طه حسين ناقد يؤرقه اتزان المنهج ودقة المعارف في كتاب «المرايا المتجاورة»
صدرت حديثاً الطبعة الرابعة من كتاب «المرايا المتجاورة… دراسة في نقد طه حسين»، لوزير الثقافة المصري الحالي الدكتور جابر عصفور، لدى الهيئة المصرية العامة للكتاب، والكتاب في قسمين، الأول تحت عنوان «مرايا الأدب» من ثلاثة فصول، والثاني عنوانه «مرايا النقد» أيضاً من ثلاثة فصول.
يُحاول الكتاب إلقاء الضوء والتعرف إلى طبيعة الفكر النقدي لدى طه حسين 1889-1973 ، من خلال اكتشاف الصيغة التكوينية التي بني بها هذا الفكر، وبقدر ما يسعى الكتاب إلى اكتشاف خصائصه النوعية، يحرص على أن يتعامل معه بوصفه وحدة متكاملة لا ينفصل فيها النظريّ عن التطبيقيّ. ولا يتم تركيز فيها على جانب دون آخر، بل يمضي البحث في كل اتجاه، ويتقصى كل مجال، ويتدبر كل تغير، ويتغلغل في كل تنوع للوصول إلى أساس يرد التنوع إلى وحدة والتغير إلى ثبات.
يعرّف الكتاب طه حسين الناقد العقلاني بالذي يؤرقه اتزان المنهج، وتشغله دقة المعارف التي تهدي خطى الناقد، فيلوذ بالديكارتية في طريق التثبيت، مثلما يلوذ بالمكتسبات المنهجية في إجراءات البحث التاريخي الحديث، ويتقبل بعض أفكار «تين» عن الدرس الأدبي بعد مزجها بأفكار أستاذه في الجامعة المصرية كارلو نالينو، ويتقبل بعض أفكار سانت بوف، بعد أن يعقلها بأفكار أستاذه.
كما يعرّف الكتاب من منظار آخر طه حسين الناقد «المحدث» الذي يلوذ بمفاهيم النقد الأوروبي، ويتوسل بأفكار نقاد الغرب، فيرى الأدب تعبيراً عن شخصية صاحبه، وخلاصة لعصره، وتصويراً للمثل العليا للإنسان، فضلاً عن طه حسين الناقد «القديم» الذي يلوذ بمفاهيم التراث، ويتأثر بخطى النقاد القدماء من أمثال ابن قتيبة والآمدي والجرجاني وآخرين، فيرى الأدب «صنعة» يسبق التخطيط فيها التنفيذ، ويستقل المعنى فيها عن لفظه، مثلما يراه مُحاكاة تراعي دقة الوصف وأمانة النقل وطرافة التصوير وبراعة التشبيه.
يقول الدكتور جابر عصفور في كتابه: «لو تأملنا طه حسين الناقد «المحدث» فاجأتنا المفارقات التي ينطوي عليها نقده، فهذا الناقد المحدث هو الذي اختار المأساة اليونانية فترجمها وعرّف بها، ليظهر ما فيها من نزوع أخلاقي وقدرية دينية، وترجم فولتير وراسين، وأبرز ما فيهما من انسجام ومغزى أخلاقي متميز، وأعجب إلى حد الفتنة بالانسجام والتوازن والاعتدال. والصراع الكلاسيكي بين الإنسان والقدر أو بين الهوى والواجب، والعقل والغريزة، وهو نفسه الذي أحب العاطفية المفرطة لبول هورفيو وبول جيرالدي، واستهواه الجموح المتمرد في كتابات بودلير وأندريه جيد، وهو الناقد نفسه الذي أعجب بالأدب الأسود، واستهوته عبثية كافكا وروايات سارتر. ويبدو الأمر في النهاية كما لو كان هذا الناقد «المحدث» يفتح عقله ووجدانه لكل الاتجاهات والمذاهب والمدارس، فيتدافع الإعجاب في كتاباته تدافع أعمال وأسماء متباينة كل التباين، متنافرة كل التنافر، إلى درجة تفرض الأسئلة: أين يكمن الاتجاه الحقيقي لهذا الناقد؟ وهل نحن إزاء تجانس موحد في الاستجابة أم إزاء تباين متنافر في الاستجابات؟ وهل نحن إزاء ناقد «يختار» من أدب الغرب، أم إزاء ناقد «ينبهر» بكل ما يأتي عن الغرب بنفس الدرجة والقدر؟».
يؤكد الكتاب أن هذه الطبيعة التنويرية لا تفرض على الناقد طه حسين اتجاهاً بعينه، أو استجابة متحدة متلاحمة تتكرر في ثبات، بل تدفعه إلى لون من الموسوعية، يأخذ معها – من الاتجاهات النقدية والنظريات الأدبية والأعمال الإبداعية – الأفكار والآراء والنماذج التي تجدد الإبداع الأدبي، وتؤصل درسه في مجتمع متخلف، وتستوي لدى هذا الناقد كل مدارس الأدب والنقد الأوروبي، وكل مراحل التاريخ الأدبي في الغرب، من حيث إنها نتاج مجتمعات متقدمة، تنقل ثمار تقدمها – مهما تنوعت أو تباينت أو تنافرت أو تضاربت – إلى مجتمع متخلف، لتدفع عملية «النهضة» في هذا المجتمع إلى الأمام.
يركز الكتاب على الرحلة الطويلة التي تمتد عبر المكان، والتي اجتازها طه حسين لتصل التراث العربي بالتراث الإنساني السابق عليه، وتصل الأدب العربي الحديث بالآداب الأوروبية الحديثة، وتتنقل بين الآداب الأوروبية من عاصمة إلى أخرى، رغم حنينها الدائم إلى باريس «عاصمة النور». كما تمتد عبر الزمان، من مفتتح هذا القرن إلى نهاية الستينات، في ما يزيد على نصف قرن، تفصل بين أول ثمار هذه المرحلة في «ذكرى أبي العلاء» 1914 وآخر ثمارها في «خواطر» و«كلمات» 1967 ، ولأن الرحلة طويلة تمتد عبر الزمان والمكان، ينتقل طه حسين – الناقد المرتجل – من مذهب أدبي آخر، ومن اتجاه نقدي سائد إلى اتجاه نقدي يغلب عليه، ومن مشكلة أدبية إلى مشكلات أدبية جديدة تغطى عليها، بالسرعة التي ينتقل بها ما بين فولتير وكافكا، وبين أندريه جيد وريتشارد رايت، وبين كامو وكازانتازاكيس، وتتجمع عبر هذه الرحلة تراكمات كمية لا تتحول بسبب الانتقاء المرسل إلى تغيرات كيفية، فتتزايد حدة التباين الكيفي الذي يتحدث عنه الكتاب.