عصام خليل: نكرّم كبارنا لأننا نحترمهم ونسعى إلى تكريسهم لدى الأجيال نجاح سلام: دمشق معلّمتي… ومن علّمني حرفاً آمنتُ به فخراً
دمشق ـ آمنة ملحم
ليس سهلاً على فنانة شابة، أن تعتلي خشبة مسرح دار الأوبرا في دمشق لتؤدّي باقة من أروع ما صدح به صوت الفنانة اللبنانية الكبيرة نجاح سلام، وترك إرثاً فنّياً مغروساً في الذاكرة والوجدان. فما بالك بحضور الفنانة سلام نفسها ذلك الحفل، لتستمع إلى أغانيها بصوت المغنّية السورية همسة منيف، وتدلي ـ أي سلام ـ بشهادة مفادها أنّ منيف من أفضل من غنّى لها، مأسورةً بجمال صوتها. فلم ترَ فلسفة في الأداء تضيّع اللحن، لا بل على العكس، كانت منيف خير مؤدّية متميّزة على المسرح، برفقة فرقة المايسترو نظير موّاس الموسيقية.
الحفل الذي أقيم على مسرح دار الأسد للثقافة والفنون جاء تكريماً للفنانة الكبيرة القديرة نجاح سلام، وحظي ببرنامج غنائيّ موفّق، إذ شهد المسرح تفاعلاً كبيراً مع منيف والفرقة الموسيقية، فغنّت منيف، التي اعتبرت نفسها محظوظة بالغناء لنجاح سلام، أغانٍ ما زالت محفوظةً حتّى اليوم ومنها: «من قاسيون أطلّ يا وطني»، و«غالي غالي يا وطني الغالي»، و«حوّل يا غنّام»، قبل أن تغادر المسرح لبرهة، تاركة الخشبة للموسيقى، إذ استغنى موّاس ههنا عن عصا المايسترو، آخذاً دور العازف، ليدندن ألحان أغنية «يا ريت» للسيدة فيروز، مصطحباً الحضور إلى عراقة الفنّ وإبداعه بأناقة العازف وابتسامة العاشق لآلته الموسيقية، التي طالما اشتهر معها وبها، فنال تصفيقاً علا صداه، مبرهناً أنّ أصالة الموسيقى تكمن في صداها. لتعود منيف وتواصل مع «رقة حسنك وسمارك»، تلتها وصلة موسيقية من ذهبيات نجاح سلام: «ميّل يا غزيّل»، «الشب الأسمر»، «دخل عيونك»، «يا ريم»، لتعتلي بعدئذٍ الفنانة سلام خشبة دار الأوبرا، فقدّم لها وزير الثقافة عصام خليل درعاً تكريمية، تقديراً واحتراماً لفنّها العريق الأصيل، وليسجّل التاريخ أنّ سورية ـ رغم جراحها النازفة ـ لا تنسى من أحبّها ويحبّها، وما زالت تكرّمهم.
بعد التكريم، غنّت سلام «بقولوا نجاح مانها غنية… ما معها غير ليرة سورية… قلتلن ليرتي السورية بتسوى مليون إنكليزية»، فوقف الحضور محيياً سلام ومصفّقاً بحرارة، لتختم الحفل برفقة منيف مع أغنية «سورية يا حبيبتي» التي كانت وما زالت خير أغنية وطنية من أيام الفنّ الجميل في سورية.
وعن الحفل والتكريم قال وزير الثقافة خليل في تصريح صحافي: «نحن سعداء بأن نكون في دار الأسد للثقافة والفنون في ضيافة السيدة نجاح سلام التي انطلقت من سورية وتحوّلت بفنّها وإبداعها إلى جزء من الذاكرة والوجدان العربيين. نرحّب بها في سورية التي لطالما رحبت بالعرب جميعاً، وما تزال تصنع الهوية والعروبة، وما تزال الصفصافة الوارفة ظلالاً على كل أبناء العرب من المحيط إلى الخليج».
وعن استمرار دور سورية الثقافي في ظلّ الأزمة التي تمر بها، أكد خليل أنّ سورية لم تنقطع عن دورها نزغاً حيوياً لأمتها كلّها. ولا يمكن لهذه الأزمة أن تحرق مسارها أو تحرف بوصلتها. فنحن نعرف عدوّنا وتوجّهاتنا، ومهما كانت طبيعة الأزمة لن نحيد عن معركتنا الأساسية. وستبقى أبواب سورية مفتوحة دائماً للعرب جميعاً.
وعن خصوصية تكريم سلام، لفت خليل إلى أنها لطالما شكّلت جزءاً من ذاكرة جيل بكامله لأيام الزمن الجميل الذي كان فيه الفنّ يقدّم روحاً متفرّدة لكل قامة إبداعية. وهي تستحق التكريم، ونحن عندما نكرّم كبارنا نكرّم أنفسنا، لأننا نحترم هذه التجارب ونسعى إلى تكريسها في الأجيال المستقبلية.
كما قال خليل إنّ كلّ فنان عربي هو موضع ترحيب في سورية، وإن إذاعة دمشق وسورية هي المنبر الذي أتاح للعمالقة الكبار أن يبرزوا ويتألقوا في زمن الفنّ الجميل.
وردّاً على سؤال «البناء» حول ربط الحفل والتكريم بعيد الجلاء، شدّد خليل على أن الجلاء لا يمكن أن يكون رصيداً للتبديد، وأنه أمانة يجب أن نصونها ونحافظ عليها. مضيفاً: «نحن عندما نستعيد اليوم مع نجاح سلام وغيرها من الفنانين الأغاني الوطنية ذات القيمة والمضامين الكبرى كأغنية سورية يا حبيبتي أعدتي لي كرامتي أعدتي لي هويتي، هذه المفردات والصيغ نحتاج حقاً إلى تنشيطها في الذاكرة والوجدان لنصون أمانة الاستقلال ونحافظ عليها».
وأعقب الحفل مؤتمر صحافيّ عقدته الفنانة سلام مع شقيقها الإعلامي عبد الرحمن سلام، ونجل الفنان الكبير وديع الصافي أنطوان الصافي، وخلاله أكّدت سلام أنّ فضل سورية كبير عليها، فمنها انطلقت، وفي أحضان إذاعتها قدّمت فنّها وكبرت. واعتبرت أنّ سورية بلد الفنّ والأدب والكرم، تعرفت فيها إلى كبار الملحّنين وسجّلت أغنياتٍ خالدة منها «سورية يا حبيبتي».
وتحدّثت سلام عن التزامها بالفنّ الراقي ومحافظتها على اسمها واسم عائلتها بعيداً عن أيّ غبار قد يشوبها. ولطالما كان نجاح أغانيها همّها الأكبر الذي سعت إليه. وبرأيها، التكريم الأكبر الذي حظيت به اليوم، يتمثل بوجودها في سورية التي لا تغيب عن دعائها في صلواتها. وتقول هنا: دمشق معلّمتي الأولى، ومَن علّمني حرفاً آمنتُ به فخراً. ففي سورية تعلّمت وأطلقت أغنيتي الأولى «حوّل يا غنّام»، من كلمات وألحان إيليا المتني، إضافة إلى مجموعة كبيرة من الأغنيات. ولطالما كنت من أبنائها، إذ عشت فيها لفترة زمنية، وكُرّمت فيها كثيراً. أنا أحبّ سورية كحبّي لبلدي لبنان.
وأشادت سلام بالأصوات السورية الجميلة، مؤكدةً أن سورية تضمّ نخبة من كبار الملحّنين الذين عملت معهم، ومنهم: نجيب سراج وسهيل عرفة. وعن إمكانية المحافظة على الفنّ الأصيل ترى سلام أنّ الأمر على عاتق الدولة. ففي أيام الفنّ الجميل كانت إذاعة الدولة هي التي تحتضن الأصوات الجميلة وتقدّمها وترعاها، لتكون تلك الأصوات مرآة للدولة. وهذا ما يجب أن يحصل اليوم. فعلى إذاعة الدولة أن تتبنّى الأصوات الجميلة وأصحابها، لأنّ الفنّ يهذّب الإنسان، وهو ثقافة وعلم وغذاء للروح.
كما ترحّب سلام ببرامج الهواة إن كانت قادرة على تقديم الصوت الجميل. لكنها تدعو إلى احتضان تلك الأصوات بعد انتهاء البرامج، لا خلال العرض فقط. وتعود لتؤكد أنّ الفن مرآة الشعوب، فإذا أردت أن تعرف البلد الراقي، اسأل عن الفنّ فيه.
وختمت سلام بالتأكيد على أنها مستمرة في فنّها، إذ سجّلت مؤخراً ثلاث أغنيات في مصر، ولن تتوقف عن الغناء طالما أنّ صوتها بخير.
وعن علاقتها بالفنان الكبير وديع الصافي، لفتت سلام إلى أنهما لطالما كانا كعائلة واحدة. ومعه غنّت «طلّ القمر ورفيقتي طلّت معو». وترى أنّ الصافي لم يكن صوتاً عادياً، ولطالما سمعت إشادات كبيرة به وبفنّه في مصر. ومنه تعلّمت سلام الكثير، وترى في أبنائه خير خلف لصوته فتقول: «يللي خلّف ما مات».
من ناحيته، أشاد عبد الرحمن سلام ـ شقيق الفنانة سلام ـ بالتكريم الذي نالته شقيقته، ونوّه بأنها لم تكرّم فقط لجمال صوتها وتاريخها الفنّي ومسيرتها الغنائية فقط اليوم في سورية، بل وُجّهت إليها دعوة منذ أيام في لبنان أيضاً، من قبل «المجلس الإسلامي الشرعي» لمناسبة عيد الأمّ، لتكرَّم كأفضل أمّ في لبنان. وهذا التكريم لا يقلّ أهمية عن أكبر تكريم من الممكن أن تتلقاه.
وعن وديع الصافي، لفت الإعلامي سلام إلى أنه يعدّ نفسه الشخص الأقرب إلى الصافي، وقال: اسم وديع الصافي الحقيقي هو وديع فرنسيس، وكان والدي في الإذاعة اللبنانية عندما تقدّم الصافي إليها ليحصل على تصنيف مطرب. وهو مَن أطلق عليه لقب الصافي لصفاء صوته، ومذاك انسحب هذا اللقب على كلّ عائلته. هذه الشهرة الحقيقية هي التي تبني للفنان الاسم الصحيح.
وأكد سلام على أهمية دور الإعلام في نجاح الفنان والفن. مشدّداً على دور الإعلاميين في ملاحقة الفنّ الرديء وانتقاده، وعدم تغييب صنّاع الفنّ جميعاً عن الإعلام. ففي عالم الغناء، دور الكاتب والملحن لا يقلّ أهمية عن دور المغنّي الذي يوصل إبداعهما إلى الجمهور. فعندما تنتقد الأغنية، لا بدّ من انتقاد المؤلف والملحّن لنكون على السكة الصحيحة.
من ناحيته، أكّد أنطوان الصافي أنّ نجاح سلام كانت على الدوام جزءاً من عائلة الصافي. وعندما رحل الكبير وديع الصافي برهنت صدق محبّتها، فكانت إلى جانب العائلة على الدوام.
ووجّه الصافي كلماته ومباركته لسلام قائلاً: مبارك تكريمك، إنه تكريم لنا جميعاً. عوّدتنا سورية على تكريم الأوفياء والوطنيين، وهي دائماً عند الوعد، قلبي كبير بوجود كلّ شخص منكم، وأشعر بروح والدي معنا اليوم فرحة بهذا التكريم للسيدة سلام التي تحصد ثمار ما زرعت في حياتها. فهي أمثولة الفنّ، ولطالما شرّفت الفنّ، ونحن كعائلة الصافي نكبر بها، فهي لطالما كانت جزءاً من العائلة وأطلق عليها الفنان وديع الصافي اسم نجاح الذهب، ولقّبها بنجاح الصافية.
وتعقيباً منه على دور برامج الهواة اليوم أعرب الصافي عن أمنيته ممّن يخوض هذه التجارب، ألا يحرق الحقبات بعدها، وأن يخرج منها ليبدأ مرحلة التعلّم الموسيقي، والمرحلة التثقيفية فنياً، لا مرحلة الشهرة المفاجئة.
وختم الصافي حديثه معلناً عن نيّته مشاركة نجاح سلام بأغنية وطنية للجيش العربي السوري.
أما الفنان نظير موّاس فقال: حفلتنا جاءت لتقول إن العيد اليوم صار عيدين، فرحتنا بالذكرى السبعين لجلاء المستعمر الفرنسي عن وطننا الحبيب، وهذا التكريم الكبير الذي شرّفتنا به دار الأوبرا بأداء أغنيات للفنانة الكبيرة نجاح سلام، فلا يكرّم المرء في بيته، والسيدة نجاح اليوم هي في بيتها. الجميل في هذا التكريم أن الماضي يلتقي فيه بالحاضر، فنحن لم نتربَّ على صوت سلام فحسب، بل خُلقنا على هذا الصوت النقيّ كالألماس. وهذا اللقاء هو لقاء بين الإنسان وتاريخه الموسيقيّ، وسلام جزء مهم من تاريخنا الموسيقي الشرقي السوري.
وأضاف مواس: برأيي، الأهم في هذا التكريم أنه تم اختيار المغنية الشابة همسة منيف التي تملك صوتاً قادراً وقوياً يستطيع أن ينقل دفء العبارة والجملة اللحنية التي لطالما ترنّمت بها فنانتنا الكبيرة. ومع أنها المرة الأولى التي أتعاون فيها وفرقتي مع المطربة الشابة منيف، إلا أنني أعتقد أن هذا التعاون ستعقبه فرص كثيرة للتعاون مع صوت سوريّ واعد.
وقال موّاس متحدثاً عن واقع النخب الموسيقية السورية اليوم: إن الواقع الموسيقي في سورية ليس بخير. لافتاً إلى دور دار الأسد للثقافة في احتضان الموسيقى والموسيقيين. موضحاً أنّ هناك ثقافات موسيقية متعدّدة في سورية أُهمِلت على حساب الموسيقى الشعبية، وهذا ما أدّى إلى تهميش الفرق الموسيقية المحترفة على المسارح. ويجب أن ندرك ونفهم أن وجود «الكيبورد» وحده على المسرح أبعد هذه الفرق عن العمل على حساب انفراد «الأورغ» كآلة وحيدة على المسرح ما ساهم في إفقادنا نكهتنا الموسيقية والفنية. وعندما تفقد الثقافة الموسيقية نصبح أقرب إلى الهمجية، ويتحوّل الفن إلى صراخ وزعيق، على عكس فننا القديم كفنّ العتابا الذي قدّمه الراحل الكبير وديع الصافي.