كتاب مفتوح لمن يهمّه الأمر: درس «المنار»… درس العقوبات
ناصر قنديل
– يطرح قرار وقف بث قناة المنار على أقمار صناعية غربية وعربية آخرها نايل سات، وإجراءات تصنيفها منظمة إرهابية، مجموعة من النقاط التي تحتاج إلى الإضاءة بعيداً عن اللغة المستهلكة للحديث عن تضامن، هو إما شعور بالضعف والضيق من أصدقاء القناة ومحبّيها، أو نوع من المجاملة ورفع العتب من الذين لا يشاركونها موقفها، فقد شكلت الحملة التي استهدفت المنار ولا تزال تعبيراً عن نقل حلف الحرب على المقاومة ومحورها للمعركة إلى ساحة يمتلك فيها تفوّقاً واضحاً، وتتيح له تحقيق انتصارات سهلة بلا كلفة حقيقية، مقابل هزائم يمنى بها في ساحات المواجهة العسكرية والسياسية، ولذلك يجب أن نتوقع ما دام حلف الحرب وعلى رأسه واشنطن قد قرّر استثناء حزب الله من خطط التسويات، وجعله العنوان المستديم لحروبه المقبلة، منذ لقاء الرئيس الأميركي باراك أوباما ورئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، قبل ستة أشهر وخروجه بقرار الحرب الشاملة على حزب الله من ضمن الانخراط مع حقائق ما بعد التفاهم على الملف النووي الإيراني.
– يجب القول إنّ المقاومة كمحور، رغم كثافة الحديث عن أهمية الشعوب في صناعة التاريخ، والاستناد إليها وإلى طاقاتها وحضورها في الميادين والساحات في صناعة المعادلات، لم تضع لصناعة الرأي العام المساحة التي يستحقها في الحرب الشاملة المندلعة منذ سنوات بين هذا المحور ومحور الهيمنة والعدوان الذي يقوده المثلث الأميركي «الإسرائيلي» السعودي، وليس الدليل على ذلك حجم القدرات التي يرصدها محور الحرب على المقاومة لهذا المجال، قياساً بما يرصده محور المقاومة من كفاءات بشرية وتحالفات ومنابر وأموال وتقنيات، بل نسبة ما يحتله هذا المجال من القدرات التي يرصدها كلّ طرف لهذا المجال من إجمالي القدرات التي يرصدها الحرب، فإذا لم يكن مستغرباً أن ترصد واشنطن و«إسرائيل» نصف مقدراتهما الحربية على حلف المقاومة لصناعة وتشكيل الرأي العام، مقابل أقلّ من عشرة بالمئة يرصدها محور المقاومة من إجمالي قدراته للحرب كلها، والانتباه إلى أنّ المقارنة أصلاً غير ممكنة بين الإجمالي المرصود هنا والإجمالي المرصود هناك، لنعلم عن تفاوت التفاوت عندما نتحدّث عن الإعلام والحرب الإعلامية وصناعة الرأي العام، حيث يحتشد المفكرون والخبراء ورجال الحرب النفسية وعلوم النفس والاجتماع والفلسفة وشركات الدعاية ووسائل التواصل الاجتماعي وتخصص مئات الأقمار الصناعية ومئات الصحف وآلاف الصحافيين، إلا أنه سيكون مدعاة للاستغراب الحقيقي أن نجد أنّ نسبة ما تخصصه السعودية لمجال صناعة الرأي العام، وهي التي تقودها عقول لا ترقى في مدنيتها ومواكبتها للعصر وضروراته لما يفترض أنّ محور المقاومة يدركه ويتقنه أفضل منها عشرات المرات، فتنفتح على نخب ومثقفين لا يشبهونها وتكفيها شراكتهم بالعداء لمن تراهم أعداءها، وتطلق فضائيات محترفة لمعايير فنية وصناعية ومهنية، وتعرّى فضائيات لا تشبه وهابيتها، وأخرى تفيض عنها تطرفاً ودموية، وتصدر صحفاً من المستوى العالمي وتنفق لصحف ومؤسسات إعلامية غربية وتخصص موازنات لكتاب أعمدة الصحف العالمية الكبرى، من توماس فريدمان إلى سواه من زملائه، ويخصص ملكها صفحة تحمل اسمه على تويتر، لكن المصيبة ستكون وليس الاستغراب عندما نعلم أن تنظيماً حديث الولادة هو «داعش» يكاد يكون القوة السياسية المنظمة الأولى على مستوى العالم في إتقان استخدام التقنيات الحديثة وصناعة الرأي العام، والتحرك عبر شبكات التواصل، وهنا لا تكفي حجة ضعف الموارد، لأنّ السبب هو العقل الذي يدير توزيع هذه الموارد وهي الوقت أولاً والبشر ثانياً والمرونة ثالثاً والمال والتقنيات رابعاً.
– رغم هذا يتفوّق محور المقاومة في الحرب الإعلامية، لأسباب لا تتصل بامتلاكه خطة فاعلة ورؤية فاعلة لكيفية الفوز بالحرب، بل لاستناده على ثلاثة مصادر قوة، هي أنه صانع الحدث بانتصاراته، ما يجعل وسائل إعلام أعدائه تخضع له وتُجبر على معاملته كحدث وخبر وحالة لا يمكن تجاهلها، والثاني أحقية القضية والثالث مصداقية التعامل مع الحقيقة والمعلومة، أما الأهمّ وهو الرابع فيتجسّد بامتلاكه قادة عباقرة وذوي كاريسما مذهلة ومصداقية عالية، يُبهرون بتفوّقهم وحضورهم الساحر مقارنة بالحضور المنفر والبائس والهشّ لقادة معكسر أعدائهم. ويكفي الاستعراض لرموز محور المقاومة من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ووزير خارجيته سيرغي لافروف إلى القيادة الإيرانية من مرشد الجمهورية السيد علي الخامنئي إلى رئيسيها المتعاقَبين أحمدي نجاد والشيخ حسن روحاني ووزراء خارجيتها وآخرهم محمد جواد ظريف، والرئيس السوري بشار الأسد ووزير خارجيته وليد المعلم وصولاً للشخصية المذهلة في تأثيرها لسيد المقاومة السيد حسن نصرالله. وفي المقابل شخصيات يكفي منها الملك السعودي وتلعثمه كلما تكلم ووزير خارجيته الذي صار بتصريحاته مسخرة دبلوماسية متنقلة.
– هذا التفوّق الذي يسمّى علمياً بالفطري، تنبّه له العدو، واسترخى لأهميته أصحابه، وهم على يقين من أنّ الحق والقضية يمنحان مصداقية للخطاب، ولو وضعت في تسويقه وسائل أضعف، فدخلنا حرباً من نوع جديد، هي حرب العقوبات، التي تشبه حرب العقوبات المصرفية وتختلف عنها. تشبهها بأنّ هذا النظام الذي تشتبك معه في الميدان ويقوم على معادلة الحرية، في النشاط المالي والأداء الإعلامي، يقرّر في توقيت معيّن الانقلاب على قوانين اللعبة، ويشرع ما يتيح له حرمانك مما تتيحه منظومته المالية والإعلامية، فتكتشف فجأة أنك تقريباً في العراء، مضطر مالياً لحمل أموالك نقداً لشراء القمح، لأنّ قراراً أميركياً يكفي لملاحقتك مصرفياً حتى في بلدك، وتكتشف أنّ الأقمار الصناعية تقفل أمام قنواتك التلفزيونية، وصورك تلاحَق على شبكات التواصل، وغداً سيمنع بثك عبر الإنترنت، وبعد غد ستقفل حسابات الفايسبوك والتويتر التي تعود لرموزك التي ستتمّ ملاحقتها إسماً إسماً، ورغم كلّ أهمية الانتصارات في الميدان ستحرم من إعادة تشكيل وعي الرأي العام وفقاً لما تعنيه بنسبة كبيرة، وهنا تتساءل هل المسألة مجرد عقوبة ومحاولة للخنق والتضييق، كما هو حال العقوبات المالية والمصرفية، فيكون الجواب بالفرق بينهما، أنّ إعلام المقاومة وخصوصاً «المنار» يفعل فعله في كلّ المجتمعات العربية وعلى مساحة العالم، وأنه ينجح بخلق متابعين ومتأثرين بخطاب المقاومة وقائدها من شعوب وفئات وطوائف وبيئات اجتماعية، لا تشبه الهويات التي يختزنها خيار المقاومة دينياً وطائفياً وعقائدياً، ولولا النجاح لما كان القلق ولا الخوف ولا الحظر الذي يتخطى العقاب ليصير سياسة.
– المقاومة في لبنان هي المعنيّ الأول اليوم بالمبادرة، لخطة تطرح للتداول من موسكو إلى طهران إلى دمشق، لتصحيح مسار الحرب الإعلامية وإعادة النظر بالمعادلة التي تخاض الحرب على أساسها، والخطة هنا ليست انتقال المنار إلى القمر الروسي ولا المناشدات أو مشاريع الالتفاف بحزمة للدولة اللبنانية تضمّ المنار، للعودة عبر نايل سات، بل خطة جبارة عملاقة تليق بالمقاومة وقوتها وما تمثل، تقول إنه من غير الجائز أن يكون الفكر المقاوم رهينة معايير ومقاييس تضعها شركة اسمها فايسبوك، تافهة فكرياً، لكنها تضمّ ملياراً ونصف مليار شخص متصل، وتمتلك وحدها أقماراً صناعية بعدد يفوق ما تملكه روسيا والصين وإيران، ومثلها ومثلها كثير، أليس مدعاة للسؤال، ألا يكون من ضمن برنامج محور المقاومة أن يشغل بدلاً من القمر أقماراً صناعية هي بوابات اقتصادية للاستثمار في أسواق الاتصالات والانترنت، وألا يكون من تشكيلات حضوره مثال للفايسبوك، فيأتي المثال والمنافس من المصدر ذاته، تويتر وأنستغرام ومثلها الكثير؟
– صار النصر مشروطاً بالانتصار في ساحات تقنية الإعلام، وخوض الحرب الإعلامية بمعايير إبداعية جديدة، غير تقليدية، تنطلق من كون الإعلام صناعة يجب أن تخضع لمعايير الصناعة.
– متضامن مع المنار