جنّة الموصل وجحيم غزة

وليد زيتوني

سقطت المقاييس ولم يسقط القناع. في الواقع ليس هناك قناع ليسقط، إنما الذي سقط هو هذا الوهم. لقد توهّمنا بأننا نمتلك أعين سليمة ورؤية سليمة ومنطقاً سليماً، غير أن الحوَل وضعف النظر أصابنا في الصميم. فمنذ زمن بعيد تهاوت القيم الوطنية والأخلاق الاجتماعية، ولم نلحظ هذا التهاوي العظيم. ومنذ زمن بعيد أعلن مشروع «الفوضى الخلاقة»، ولم نر مقدماته. ومنذ زمن بعيد صنع الغرب لنا إلهاً جديداً هو الدولار، ولم نبصر أنه منافس قوي لآلهتنا، وضعناه بين ظهرانينا وأصبح مدار تفكيرنا، خضعنا له بالتساوي مع ما نؤمن، قدّمنا كهنة معبده على سواها، سرنا بوحي تعاليمه، وخضعنا لمشيئته، فأصبح لنا هو القضية وهو الخلاص الأبدي.

بلى، لقد صنع هذا الإله الجديد معجزات. لقد أرسى تحالفاً عظيماً بقدرته، تحالف لم يجتمع عبر التاريخ، لقد جمع التتار والبرابرة والبداوة والرعاع في خندق واحد، وجمع بين الوهابية والصهيونية في جبهة واحدة، وتفكير واحد ونهج واحد، بل أعطى الوهابية الصحراوية قدرة على الإبداع، فمن رحمها ولدت القاعدة وطالبان وانبثقت داعش والنصرة ووجدت ألوية الإسلام وبوكو حرام، فما ولّدته الوهابية يفوق ذرية عبد العزيز آل سعود عدداً وقدرة، فأوكلت مهمة الرعاية والمتابعة إلى أسباط اليهود المعلنين.

بلى، منذ زمن، سقط العالم الإسلامي بكل أطره ومنظماته وأحزابه، لم يعد للأخوة الإسلامية أي مضمون، لم يعد لها طعم ولا لون ولا رائحة، لم نعد نسمع بإغاثة الملهوف ولا بإعانة المحتاج ولا حتى بغيرة الدين، ولم تعد القدس قبلة المسلمين ولا الأقصى ثالث الحرمين، وأصبحت غزة هاشم، لقيطة لا أم لها ولا أب، انقطع أصلها وفصلها، بل فصّلت على قياسات جديدة بين إسلام معتدل وإسلام غير معتدل، تمعن الوهابية في استحواذها، عبر الجرائم التي تمارسها ربيبتها الصهيونية بالقتل الممنهج والمجازر المتكررة وشراء الذمم والسكوت المطلق عمّا يحدث. لقد تحولت غزة إلى جهنم بكل المقاييس. ففيها يقتل الأطفال والشيوخ والنساء والعجزة، وفيها تدمر الأبنية على رؤوس ساكنيها، وفيها تحترق الأجساد بأتون آلة الحرب الصهيونية الممولة من السعودية وقطر. وتموت غزة كل يوم على وقع الصمت الإسلامي والعربي المطبق. طبعاً، لن أتكلم عن جامعة الدول العربية، فهي في واقع الأمر غير موجودة، وفي الأصل لم توجد إلا لتنفيذ مقررات من أوجدها بداية، ومن يرعاها في الوقت الحاضر خدمة لإله النهب الأميركي.

بلى، منذ زمن سقط العالم المسيحي. سقط عندما لم يجد المسيحيون في هذا العالم خصوصاً في الشرق مكاناً يريحهم. سقط عندما اخترقت الصهيونية معاقلهم عبر ما يسمى «المحافظون الجدد». سقطت عندما تآمر الغرب المسيحي مع تركيا على الأرمن والكلدان والآشوريين والسريان. سقط عندما سكت على المجازر الأرمنية في الماضي، ويسكت الآن عن المجازر والتنكيل والتهجير التي تمارسها «داعش» على المسيحيين في الموصل وعلى المسيحيين في سورية، وعندما سكت على انتهاك المقدسات المسيحية في فلسطين مهد المسيح والمسيحية من قِبل اليهود الصهاينة.

لم ينتظر داعش طويلاً، حتى هجّر الطوائف المسيحية، وحرق كنائسهم ودمّر معابدهم وأخذ من تبقى منهم إلى الذمّية، وفرض عليهم الجزية.

لم ينتظر داعش البنت الشرعية لزواج الحركة الوهابية ووكالة الاستخبارات الأميركية طويلاً، حتى أعلن الموصل جنة، ففي هذه الجنة تقدم الحوريات إلى المجاهدين طوعاً، وفيها تنفلت القيود المطبقة كلها على الأرض، وفيها المال الوفير، وفيها الفرات يفيض لبناً وعسلاً. إنها جنة داعش، ولا جنة لداعش إلاها.

هناك في غزة جحيم بنار صهيونية، وفي الموصل جنّة بتعاليم وهابية.

عميد ركن متقاعد

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى