«نحيفة» ليليان نمري… من أجل مسرح العائلة وصوت الوطن
جهاد أيوب
قليلة هي التجارب المسرحية التي تقدّم على خشبة المسرح في لبنان. وغالبية ما يُعرض عبارة عن تجميع وجوه فنية وإعلامية تنسجم في خطها السياسي أو طريقة العيش، وتقرّر هذه الوجوه نقد هذا وذاك من دون هدف، وتتطاول على كل الخليقة بسخرية جارحة. وتستجدي الناس كي يضحكوا عليهم، والأهم اعتمادها على اللغة الجنسية، والكلام النابي والتعري والصراخ. كل هذا لا يتطلب معرفة بأولويات المسرح، بل صالة في نادي ليلي، وأجواء صاخبة، واختراع كذبة الفن والحوارات السوقية.
وفي الحقيقة، من المعيب أن نطلق على هذه النوعية صفة «فن»، بل هي محاولات لا ترتقي إلى فنّ التهريج. هي تبحث عن الرزق والشهرة بأيّ وسيلة في مجتمع لم يعد يكترث لأصول الابداع.
هذا ما يحاصر فنوننا ومسرحنا. ورغم ذلك، لدينا بارقة أمل كلما أطل رفيق علي أحمد وجورج خباز، وغيرهما ممن يؤمن بالمسرح، واليوم تطل وتجاريهم في المغامرة المسرحية، فنانة تحمل في جعبتها أكثر من 45 سنة في الفن والعطاء، ومتخرجة من مدرسة عريقة ناظرها شرنو ومديرتها علياء نمري، وأساتذتها باقة من وجوه الفنّ المؤسس والجميل. إنها ليليان نمري، المشبعة والمتعطشة إلى الفن النظيف.
تطلّ ليليان على الخشبة من خلال مسرح المونودراما في مسرحية «نحيفة»، وهي من تأليفها وإخراجها، كما كتبت الأغاني ولحّنتها، ونفّذت الإضاءة والديكور والسينوغرافيا والأزياء وحتى توضيب الملابس والأكسسوارات، ووضعتها في حقائب خاصة، وتنقلها بوساطة التاكسي إلى أكثر من مكان في لبنان، كي تعرض هناك.
كل هذا جهد ليليان منفردة، هذا الجهد المصحوب بالقلق والخوف وفرح الفرجة، والتواصل مع من تحبّ.
من المحطّات الأخيرة، كانت ليليان نمري في «نحيفة» ضيفةً في الجنوب على مسرح «ثانوية رفيق الحريري» في مدينة صيدا، ثمّ ستعرض في أكثر من منطقة وصولاً إلى مسرح الجميّزة!
تحاكي «نحيفة» الواقع الاجتماعي اللبناني عبر شخصية ليليان الفنانة، وما تعانيه ويعانيه أي مواطن في بلد الوساطة والسماسرة والفساد، من جرّاء توليفة ناعمة تشبه ليليان الإنسانة والفنانة. أقصد لا انفصام في الطارح والمطروح، جهود صافية من أجل إيصال الفكرة الصرخة، وتشبث بالفن والوطن رغم كل الظروف والأوجاع.
تنطلق حكاية ليليان من خلال زيارة إلى مصنع الخياطة «مدام أولكا» لتشرح لها معاناة المرأة البدينة وما تحصل عليه المرأة النحيفة، وذلك بسخرية جميلة ومصحوبة بسرد مشوارها التوأم مع الفن والحياة، لتنتقد واقع المرأة المتسلّطة وكيفية اختيارها حياة الكذبة. كما تشرح ليليان كيفية البحث عن عمل بديل عن الفنّ برشاقة مبتسمة، لتخوض غمار المطربة والطبيبة، والراقصة، والمخرجة، ومقدّمة برامج الطبخ، والسكرتيرة، وعارضة الأزياء ومصممة الأزياء، ومضيفة الطيران، وسائقة التاكسي من أجل الضمان الصحي، والترشّح إلى المجلس النيابي. هذه الشخصيات كلها تمر عليها ليليان برشاقة وبدقة وبنقد موجع أحياناً. والأهمّ تغليفه بالضحك والبسمة من دون أن تصرخ في وجوهنا أو تتعمد اللغة الفوقية والمباشرة، مع أنها تعمّدت تذكيرنا بفساد الساسة، وبأن الايام الماضية كانت أجمل، وبأن كل من خيّط للبنان لم يخيّط على قياسه كوطن أكبر من الجميع.
هكذا سبحت ليليان على مسرح يشبهها، واعتمدت فيه على حكايتها والتي جعلتها بذكاء حكاية الجميع وحكاية وطن. لم تبخل ليليان في الوصف وفي الحركة وفي المعنى، لذلك خاطبت الجميع، وجعلت الصغار والشباب والكبار يتواصلون معها، ويسجّلون ضحكة في مكانها. لم ترتجل كي تستجدي البسمة، ولم تتعمّد التمثيل كي تقول «أنا النجمة»، ولم تدّعِ الأداء كي تخطف الأضواء، ولم تبالغ في الحركة كي تسرق الانتباه، بل كانت عفوية متصالحة مع نصّها ومسرحها وبوحها وتشخيصها لأبطالها، من دون تكلّف وادّعاء وفوضى الشكل والطرح والموضوع.
ليليان نمري في مسرحيتها «نحيفة»، هي ليليان نمري الفنانة الطفلة التي ما زالت تحلم بفرص الفنّ، وهي المواطنة الإنسانة والصديقة الوفية التي تدرك قيمة الوطن والمحبة والمسرح. وهي ليليان على «فايسبوك» التي تتحدّث من دون تجريح. وهي ليليان البسيطة في شرح معاناتها ومعاناة المواطن والوطن.
باختصار، «نحيفة» ليليان نمري عمل مسرحي عائلي يستحق المشاهده ويبقى في الذاكرة.