلّل الحلم السريالي، وفي لوحة أخرى تمايلت تراتيل الدمع. وللقلب شجونه وتلاوينه التي تمظهرت مراراً بهيئات وتجليات مختلفة.
يثبت لنا الفنان حمّود أن تحقيق الاختلاف والدهشة أمران بديهيان وملحّان ويمكن خلقهما واستنباطهما عبر حياكة التفاصيل بعناية تامة، والعمل على حبكها بخيوط الإبداع والإصرار على إنضاج التفاصيل، كي يختمر العمل ويفرض حضوره وخصوصيته وفرادته. أن تتماهى الألوان وتتّحد رموزها شيء، وأن يكون لكلّ منها رسالته وعالمه شيء آخر تماماً. من هنا استطاع صاحب السكون الأيقوني أن يرسل كلّ منّا في رحلة البحث الخاصه به، والتي حتماً أوصلت كلّ متابع في نهاية المطاف إلى رؤيته وقراءته وضالته الخاصة. فتعدّدت الرؤى لكلّ لوحة وكنّا أمام مشهديات طرّزها الشغف، واستعارت سحرها ورقيها وفلسفتها وأناقتها من ثغر عاشقٍ صوفيّ الهوى.
ارتقى بنا الفنان عبد الحليم حمّود إلى حيث أراد، وخضعت ذائقتنا له بانسيابٍ تامٍ عن سابق إصرار وترقب، ترقب لما ستنثره روح ذاك القادم على صهوة اللون من عالم الرسم الكاريكاتيري، داخلاً صومعة البوح التشكيلي من أوسع البواب، مختصراً المسافات كلّها، فاستقرّ هو وقبائل أفكاره وتعاويذ حبره الباذخ، العاري إلا من الروح، تارةً عابثاً بظلال اللون، وطوراً مهندساً زوايا الصمت، مستقبلاً مواكب المنتظرين على تخوم الشوق قائلاً: أهلاً بكم في عالم الدهشة!
انطباعية الإحساس وسريالية الواقع
كتب جهاد أيوب:
يغامر الزميل والكاتب ورسّام الكاريكاتير عبد الحليم حمّود بهجر ما عرفناه به إلى التشكيل. هو في الكاريكاتير يصنع اللوحة الناطقة والصارخة، يتميز بخصوصية تضعه مع الأسماء المنافسة. يحاول ألا يقلد، وألا يكون في الصفوف الخلفية. لذلك، حينما دعانا إلى معرضه الجديد «سكون أيقوني» في إحدى قاعات قصر الأونيسكو، اعتقدنا أنه سيرسم ما نحن عليه من مشاكل سياسية وبيئية واقتصادية وأمنية وفنية، وكانت النتيجة 49 لوحة تشكيلية مجرّدة بهمسات كاريكاتيرية، ومشغولة بأصباغ منوّعة وبزمن ثابت وإضاءة محدّدة وضيقة الأفق.
أراد عبد الحليم البوح بطريقة مغايرة لكنه وقع في الطرح الواقعي من دون تردّد وربما من دون أن يقصد. وقد يعود السبب إلى طبيعة عمله كرسام كاريكاتيري يلتقط اللحظة ويطوّعها لتخدم نظريته ولا يصنعها. بينما التشكيلي يلتقط اللحظة ويصنعها أحياناً ويقولبها حتى يناقشها ويعيشها بجوارحه كلّها. هنا حمّود استخدم فكرة كاريكاتيرية، ونفّذها برؤية واقعية مجرّدة من الشكل وبانطباعية الإحساس وبسريالية الواقع. صنع بطله «أيقونة» وجه بملامح كاريكاتيرية واضحة، وجه مكرّر بغالبية اللوحات فقط اختلف بطريقة وضع اللون، ولكن في النطق تاهت معالمه وبقيت صورته.
لا خلاف في أن حمّود غامر، وهذه المغامرة تتطلّب الوقت كي تتبلور أكثر، وما أضرّها أنّ الفنان رسم مغامرته هذه في أوقات متقاربة وباعتقادي في أقلّ من شهر. لذلك قد نختصر كلّ اللوحات المعروضة بلوحة أو بأربع. من هنا، جاءت ألوانه موحّدة وحركته ثابتة، وطبيعة شخوصة والفكرة متقاربة وهذا أبعده عن عمق ما يرغب قوله في صراخنا.
واضح أن الفنان لامس ما يرافقنا من مشاكل وما بعد المشاكل والمحيط الذي نعيشه، لكنه مرّ مرور الكرام من دون أن يصفعنا، ومن دون أن يسمح لنا بالتفكير وبالخروج من عنق الزجاجة. وحتى حينما تحدّث شارحاً نصّه الجديد أصرّ على أن يسجننا في ما هو يريد، ولم يترك لنا حرّية البحث والتنقيب، مع أن اللوحة النصّ حينما تعرض للناس تصبح ملكاً للمتلقي ولإشكالياته. يحقّ للفنان أن يخبرنا عن فكرته وتجربته مع فسح المجال لنتعقبه ودراسة نتاجه كي نكتشف ما لم يكتشفه هو بلحظة هاربة، ودورنا أن نعيد هذه اللحظة الهاربة والنادرة.
السرعة في تنفيذ المعرض فرض التكرار اللوني والنصّي. من هنا جاء اللون شبه حالة مكرّرة رغم تعدّده. فهو ينطلق بالأحبار الصينية، والأكواريل، إلى الإكرليك والباستيل، وهذه فرصة ليبهرنا ويأخذنا إلى عالم الدهشة. إلا أن القلق الذي يساوره نتيحة العيش في هذه المنطقة بالذات فرضت عليه الضبابية والاضاءة الخجولة. ولا ندري سبب هذه القيود للنور وللألوان التي حاول تحريرها بخطوط الحبر الصيني والنتيجة أكثر ضبابية وحدة!
ربما قصد الفنان من ذلك السكون، ولكن الموقف يتطلب سكوناً مغايراً فيه الانتظار لغد آخر، وفسحة أمل، ونقطة ضوء، ونافذة حالمة… الحلم غاب عن كل اللوحات، والتعب بان في الأيقونة المكرّرة وفي تشتّت صراخ الألوان والأصباغ.
حينما نريد تجريد الأشكال يفرض علينا أن نتسلّح باللون كي ينطق من الفكرة والشكل المجرد، ويسبح في فضائهما ويغرّد عنهما ويرسم معالم وجعهما وخوفهما وحزنهما وفرحهما. هنا عند الزميل حمّود نجد اللون يكرّر همساته، ويوحّد شطحاته، ويسجن لغاته، وبعد ذلك يجمّد اللحظات.
لا يحقّ لنا أن نحدّد اختيارات الفنان، ولكن يحق لنا أن نسأل عن هذه المساحة من التواصل المفقود بين المتلقي والنصّ بكل مواده. صحيح أنّ زحمة نقل الواقع أطلّت علينا بتعدّد الأفكار، إلا أن سجنها بخطوط واضحة بوحدتها أمرتنا بقراءة اسم اللوحة كي نعاود تكرار قراءة المشاهدة. النصّ والفكرة رسما بخطّ حاد جداً وثاقب أحياناً إلى أن جاء اللون فأضاع الهدف.
أيقونة النص وشخصية الطير صنعا توليفة جميلة ينقصهما الجنون بعيداً عن نصّ مقيد في برواز وألوان هامسة. ومع ذلك استطاع حمّود أن يحافظ على النسب والمنظور بمسؤولية، نسبه مدروسة بدقة تخدم البصر ولا تعيق النظر، ومنظوره حافظ على حدود اللوحة ولم يزعج المتابعة وأبعده عن الارتجال وصدفة الشكل.
كان على الزميل عبد الحليم حمّود التروي في تقديم نصّه وأسلوبه وصرخته الجديدة، وأن يسمح لها بالتنفّس والبوح معه ومع تطريز وحياكة مفردات أيامنا. إن الحوار مع اللوحة التشكيلية يصنع نصّاً مغايراً يطول عمره ويفرض حضوره بقوة التأسيس والنصّ والتكنيك والتجريب، وهذا يعطي خبرة في أنشودة البوح والتواصل والصفع والتفرّد.