«مراصد» مكتبة الاسكندرية تتساءل: الجاهلية فترة تاريخيّة أم حالة موضوعيّة؟
صدر لدى «وحدة الدراسات المستقبلية» في مكتبة الإسكندرية العدد الحادي والعشرون من سلسلة «مراصد» تحت عنوان «منهج النظر إلى مفهوم الجاهلية والحاكمية» للكاتب هشام جعفر. ويقول الكاتب إن لفظ الجاهلية هي من مبتكرات القرآن، فلم يُسمع هذا اللفظ في العرب إلاّ بعد نزول القرآن، ثم استخدمته السنة النبوية فكان له حينئذ معنى واضح ومحدد، ولئن شابه كثير من الغموض والاضطراب في الفكر الإسلامي الحديث، فلعل ذلك يرجع في كثير من جوانبه إلى افتقاد التأصيل المنهجي الواضح لهذا المفهوم انطلاقًا من دلالته في اللغة العربية أولاً ثم في الأصول المنزلة بعد ذلك. وفي محاولة تحديد مفهوم هذا المصطلح تثور مجموعة من التساؤلات المهمّة، أولها يتعلق ببيان ما إذا كانت «الجاهلية» فترة تاريخية انقضت ببعثة الرسول أو بفتح مكة على خلاف في ذلك؟ أم أنها «حالة موضوعية» وليست «فترة تاريخية» توجد كلما وُجِدَت مقوماتها وتوافرت خصائصها وسماتها؟ وثانيهما أنه إذا كانت الجاهلية «حالة موضوعية» ترتبط بتوافر صفات وشروط معينة، فإن التساؤل الطبيعي حينئذ يكون عن ماهية هذه المقومات وتلك الخصائص؟ ويحاول الباحث عبر الفصل الأول من الدراسة عن هذه التساؤلات من خلال النقاط الآتيّة: أولاً، الجاهلية حالة موضوعية أم فترة تاريخية؟ ثانيًا، الجاهلية في اللغة والأصول، ثالثًا، مستويات الجاهلية، رابعًا، مقومات الجاهلية.
إن الرأي في الفكر الإسلامي انقسم في شأن احتمال تكرار الجاهلية مرة أخرى بعد ظهور الإسلام، كما انقسم في شأن إلحاق صفة الجاهلية بالمجتمعات المسلمة اليوم بناءً على اختلاف الآراء بشأن تحديد مضمون الجاهلية ومقوماتها والجاهلية التي اعترف بها الفكر الإسلامي الحديث لدى بعض تياراته ورموزه من حيث إمكان تكرارها مرة أخرى نظر إليها باعتبارها منهجًا في الحياة مناقضًا لمنهج الله، أو بتعبير آخر الجاهلية وفقًا له منهج في الحياة مقابل ومضاد لمنهج الإسلام، وأن الجاهلية طُرِحت أولاً كتعبير عن واقع الانحراف في حياة المسلمين ثم استُخدمت لمواجهة المشروع العلماني للدول الوطنية بعد الاستقلال وموقف الجماهير المسلمة من هذا المشروع. والواقع أن حسم هذا الخلاف لا يمكن أن يتم إلاّ في ضوء التحديد الواضح لدلالات مفهوم الجاهلية كما جاءت في اللغة والأصول المنزلة.
وإن وردت الجاهلية في النصوص الشرعية، بمعنى الفترة التاريخية المحددة، إلا أن ذلك لا ينفي أنها يمكن أن تكون «حالة موضوعية»، أي وصفًا يمكن أن يلحق بأيّ فترة زمنية خلت من منهج الله. فاستعراض وجهتي النظر الجاهلية فترة تاريخية أم حالة موضوعية في ضوء آيات القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ينتهي بنا إلى القول بأن مفهوم الجاهلية – كما جاء في النصوص – لا يعدو في الحقيقة كونه « ظاهرة اجتماعية إنسانية» قبل أن يكون وقتًا زمنيًّا خاصًّا معينًا يمكن أن يتخذ صورًا وتعابير شتى. فالجاهلية في هذا المعنى جوهر، فكرة، مضمون، تجريد ذو صور وقوالب شتى، وهي في هذا المعنى لا تحد من حيث نطاق انطباقها وتوافر مقوماته بزمان أو مكان أو إنسان، على أي أنها مثلما وجدت قبل الإسلام يمكن أن توجد بعده، ومثلما ظهرت وتأصلت في جزيرة العرب قبل البعثة فإنها تتعداها إلى سواها، فضلاً عن أنها تصلح وصفًا للإنسان بغض النظر عن نطاقه الاجتماعي ومستوى تحضره.
عن مستويات الجاهلية، يشير الكاتب إلى جاهلية الفسوق والعصيان، فهناك أولاً جاهلية الفسق والعصيان، ويطلق عليها البعض «جاهلية الأعمال»، وهي تلك التي لا يخرج صاحبها من الملة. أما المستوى الثاني فهو الذي تتعلق فيه الجاهلية وتختص بالكفر، ويطلق عليه سالم البهنساوي «جاهلية الاعتقاد» وهي تلك التي يخرج بها صاحبها على الملة إذ لا يصدر عن مجرد سلوك إنما عن عقيدة تستحل ذلك السلوك.
يتناول الكاتب مقوّمات الجاهلية، ويقصد بالمقوّمات في هذا السياق تلك السمات الأساسية التي إن توافرت في فرد أو مجتمع أو نظام يمكن أن نطلق عليه وصف الجاهلية مع ضرورة مراعاة التمييز بين مستوياتها: جاهلية الأعمال، وجاهلية الاعتقاد. وفي تعبير آخر، فإن كل مقوِّم من هذه المقوّمات له آثاره السلوكية بالنسبة إلى الفرد والمجتمع والنظم فهذه المقومات بمثابة تصورات نظرية لها آثارها السلوكية، أو بعبارة أخرى هي بمثابة منبع وقاعدة تنطلق منها كثير من التصرفات والممارسات. ويحدد الكاتب المقومات الأربعة وهي: تصور الجاهلية لله وعلاقته بالإنسان والكون والحوادث، وضعية التشريع، الجامع السياسي بين حمية الجاهلية ودعواها، وسيطرة قانون اللذة والمنفعة.
تخلص الدراسة إلى عدد من النتائج التي كانت بمثابة إجابة عن التساؤلات التي طرحتها افتراضات الدراسة: أولاً: مفهوم الحاكمية من المفاهيم الأصولية الشرعية التي امتلأت بها آيات القرآن والأحاديث ووردت في الأصول بمعنيين الأول الحاكمية الكونية، وهي إرادة الله الكونية القدرية التي تتمثل في مشيئته العامة المحيطة بجميع الكائنات، وتعني القضاء الكلي الناتج من العلم الإلهي العام المترتب على الحكمة الكونية في الأفعال الإلهية. والمعنى الثاني الحاكمية التشريعية وهي تلك التي تتعلق بإرادة الله الدينية وتتمثل في تصور عقدي عن الله والكون والإنسان، ونظرية الشريعة العامة والعبادات فيها جزء منها، بالإضافة إلى النظرية الأخلاقية. والتزام الإنسان بالحاكمية التشريعية يحقق الانسجام بينه وبين الكون حوله إذ يكون خاضعًا لإرادة الله اختيارًا باتباع قانون الله الشرعي في حياته الاختيارية، كما هو خاضع لإرادة الله الكونية وتابع لقانونه الطبيعي في حياته الجبرية.
من هذا المنطلق يمكن فهم طبيعة العلاقة بين مفهوم الحاكمية ومفهوم الاستخلاف في الرؤية الإسلامية، فمضمون الحاكمية بمكوّناتها هو عهد الاستخلاف الذي على الإنسان الالتزام به وتحقيقه. فطبيعة الاستخلاف تستوجب وجود منهج وشريعة يحدد فيها المستخلف أسس حركة المستخلف وقواعدها وضوابطها. الحاكمية هي المحددة لهذا المنهج والموضحة للضوابط الحاكمة لتحقيق الاستخلاف.
النتيجة الأهم في ظن الباحث تتحدد من خلال دراسة طبيعة العلاقة بين كلٍّ من مفهوم الحاكمية ومفهوم الجاهلية ومظاهرهما المعاصرة وتبدياتهما الحاضرة. فكل من المفهومين ذو نسق خاص به يستدعي بعضه البعض الآخر، مكوِّنًا نقطة مثالية بمثابة قمة التناقض بين المفهومين.