غزّة والمَحَاوِر
نسيب أبو ضرغم
ما صنعته غزة تحوّل نوعيّ في مسار الصراع مع اليهود في فلسطين. نوعيّة التحوّل تتجسد في ما قدرت عليه المقاومة في غزة من توسيع دائرة نيرانها لتطول عمق «إسرائيل» للمرة الأولى في تاريخ الصراع معها، فعندما تستطيع صواريخ غزة إقفال مرافق حيوية داخل «إسرائيل» مثل المطارات والمرافئ ومحطات الإنتاج النووي وسواها من المواقع الاقتصادية، فهذا يعني من الوجهة الاستراتيجية أن المقاومة انتقلت من مرحلة الدفاع إلى مرحلة الهجوم، وهذا العبور من حالة الدفاع عن النفس وتلقي الضربات إلى حالة مهاجمة أهداف استراتيجية على كامل الرقعة الفلسطينية، أمر يمثل فعلاً استراتيجياً ليس على المستوى العسكري فحسب، بل على مستوى الوعي الجمعي لليهود في فلسطين.
من الخطأ الكبير والسذاجة الزائدة تقوم فاعلية صواريخ المقاومة بما تحدثه من ضرر مادي يقع هنا أو هناك، فجوهر الأمر يكمن في ما يحدثه انهمار الصواريخ في العمق «الإسرائيلي» من انهيارات في الوعي الجمعي، لناحية استيلاد السؤال الوجودي لدى كل يهودي وهو: هل أن الاستمرار على أرض فلسطين أمرٌ ممكن؟
هذا السؤال لا يلغيه حجم الدمار والخسائر البشرية الحاصلة في غزة. لا يلغيه طالما أن آلة الحرب اليهودية لم تستطع إيقاف انهمار الصواريخ، ولا إنقاص عددها. وهذا يعني تصدعاً وجودياً في منظومة الوعي الجمعي لدى اليهود، فإذا كانت غزة بما هي عليه من مساحة ضيقة واكتظاظ سكاني وحصار خانق تعجز الآلة الحربية «الإسرائيلية» عن كسر إرادتها وكسر سلاحها، فما بالك بالجبهات الأخرى؟
ما أردنا قوله ليس التأكيد على الانتصار، فهذا أمرٌ كُتب عنه الكثير، لكن المقصود هو في إبراز الثغرة التاريخية التي رافقت عملية صراعنا مع اليهود في فلسطين. الثغرة، بل أكثر من ذلك، إنها عملية خروج القضية على محورها الطبيعي وهو المحور القومي، وجعلها تدور حول محور آخر، بل محاور أخرى، كانت دائماً تنزل بفلسطين وقضيتها الخسائر والهزائم، عن وعي أو غير وعي، فلنرَ إلى عظمة ما صنعته المقاومة في غزة، وهو يؤسس لمسار من الصراع لا بد من أن ينتهي بالنصر، لو كانت القضية تدور على محورها الطبيعي.
تشظت فلسطين وقضيتها يوم أصبح قرارها في يد المحور المصري أو السعودي عام 1948، ودفعت فلسطين ثمن صراعات هذه المحاور، بل كانت هي بعض ثمن قبضته هذه المحاور من خلال تآمرها على فلسطين.
ما نراه اليوم هو تكرار لما حدث في الأمس. انظروا إلى النصر كم هو عظيم، وعودوا وانظروا إليه كيف يلقى غنيمة فوق طاولة الوسطاء المحاور . المحور التركي ـ القطري يقارب الموضوع من وجهة مصالحه، كما يفعل المحور السعودي ـ المصري، ولا أحد من المحاور كافة يقارب الموضوع على قاعدة مصلحة تحرير فلسطين.
المصري يجلس إلى الطاولة واضعاً كمب ديفيد في يديه، والسعودي يشارك بعقل بدوي ذي أفق لا يتعدى حكم آل سعود لجزيرة العرب، كائناً مَن كان الداعم لهم، وهم في أيّ حال أقسموا على لسان والدهم بأنهم سيحمون «اليهود المساكين». أما التركي والقطري فليست القضية الفلسطينية عندهم غير سلعة يحاولون أن يكسبوا من المتاجرة بها. إذ كيف يعقل أن يكون القطري مخلصاً لفلسطين وتلف بلده قاعدة أميركية؟ وكيف يمكن للتركي أن يكون مخلصاً لفلسطين وهو جزء من الحلف الأطلسي؟
لأجل تنفيذ مؤامرة «الربيع العربي»، دفعت قطر والسعودية بنزف بدوي إلى عقد الجامعة العربية، وبالتالي إخراج سورية الدولة المؤسسة من الجامعة. ذلك كلّه بإيعاز من المعلم الأكبر. أما غزة وما حل بها فلا تستأهل من هذه العواصم القاهرة ـ الدوحة ـ الرياض ـ عمان… انعقاد الجامعة العربية، ويبدو أن القضية لم تَعُد قضية تحرير فلسطين، أو حماية ما تبقى منها، بقدر ما هي قضية حكم إيديولوجيات، وهذا هو انتصار «إسرائيل» الاستراتيجي، إذ استطاعت بالاشتراك مع الولايات المتحدة الأميركية أن تقلب المعادلة فتصبح حكم الأيديولوجيا وليس تحرير الأرض، لكأن الشعوب للمبادئ وليس المبادئ للشعوب. احكموا من رأس طنجة إلى رأس الخيمة بإيديولوجيتكم، ولكن إياكم المساس بـ«إسرائيل» أمناً ومصالح…
أنا لا أفهم كيف يمكن لحماس أن تترجم انتصارها الاستراتيجي في غزة إلى معادلة سياسية واقتصادية وأمنية بحجم هذا الانتصار، ورئيس مكتبها السياسي يقيم في الدوحة. أخشى على انتصار حماس في فلسطين، وفصائل المقاومة كافة، ان يتهاوى في القاهرة والدوحة والرياض.
إذا لم تعد القضية الفلسطينية إلى محورها الطبيعي، إلى المحور المقاوم، فسوف تبقى عرضة للمتاجرة بها، وبكل ما ضحاه الشعب الفلسطيني والشعوب العربية لأجلها. من لا يجرؤ على فتح معبر، هل سيجرؤ على الضرب بيده على الطاولة في بوجه اليهودي ليحمي حق شعب فلسطين؟
والذي تعهد أباً عن جد بحماية «المساكين اليهود» هل سيجرؤ على اتخاذ خطوة واحدة في اتجاه حماية «مساكين فلسطين»؟ والذي أصبحت لقاءاته مع تسيبي ليفني متقدمة على سائر الحقوق، هل سيقدم على أي خطوة تترجم هذا الانتصار الغزاوي؟
محور القضية في مدى سورية الطبيعية، في مدى دمشق التي آوت يوم شرد الجميع، ودمشق التي سلحت يوم امتنع الجميع، ودمشق التي صمدت في وجه الموج البربري ـ المغولي يوم تهالك الجميع… هي عينها دمشق القادرة أن تحوّل هذه الانتصارات إلى حقائق سياسية وأمنية واعدة بمستقبل مشرق على كامل فلسطين.
من يسترجع غزة من المحاور… إلى المحور؟