هل الهوية الجديدة… نتيجة للحروب المفروضة؟

د. سلوى الخليل الأمين

أتلانتيك سيتي

فكرت كثيراً أن أهرول خلف هوية جديدة تمنحني وطناً آمناً، ألوذ به من ظلم ذوي القربى، الذين هم حكام ومسؤولو وطني الأشاوس، الذين رسموا عروشهم الثابتة على صحائف عقولنا بالقوة التي تمكنوا منها في زمن الحرب الأهلية، التي كانت شراراتها الأولى في 13 نيسان من العام 1975 أثناء التعدّي على بوسطة تقلّ فريقاً رياضياً فلسطينياً، وذلك في منطقة عين الرمانه شرقي بيروت.

اشتعلت تلك الحرب المشؤومة ونحن في عمر الزهور وسنوات الحياة الربيعية، التي تعبت من حوليات الزمن السعادة المرتجاة. لكن ما لم يكن بالحسبان، وما لم نكن نعرفه أو نثقف أنفسنا على تلقي شروره ومصائبه ونيرانه الحارقة، هو ما تبع حادثة بوسطة عين الرمانة من ظهور للميليشيات المسلحة، التي يتبع كلّ منها لفريق على الساحة اللبنانية، وما نتج عن أفعالها من قتل ودمار وتهجير.

بدأت الأمور بشرذمة العاصمة بيروت وضواحيها، وتحويل مناطقها السعيدة إلى خطوط تماس، ومن ثم تقسيمها بين شرقية أغلبية سكانها من اللبنانيين المسيحيين، وغربية طابعها كما قيل وطني وأغلبية سكانها من المسلمين والحزبيين العلمانيين بمختلف أطيافهم ومعتقداتهم السياسية، ثم انتقلت العدوى إلى مختلف المناطق اللبنانية، بحيث بات اللبنانيون طوائف وأحزاباً متناحرة، بعد أن كانوا مواطنين أصحاء تجمعهم الدولة تحت رايتها السيادية المروية بدماء شهداء ما قبل الاستقلال ومناضليها الذين طردوا المستعمر الفرنسي بتضامنهم ووحدة كلمتهم واتخاذهم شعار: الدين لله والوطن للجميع، وحدة مسار ومصير.

مشت الدولة خلال عشرين عاماً من تاريخ الاستقلال الناجز إلى مصاف الدول المتمكّنة من العلم والمعرفة والثقافة والفن المتميّز، وبناء الإدارة العامة التي تحكمها القوانين المرعية الإجراء، بغضّ النظر عن تدخلات جهابذة السياسة، والتي لم تكن علنية وعلى قاعدة طائفية ومذهبية فاضحة يفصلها كلّ زعيم طائفة كما يحدث حالياً، بحيث كان مجلس الخدمة المدنية هو المسؤول الأول والأخير عن تعيين موظفي الدولة عبر مباريات يخضع لها من يريد حسب الأصول، تأخذ المجلين وتحكتم للتوزيع الطائفي العادل وليس السياسي إلا في ما ندر.

استمرت الحرب سنوات طوال، وأتى اتفاق الطائف ليضع حداً للحرب الأهلية وليصبح بمضمونه قاعدة جديدة للحكم لم تنفذ، لأنّ حرباً جديدة ذرّت رمادها في الوطن بعد أن أصبح رؤساء الميليشيات هم الحكام وأصحاب الحلّ والربط بعد أن تمّ القضاء على العديد من رجالات السياسة والأحزاب اليسارية التي همّش دورها بعد أن كانت شعلة المعارضة التي لا تهدأ، والتي يُحسب لها ألف حساب، كما همّش دور الكفاءات اللبنانية التي لم يعد لها مكان تحت شمس الوطن، فهاجرت إلى بلاد العالم تنثر تفوّقها وإبداعاتها، مساهمة في بناء الحضارة الكونية الجديدة، التي أسقطت هويتهم اللبنانية من معاقلها، بعد أن أصبحت هوية الوطن الجديد هي الهوية الثابتة، بل الطريق الميسّر للمستقبل المنشود.

في ذاك الزمن لم تكن لدينا الرغبة بمغادرة الوطن، واعتبر معظم اللبنانيين أنّ ثباتهم على أرض الوطن هو الهدف الحقيقي للنضال الوطني، يتبعه الرفض المطلق لعملية الحصول على هوية أخرى، فرضتها الحرب الأهلية وسهّلتها بعض الدول الغريبة من أجل استقطاب الطاقات البشرية، خصوصاً القادرة على العطاء والإنتاج.

هذا ما حدث معي ومع عائلتي خلال تواجدنا في بلجيكا العام 1983 بعد اجتياح «إسرائيل» للبنان ووصولها إلى العاصمة بيروت، حينها حملنا الأولاد خوفاً عليهم، ووجهتنا بروكسل، لأنّ رسالة العلم كانت هي الهدف، ولأنّ الانخراط في الحرب الأهلية كانت مخاطره كبيرة، خصوصاً لمن كان يعمل في الإدارة العامة الرسمية أمثالنا، بالرغم من القناعات الرافضة للعديد من التجاوزات. لهذا التزمنا حدود الدولة والقوانين وطلب العلم على أمل أن يعود لبنان إلى عصره المزدهر، الذي كان فيه منارة الشرق.

ذات يوم فوجئت بخبر يأتيني من قبل بعض اللبنانيين، خصوصاً من السفارة اللبنانية في بروكسل، أنّ السفارة الأميركية هناك، تدعو جميع اللبنانيين الهاربين من الحرب الأهلية إلى مقرّها مع جوازات سفرهم من أجل الحصول مباشرة على الـ»غرين كارت» الأميركي. يومها رفضت بشدة وقلت لمن خاطبني: وطني هويتي ولن استبدل هذه الهوية إبان محنة وطني بأية هوية في العالم مهما كانت التسهيلات والإغراءات.

أسرد هذا الأمر، بسب تواجدي حالياً في الديار الأميركية التي بتّ من مواطنيها بحكم نيلي الـ»غرين كارت» الذي اجتهدت كي أحصل عليه بسبب وجود ابني في ديارهم وهو من العلماء المجلّين في الأبحاث الطبية، وبحكم كوني غير سعيدة بما آلت إليه الأمور في وطني لبنان، بحيث بتّ وأمثالي، ممّن لا ناقة لهم ولا جمل في وطنهم الأمّ، مهمّشين من قبل ذوي الأمر والنهي، برغم ثباتنا على العمل المجدي والنافع الذي يصبّ في المصلحة الوطنية الثقافية العليا التي باتت أيضاً مصادرة من حاشية المسؤول، مما اضطرني إلى الهرولة من جديد خلف الهوية الأخرى التي تضمن شيخوختي… مكره أخاك لا بطل.

وصلت أولاً إلى مدينة أتلانتيك سيتي السياحية الجميلة، طبعاً عملت على التعرّف على المدينة الجميلة الهادئة التي تلفح الزائر إليها زغردات النوارس البحرية التي تحطّ على أكتاف المشاة على الشاطئ البحري الهادئ المكتظ بالفنادق والمطاعم والمحلات التجارية خصوصاً التراثية من مختلف البلدان، دون خوف من إنسان يؤذيها، أبهرتني حركة النوارس المتآلفة مع الناس هناك، لأنّ في وطني لبنان بلد الطبيعة الخلابة هجرت العصافير أعشاشها لقلة الأمن والأمان.

ترى أيدرك المسؤول في وطني أهمية التخلي عن الهوية الوطنية بسبب فقدان الأمن والأمان والأمراض الجرثومية التي تسبّبها النفايات المتراكمة في الشوارع منذ أكثر من عام، والتي لا يمكن لسائح أن يلحظها في ديارهم بالرغم من عديد السياح المتواجد عندهم؟ أيدرك المسؤول في وطني ما معنى أن يهاجر الناس شيوخاً وطاعنين في السنّ من أجل طلب الأمن وتأمين شيخوخة لا تسطحهم أمراضها على أبواب المستشفيات وجيوبهم خاوية؟ أيدرك ذات المسؤول الذي يخفي النفط في آباره ويتغاضى عن جشع العدو الصهيوني بسلبنا هذه الثروة الوطنية التي ستغرق الوطن بالخير أنهم يسيئون للبنانيين والوطن دون أن يدروا، أو ربما هم على بيّنة من الأمر، وغايتهم تفريغ الوطن؟ ثم ألا يعلم حكامنا أنّ العديد من أبناء المهاجرين باتوا لا يتقنون لغة الوطن العربية وبالتالي لا تعنيهم الهوية اللبنانية، وهذا الفعل نتيجته سلبية على المدى البعيد بل مهلكة ومدمّرة؟

أسئلة كثيرة راودت فكري وعقلي وأنا أتكلم مع أحد المهاجرين إلى أميركا حين ناقشته بمدى أحقية ابنه بتعلّم لغة الوطن كي يشعر بالحنين إليها في يوم من الأيام، أجابني مستهزئاً: يا سيدتي أنا نسيت أرضي ووطني وبتّ أميركياً والأفضل لأبنائي امتلاك هذه الهوية، لأنّها تضمن لهم مستقبلهم فلا تمنحهم صفة طائفية أو حزبية وإنما تمنحهم انتماء لوطن يقدّر كفاءاتهم في المستقبل، فلربما أصبح ابني يوماً وهو من مواليد هذا البلد رئيساً للجمهورية أو مسؤولاً كبيراً، هل أترك هذا الحلم لأعود به إلى وطن لم يحترم طاقاتي وهجّرني ومنحني صفة مذهبية لا ذنب لي بحملها؟

فكرت طويلاً وأنا استمع إليه وقلت في نفسي: لن أستطيع غداً أن أحلم بعودة أحفادي إلى وطنهم الأمّ لبنان لأنّ تفكيرهم بات مرتبطاً بتفكير العديد ممّن سبقهم، ومما عبّر عنه هذا المواطن اللبناني، الذي هجّر قسراً نتيجة للحروب المفروضة على شعوبنا ومنطقتنا، دون أيّ احتساب لإنسانية الإنسان، وحقه في العيش آمنا في وطنه الأمّ. غصصت بالجواب، لأني بتّ مقتنعة بما يقول، بالرغم من شدّة معارضتي لهذا الفعل المفروض قسراً عل أبنائنا المهاجرين، الذين فرضت عليهم الهوية الجديدة نتيجة للحروب المفروضة وأسبابها ومسبّباتها ونتائجها السلبية على كلّ المسارات.

«ملاحظة: مقالي المقبل من مدينة نيويورك حول الانتخابات الأميركية وما يجري هنا على أرض الواقع».

رئيسة ديوان أهل القلم

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى