بري وجنبلاط

ناصر قنديل

– تسنى لي أن أعاصر وأرافق مسيرة هذا الثنائي الغريب العجيب في الحياة اللبنانية لخمسة وثلاثين عاماً، فمنذ عام 1979 على الأقل وأنا على مقربة لصيقة امتدت لعشر سنوات مع الرئيس نبيه بري، وعلى علاقة متأرجحة لكن عن قرب بالنائب وليد جنبلاط، خصوصاً في مرحلة ما بين 1983 و1988.

– ليس هنا مكان السيرة الشخصية لرجلين لا تتسع كتب لسيرة كل منهما، ولا مكان سيرة علاقتي بهما، أو بكل منهما، بل مكان القول إنه خلال ثلاثة عقود مضت فإن تاريخ السياسة اللبنانية بمعناها العميق كممارسة للعبة السياسية، التي تحتمل الخلاف من دون القطع والاتفاق من دون الذوبان والمبادرات التي تفاجئ في كثير من الأحيان، والبقاء على رغم التحالفات الخارجية والداخلية بمسافة ونكهة مختلفتين، والقدرة على امتلاك هامش مناورة وحركة يسمح في أي وقت بامتلاك الجسور والصلات والمقبولية، وفي الوقت ذاته إدارة مصالح ودور طائفتين صعبتي المراس وشديدتي التعقيد في تاريخهما السياسي.

– مما لا شك فيه أن ثلاثة لاعبين حاسمين شاركوا هذا الثنائي المكانة البارزة في صناعة الحدث لكن ليس في صناعة السياسة، فالرئيس الراحل رفيق الحريري، الذي كان علامة فارقة في المعادلة اللبنانية، دخل السياسة بلا خبرة هذين المخضرمين فصار أسير علاقته بهما، ولما تخضرم ما كاد يباشر حركته الخاصة حتى رحل، والجيش اللبناني المنبثق من تسوية الطائف وبالبصمة المميزة للرئيس إميل لحود بقي الضمانة على رغم ما لحقه بعد مغادرة لحود قصر الرئاسة، فكان ولا يزال ركناً رئيسياً في مشروع الدولة اللبنانية وصمام أمنها وأمانها، وبكركي التي تناوب على كرسيها بطاركة يختلفون كثيراً في النظرة والأسلوب كانت ولا تزال شريكاً في صناعة هذا المشهد السياسي، لكن دائماً عندما نتحدث عن السياسة في لبنان وكل من هؤلاء الشركاء الثلاثة الحريري والجيش وبكركي، لا نتخيل مواقعهم في السياسة إلا بالقدر الذي تحضر فيه مرتبطة بصورة أو بأخرى بما يتصل ببري وجنبلاط.

– المقاومة تختلف في حضورها هنا، وقد صارت لاعباً إقليمياً يفوق وزنها وزن لبنان السياسي، وصار قائدها شريكاً في القرار الإقليمي على مستوى المنطقة، وجزءاً من معادلاتها وتوازناتها في ما هو أبعد من حدود التوازن الإستراتيجي بوجه إسرائيل، هذه المقاومة تملك ثقة لا حدود لها للمكانة والدور اللذين يختزنهما الرئيس نبيه بري، ليكون من يسيل رصيدها المعنوي في معادلات الدولة اللبنانية حماية وتشريعاً، ومصالح لشعبها وبيئتها الحاضنة، كما تمحضه الثقة ليكون من يقرأ معادلات قوتها في زمن الحرب ليكون المفاوض الذي يعرف كيف يدير التفاوض لترسم معادلات التسويات بما يلبي التضحيات والإنجازات، ويحولها في السياسة انتصارات، فيكون لبري الوفاء الذي تمنحه الزوجة الشريفة لزوجها، وهي ذات المقاومة التي على رغم كل التقلبات لا تقطع شعرة معاوية مع النائب وليد جنبلاط وتعامله كالحماة الجائرة مرة وكالابن المشاغب مرات، لكن دائماً في إدارة المقاومة للسياسة، حتى بعدما صار العماد ميشال عون حليفها الثابت وهو الزعيم الأهم للمسيحيين، مكانة لا يملؤها إلا إسمان نبيه بري ووليد جنبلاط.

– في زمن المخاطر الكبرى تستشعر القوى الدولية حاجة للمبادرات، فتشخص العيون نحو القادرين وهنا اسمان فقط بري وجنبلاط، وتنتظر الناس مواقف بحجم المتغيرات فيحضران معاً كل على طريقته وبخصوصيته، ومع ما جرى في عرسال والمواقف الخشبية لأغلب تيار المستقبل، الذي تستشعر أنه لا ينتمي للسياسة بمفهومها العلمي أو التقليدي، يبرز موقف ودور والضمانة والشعور بالثقة الآتين مما سيفعله بري وما سيقوله جنبلاط.

– على رغم مرارة ما جرى والمجهول الذي يخشاه اللبنانيون، فقد ناموا ليلتهم وهم واثقون أن ثمة شيئاً في جعبة الصديقين اللدودين، المختلفين والمتفقين، ما سيغير الكثير ويزرع الأمل ويستبدل القلق بالطمأنينة، شيء من مورفين الحياة السياسية أدمنه اللبنانيون، إن لم يكن دواء شافياً ففيه تعزية المسكن من الألم.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى